مسؤولية التناصح وأساسها في الإسلاممقالات

السيد محمد أبو المجد

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 13، السنة الثانية، محرم 1386هـ

 

إن الأمة الرائدة التي تتفوق على مثيلاتها حضارة ورقيًّا ومنزلة مرموقة بين الأمم هي الأمة التي يسود بين أفرادها ظاهرة التوجيه والتوعية والتناصح الصريح المضيء الذي تتفتح له القلوب، فيشيع بين جوانبها عظمة الله وتنزيهه ويرفع مستوى النفوس فتطلب إن هي طلبت معالي الأمور، وتترفع عن سفاسفها، وتنشد المثل الأعلى، وتتجمل بالمروءة وتشعر بعظيم التبعة التي من شأنها تنظيف المجتمع من المداهنة والمواربة والتصنع فيفعل المرء في السر ما يفعله في العلانية، ويملؤه الشعور بأن الله خالقه، وبأن الله يراه، وبأن الله يأمره وينهاه فيأتي ما يأتي من الخير ويذر ما يذر من الشر، لا رغبة ولا رهبة ولكن حبًّا في الله ومن أحب امتثل وأناب وأطاع، وما أجمل ما صور الشاعر من صورة تترقرق في جوانبها تموجات الطاعة الصريحة والامتثال الشجاع الطليق.

تعصي الإله وأنت تزعم حبه ** هذا محال في القياس بديعُ

لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيعُ

إن ظاهرة التوعية والتناصح الرشيد إن صدرت عن قلب تنظفت مضغته من الهوى الدنيوي، وتبرأت من جمحات الطموح الشخصي انعطفت إليه القلوب، وخلق من حوله الحواريين والأنصار، ولو استدرنا عبر التاريخ نسأله ونستفتيه لأرانا أرباب الدعوات وكأن الفرد منهم أمة وحده، بخطو قانتًا لله حنيفا فيقتحم ظلمات القلوب ويستل سخائمها، ويقشع ضبابها، ولا يتركها حتى يجعل منها موئلًا للحق، وكوكبًا دريًّا يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور.

إن ظاهرة التناصح لا تنبت في أرض سبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها ولكنها تنبت في أرض لم تمت عليها عزة المؤمنين، ولم ينقطع بها الدرب لأنها تاهت بين ركائز الاستعمار وفساد الحكم وبؤس الفقراء وتعطيل طاقات الشعب تحت وطأة الامتيازات الطبقية فلا يستشعر أفراده جسامة المسؤولية العامة التي لا تسأل الفرد عن نفسه إلا وتسأله في الوقت ذاته عن أخيه، وعن أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل وترتفع المسؤولية في الإسلام إلى مستوى عظيم تتجاوز فيه الإنسان إلى الحيوان والنبات فالجماد.

وما أمر المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها فمنعتها عن أن تقوت نفسها بخشاش الأرض ولم تهيء لها في محبسها لا طعامًا ولا شرابًا، ما أمر هذه المرأة ببعيد عن القارئ العزيز لا سيما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفت الأنظار إليه وشد النكير عليه، وهنا يتدخل القرآن المجيد ليرسي قواعد المجتمع وركائزه على أساس راسخ مكين عن طريق التحريض البالغ أثره في النفوس ليأخذ الناس بعضهم بعضا بالتواصي بالحق فيقول وقوله الحق مهددًا موعدًا أولئك السلبيين الذين يقفون من الأمراض الاجتماعية وقد استشرت واستترت تحت أقنعة علمية أو فنية ففتنت ببريقها، وخدعت بسرابها، وهدمت من بعد ذلك أقوى اللبنات في صرح المجتمع الرشيد العتيد مما جعل القرآن يواجه هؤلاء وجهًا لوجه ملقيًا إليهم هذه الآية التي هي ان فضحتهم فلا تترك لهم مجالًا للخلاص يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.

إن المسؤولية العامة التي نادى بها القرآن المجيد ليست منبثقة إلا من نواميس المجتمعات الراقية المتحضرة، وليست إلا مولودة من مواليد الفطرة البشرية، وليست إلا جانبًا حيويًّا خطيرًا من جوانب الحياة الحقيقية حياة القلوب والأرواح، حياة الأمن والرخاء، والحياة العزيزة الكريمة للأمم جمعاء، ومن يمن هذه المسؤولية العامة التي جعلها القرآن ناموسًا من نواميس المجتمع، ومرآة يرى فيها الفرد نفسه إذا ما أغطش الغرور طريقها فانحرفت، وعميت عليها السبل فانجرفت إلى قرار سحيق.

ومن يمن هذه المسؤولية أنها تنير البصيرة وتهب صاحبها احساسًا يميز به بين الحق والباطل، ويهديه سواء السبيل، وما أصدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه علمًا بمجريات الفطرة البشرية وأساليب استوائها على نهج صادق رشيد إذ يجعل التناصح هو الدين كله فيقول: ((الدين النصيحة)) قالو لمن يا رسول الله، قال: ((لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وما قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالتناصح على هذه الصورة المانعة الجامعة إلا باعتباره أصلًا من أصول الدين، وركنًا من أركانه، وترسًا من تروس دولابه؛ إن تحطم استجابت له بقية التروس بالتحطيم، وما قول الرسول إلا انعكاسًا صادقًا لهذه السورة التي على قصرها وإيجازها تقيم ميزان الدنيا على سمعتها واختلاف أقاليمها، وهي تناشد المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها بما يتسمون به من وصف الإيمان أن يلتزموا حدود الطاعة وأن يستجيبوا لدعوة الله فيتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر، وحسب هذه السورة فعالية في تمتين روابط المجتمع وتنقيته من الشوائب والادواء أن الإمام الشافعي قال فيها بعد أن سبر اغوارها وأحاط علمًا بجوانبها وهو القرشي المضيء عقلًا وروحًا، لو عرفها المسلمون لكفتهم قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

وإن ما تبديه هذه السورة من بارع اللمحات في بناية الصرح الاجتماعي أنها كانت تقليدًا من تقاليد الصحابة رضي الله عنهم، فكان لا يفترق بعضهم عن بعض إلا وهذه السورة تختتم مجالسهم وآخر ما يصدر عن قلوبهم عهدًا وميثاقًا.

إن المسؤولية العامة التي جعلت من كل فرد حكومة يسأل نفسه ويسأل أخاه عبر عنها الإسلام تعبيرًا لا تسلط فيه ولا جبروت، ولا انتقاصًا لقدر أو غضبًا من قيمة، ولا غضاضة منه حتى يبقي على النفوس عزتها، وعلى الآدمية كرامتها فجاء تعبيره عن المسؤولية مرغبًا فيها لا منفرًا منها، وداعيًا إليها فأسماها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقد تولى القرآن المجيد إبرازها، وطلب من القادرين عليها إقرارها، وعلق عليها وحدها أمر استقرار الشعوب وفلاحها فقال وصدق الله العظيم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

والقرآن المجيد يتابع المسؤولية في أكثر من موضع، ويتناولها من مظانها تنويهًا بأثرها في تقييم المجتمع، وجعلها شأنًا من شؤون المسلمين، وأثرًا من آثار إيمانهم أقيمت به ولاية المؤمنين بعضهم على بعض فقال عزوجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

فلننظر، ولنتابع النظر في هذه الآية التي أوردت بعض الواجبات صراحة، وقد وضعها الله وهو أعلم بمن خلق، وضعًا نحتاج معه إلى روية وتدبر نكسف معهما كيف أن الله قدم في الآية الكريمة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وجعل لهما الصدارة لفتًا لذوي العقول والأبصار، إن تحقيق المسؤولية العامة ينبثق أولًا بالذات من هذه الركيزة الاجتماعية التي تعتبر أمًا لجميع الركائز، وأساسًا لكل القيم، ولعظيم أمومتها وجلال خطرها كانت قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فهي منطلق الخير جميعًا، وأن ما يوحى به وضع الآية بهذا الأحكام لأمر إن وعته النفوس انطلقت إليه ممعنة في نواله مهما بذلت أو شقيت، أن الآية تهيب بالفرد أن يطامن من أنانيته، وأن يجعلها تغوص في القاع من أعماقه، وأن يقول أخي وأنا بدلًا من أن يقول أنا وحدي لأن طلب الشخص الخير لنفسه أبعد من أن يقع عند الله موضع القبول إلا إذا دعا الناس جميعًا إلى ما يريد لنفسه من خير، وما ينتظر لها من زكاة ومعروف فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولا يشد بنيان المجتمع بعضه إلى بعض ويسد ثغراته إلا التواصي بالحق ووضع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) موضع التطبيق والتنفيذ.

هكذا فهمَ المسلمون الأولون مبدأ المسؤولية العامة فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وقاموا بواجب التناصح والإرشاد والتوعية، فنصح عالمهم جاهلهم، وأرشد كبيرهم صغيرهم بل لقد نصح الصغير الكبير ونصح المرؤوس الرئيس، ونصح المحكوم الحاكم، وتقبل الجميع من الجميع، وظلوا كذلك متعاونين على البر والتقوى فاستقامت لهم الشؤون وتقدمت بهم الحياة وقادوا العالم، وأقاموا الحضارة، وحفظوا تراث الإنسانية من الضياع.

فلما نبتت معهم على طول الطريق نابتة الشهوة، وانفتحت عليهم الأرض والسماء بما يحملان من كنوز وعطايا فغرقوا في بلهنية من العيش والرخاء والنعيم، وأتتهم الدنيا بما زينت لهم وأرتهم ما يتنافسون عليه ويتكاثرون به، وأعطتهم حلواءها، وسقتهم صنوفًا من الجاه والرياسة سلبتهم سلطة القلب، وسلطة الروح، وسلطة الضمير، وجعلتهم كالدمى إن أغرك مظهرها لا ترضيك حقيقتها، وأطفأت بين جنوبهم نور التقوى، وخذلت في لهاتهم كلمة الحق لتفتح الطريق إلى لقمة العيش، وفرقت كلمتهم، وفتحت عيونهم وأعمت بصيرتهم، وأضاعت أمرهم بعد أن أضاع بعضهم أمر بعض، وحلت عراهم وربطت شهواتهم، وأوجدت الفرد منهم وأضاعت جميعهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} وانصرف الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أولئك الذين أخذوا على عاتقهم أمر هذه التبعة الاجتماعية وانقطعوا لإحيائها وترغيب الناس فيها تفاديًا من غضب الناس الذين أصبحت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة أو استبقاء على منصب أو استدرارًا للقمة عيش، وانطوى المجاهدون على أنفسهم يحوقلون ويقولون (وليسعك بيتك) مكتفين بقولهم فسد الزمان (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل) وكأني بالقرآن الكريم يتغلغل مع النفوس البشرية إلى جذورها ويتوقع لها هذا الانخذال في الطريق، وأن كثيرًا من الناس سيتخلى عن رعاية هذه الظاهرة الاجتماعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الظاهرة التي أودت بمصير الأمم من قبلنا، والتي قص القرآن علينا طرفًا من أخبارها حين أغفلت التناصح بين أفرادها وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استثارة لنفسية المجاهدين وحرصًا على ألا يتسرب اليأس إلى قلوبهم، فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

ولما اندثرت ظاهرة التواصي بالحق تولدت بديلًا منها ظاهرة التعالي التي تنكر عليك كلمة الحق تبديها، أو منهجًا خاطئًا ينتهي بالسائرين فيه إلى متاهة تلتبس فيها السبل، وتعالى الرئيس على مرؤوسه، فلا يسمع منه ولا يلقى باله إليه، ولا يضع حتى رأي مرؤوسيه موضع المناقشة والحوار، وأنه هو وحده الذي بيده مقاليد الفكر والرأي والتوجيه كأن به عنجهية امرئ القيس حين يقول متبجحًا:

ما يملك الناس منا حين نملكهم ** كانوا عبيدًا وكنا نحن أربابا

وانتشر المرض في صفوف المسلمين جميعًا فلا يسمع صغيرهم لكبيرهم، ولا يسمع كبيرهم لصغيرهم، وزحف هذا المرض إلى غرف الدراسة نفسها فأفسد الجيل وخلق فيهم روحًا متمردًا في مواجهة الرواد الذين يعطونه خلاصة تجاربهم، ويقدمون لهم أفاويق المعرفة ليحملوا من بعدهم عبء ما حملوا، فضاع أمر المربين وانزوى بيت شوقي الخالد المضيء منطويًا على نفسه.

قم للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا

ومما صح عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه في توجيهاته النبوية وقد أخذت الدعوة الإسلامية أهبتها للتطبيق في نشأة المجتمع الإسلامي الوليد، تحديثه عن مجتمع عبرت به الأيام وقد انهارت قوائمه، واندثرت معالمه حين توالدت بين أفراده هذه الظاهرة السلبية التي تتكرر في كل وقت وتطل برأسها بين حين وحين حتى إذا ما غلظت واشتدت واستوت على سوقها لم تترك مرفقًا من مرافق المجتمع إلا ملأته بجراثيمها، وامتصت منه فعاليته وايجابيته، ومما أوردوه في هذا المقام هو أن (لما وقع بنو إسرائيل في المعاصي ودخل النقص عليهم في دينهم نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ولم يمنعهم العصيان عن مخالطتهم، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ففرق كلمتهم وشتت شملهم) وتلا عليه السلام قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

هذا ويجب ابراز أمرين اثنين كانا أبدًا ودائمًا وما يزالان مثار لبس، ومدار تساؤل، وداعية استفتاء واستفسار، أولهما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما كانا يومًا من الأيام احتكارًا لطائفة دون أخرى ولا وقفًا على أناس غير آخرين، وإنما هو أمر مفروض على كل من يتعرف إلى المعروف أنه أهين أو انزوى أو أهمل أو انعزل عن مجالات الحياة والسلوم والتعامل، وأن المنكر قد احتل مكانة واعتادته النفوس فلا تغضب لحق اهتضم ولا تثور لظلم ارتكب، ولا تهب مدافعة حتى نقضي عليه وليس ثمة من إنسان حتى لو كان متبديًا لا يعرف المعروف بفطرته أو يتعرف عليه ان شاء، وثاني الأمرين أن المعروف والتواصي على الأمر به، وأن المنكر والتواصي على النهي عنه، أمر مستقل بذاته لا يغني عنه في مقامه صلاة أو صيام أو زكاة، فرعاية الأسرة وحياطتها وتوافر الضمانات لها، وتنشئة الأبناء تنشئة تتوازن بها شخصيتهم وينبثق شبابهم عن نفوس تعرف كيف تتحمل التبعات، وكيف تشق طريقها مستعينة بالله، مستمدة من هداه وكلمة حق ترد بها ظالمًا أو تشد بها آزر مظلوم، ورعاية مصالح الناس وتبصيرهم بأسلوب قضاء حوائجهم وإفساح المجال لذوي المواهب أن يتصدروا الصفوف الأولى، أو ليس ذلك كله معروفًا أو ليس الإغضاء عنه والتنكر له منكرًا وزورا.

ولو علم القادة والرواد والمربون، وكل من يتصدى لقيادة الشعوب أو يحمل أمانة توجيهها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهم أشد لزومًا وأعظم وجوبًا حتى يرتفع إلى مستوى منازلهم وما يلون من مناصب أو يحرزون من جاه، لو علموا هذا لعرفوا أن الإسلام يشدد النطاق حولهم لأن الفساد الذي لا يمكن اتقاؤه، والفتق الذي يصعب رتقه هو ذلك الفساد الذي ينبثق من القمة وينحدر إلى السفح، وقد جعله القرآن وسيلة من وسائل انتقام الله وغضبه حيث يقول الحق: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

وبعد:

فإن مسؤولية التناصح قد اشتقت وجودها من الأخوة الإنسانية وعلت صيحتها في الناس من صيحة الإيمان العليا، فهي وحدها لها الحق في أن تنادي في الناس بالآية الكريمة التي تسرد من القيم الإنسانية والاجتماعية ما يكفل وجود المجتمع المثالي الرشيد، وما يحقق أحلام الفلاسفة الذين أتعبوا رئتهم وهم يصيحون بالعالم الأفضل والغد الأسعد.

يقول الله وهو أصدق القائلين: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.