المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 16، السنة الثانية، ربيع الثاني 1386هـ

إذا نظرت إلى خريطة آسيا فقد تسترعي انتباهك عدة نقط سوداء دقيقة، متشابكة كالسلسلة، ممتدة من الشمال إلى الجنوب في المنطقة الواقعة جنوبي غرب (سيلان) من المحيط الهندي، ولعلك تظن لأول وهلة أن هذه النقط الدقيقة ما هي إلا نقط حبر سقطت سهوًا من قلم الرسام، ولكنك سرعان ما تراجع نفسك فتدرك خطأ هذا الظن، لأن أية نقطة في الخريطة مما بلغت ضالتها، فسوف تقابلها في الطبيعة عشرات الأميال من الأرض، وإذا أمعنت النظر في هذه النقط الدقيقة المتشابكة وجدت بجانبها كلمتي (جزر المالديف) مكتوبتين بخط رفيع.

جزر المالديف؟! أغلب الظن أن لم تسمع عنها من قبل، ولكنك قطعًا سمعت عن ابن بطوطة الرحالة العربي الشهير، الذي طاف ببلاد الشرق في القرن الرابع عشر الميلادي، لقد زار ابن بطوطة أثناء رحلته الشهيرة جزر المالديف أيضًا، ولكنها لم تكن زيارة عابرة، فقد تزوج منها، ومكث فيها مدة من الزمن، تولى خلالها منصب القضاء، ثم كتب عنها يقول: إنها تشتهر بالجمال الطبيعي الساحر، والهدوء الشامل.. ووصفها بأنها إحدى عجائب الدنيا السبع.

فما هي قصة هذه الجزر التي أعجبت ابن بطوطة إلى هذا الحد؟.

1000 جزيرة في أحضان المحيط

تقع جزر المالديف على بعد (650) كيلومترًا من الشاطئ الغربي لسيلان، وتشغل في المحيط الهندي مساحة طولها (750) كيلو مترًا، وعرضها في أوسع الأماكن (115) كيلو مترًا.

وتتكون المالديف من أكثر من ألف جزيرة ((عددها بالضبط 1087 جزيرة حسب إحصاء دقيق قامت به الحكومة في العام الماضي)) غير أن عدد الجزر الآهلة بالسكان لا يزيد على (215) جزيرة، وبقية الجزر خالية يستغل بعضها في إنتاج المحاصيل الزراعية، والبعض الآخر في إنتاج الأخشاب.

وهذه الجزر رملية مرجانية لا توجد فيها جبال ولا أنهار، وهي بالغة الصغر بصفة عامة، فأصغرها لا تزيد مساحتها على الكيلو متر المربع الواحد، وأكبرها لا يزيد طولها على سبعة أو ثمانية كيلومترات، ولا يزيد عرضها على نصف هذه المسافة، ومن الطبيعي أن تقف وسط إحدى هذه الجزر وتنظر حواليك فترى البحر من الجهات الأربع من خلال الأشجار والمنازل، وتغطي كل الجزر غابات كثيفة من الأشجار الاستوائية الضخمة ونخيل جوز الهند الشائقة.

وجزر المالديف تنقسم طبيعيًا إلى (13) مجموعة، تفصل بينها بحار متسعة نسبيًا، ولكنها مقسمة سياسيًا إلى (19) مجموعة لاعتبارات إدارية رأتها الحكومة، وعلى رأس كل مجموعة حاكم أو محافظ معين من قبل الحكومة، يدير كل شؤونها، ووسيلة المواصلات بين الجزر هي الزوارق البخارية والمراكب والقوارب الشراعية المصنوعة محليًا.

بلاد السمك:

والاسم الذي تعرف به هذه الجزر الآن هو جزر المالديف Maldive Islands، وكان ابن بطوطة يسميها في كتاباته (ذيبة المهل) وكانت الدوائر الرسمية المالديفية إلى وقت قريب، تستعمل اسم (محلديب)، فما هو سبب هذا الاختلاف، وما هي التسمية الصحيحة؟.

الواقع أن الأسماء الثلاثة محرفة عن الاسم الأصلي لهذه الجزر فاسمها الأصلي هو ((مالديب)) وهو مكون من كلمتين باللغة السنهالية (وهي اللغة التي يتكلم بها أهل سيلان، والتي كان يتكلم بها المالديفيون الأوائل) وهاتان الكلمتان هما ((مال)) ومعناها سمك، و ((ديب)) ومعناها بلد، فمالديب معناها بلاد السمك، وقد سميت بهذا الاسم لوفرة الأسماك في بحارها.

ويبدو أن ابن بطوطة حاول تعريب هذا الاسم، فقدم المضاف على المضاف إليه كما تقتضيه القواعد العربية وسماها ((ذيبة المهل)) أما ((محلديب)) فهي محاولة من المالديفيين بعد اعتناقهم للإسلام وتعلقهم باللغة العربية لتقريب اسم بلادهم من النطق العربي.

وأما ((مالديف)) فهي التسمية الإنجليزية لهذه الجزر، وقد انتشر استعمالها الآن بصورة أدت إلى هجر الأسماء الأخرى.

جنة عائمة:

وجزر المالديف من المناطق التي تتجلى فيها مظاهر الإعجاز الإلهي، فهي -كما قال ابن بطوطة- آية في الجمال الطبيعي، وقلما يوجد له مثيل في أية بقعة أخرى من العالم.

ولو قدر لك -أيها القارئ- أن تحلق فوقها في طائرة، لبهرك منظر قد لا تقع عيناك على أروع منه في هذه الدنيا.

بساط أزرق لا نهائي تلمع في ثناياه أمواج هادئة كذرات من فضة ذائبة، وجزر قد تناثرت هنا وهناك وكأنها درر صغيرة، وهي شديدة الاخضرار في الوسط، يقل اخضرارها تدريجيًا كلما اقتربت من الشواطئ، وينتهي بحلقة ناصعة البياض تلف الجزيرة الخضراء -هي رمال الشواطئ الناعمة- ثم حلقات من الماء تحيط بها من كل جانب يتغير لونها كلما بعدت عنها، خضراء فاتحة، فخضراء قاتمة، فزرقاء تشتد زرقتها تدريجيًا حتى تندمج في المحيط القاتم الزرقة.

ثم مناظر شروق الشمس وغروبها التي تشاهد في المالديف بألوانها المتعددة الباهرة، ولياليها المقمرة بسحرها الفياض، وشواطئها البديعة برمالها البيضاء الناعمة، ومياهها الصافية الخضراء، وأشجارها المورقة بثمارها الاستوائية الشهية، وزهورها البرية المختلفة الألوان بأريجها الذكي المنتشر في كل مكان، وجوها المعتدل الرائع طوال العام بشمسه الدافئة وهوائه اللطيف المنعش، تلك من الأشياء التي لا يمكن أن تنسى.

وقد زارها الكاتب المصري المعروف الدكتور حسين فوزي وأعجب بها لدرجة أنه سماها جنة الله في أرضه، وقال أنه يتمنى لكل إنسان لو استطاع أن يزور هذه الجنة العائمة، ولا أعتقد أن الدكتور حسين فوزي يبالغ في وصفه للمالديف، فهي جميلة حقًا، ورائعة حقًا..

مياه عذبة وسط البحار:

وجزر هذا الأرخبيل قد رتبتها يد القدرة الباهرة ترتيبًا عجيبًا، يجعل من العسير على السفن الأجنبية أن تسير في مياهها بلا معونة المرشدين المحليين، وكثيرًا ما يصادف مثل هذه السفن مياهًا ضحلة أو ترتطم بصخور، ويضطر ملاحوها إلى هجرها وسط الأمواج، وفي هذا يقول ابن بطوطة ((فمجموعة هذه الجزر مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب، لا تدخل المراكب إلا منه، وإذا وصل المركب إلى المدخل فلا بد من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر، وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى، فإن أخطأ المركب في سيره لم يمكنه دخولها، وحمله الريح إلى خارجها)) وهذا الكلام ما زال صحيحًا إلى الآن.

ومن المظاهر التي تتجلى فيها القدرة الإلهية في المالديف أيضًا، أن مياه الشرب التي تستخرج من الآبار الارتوازية هناك مياه عذبة غاية في النقاء، لا أثر فيها لملوحة على الإطلاق بالرغم من أن مساحة الجزر غاية في الصغر، يحيط بها البحر المالح من كل جانب {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}.

ومن تلك المظاهر كذلك أن هذه الجزر -رغم وقوعها في أحضان المحيط الهندي العاتي- لا تتعرض أبدًا لأعاصير أو عواصف أو أمواج عالية، أو غيرها من ثورات الطبيعة التي تتعرض لها الجزر الأخرى والمناطق الساحلية، وأن أهل المالديف ليحمدون الله كثيرًا على نعمه المتعددة ورحمته الواسعة.

وجزر المالديف يسودها النظام الملكي، والملك لا يرتقي العرش بالوراثة، بل ينتخبه الشعب ويظل ملكًا مدى الحياة إلا إذا ارتكب ما يوجب عزله طبقًا للدستور. والملك الحالي هو الملك محمد فريد الأول الذي انتخب ملكًا على البلاد في عام 1954. والملك في المالديف رمز على سيادة الدولة ووحدتها، فالسلطات التنفيذية تتركز في يد مجلس الوزراء الذي يضع السياسة العامة للدولة، ويباشر تنفيذها باسم الملك. ورئيس وزراء المالديف الآن هو السيد إبراهيم ناصر الذي تولى الحكم عام 1956، وكان في ذلك الوقت أصغر رئيس وزراء في العالم، إذ كان عمره حينذاك 28 سنة فقط، وقد تكرر انتخابه مرتين بعد ذلك بسبب مواقفه الحاسمة ضد الاستعمار البريطاني مما أكسبه ثقة الشعب وحبه. ومجلس الوزراء مسؤول أمام مجلس الشعب (البرلمان) الذي يتولى السلطة التشريعية، ويتكون مجلس الشعب من 54 عضوًا منتخبين يتم انتخابهم مرة كل خمس سنوات.

العاصمة ذات المساجد:

وعاصمة المالديف هي جزيرة ((مالي Male)) وفيها مقر الملك والوزارات وكل المصالح الحكومية، وتقع مالي في وسط الأرخبيل تقريبًا ويبلغ تعداد السكان فيها حوالي (15) ألفًا[1]، وهي مدينة صغيرة أنيقة، شوارعها بيضاء نظيفة، وبيوتها فيلات جميلة تحيط بكل واحدة منها حديقة مليئة بالنباتات الاستوائية، ولعل مما يدل على تعلق أهلها بالدين أنه يوجد فيها (39) مسجدًا رغم صغر مساحتها.

وتوجد أمام (مالي) الميناء الرئيس للمالديف الذي ترسو فيه البواخر التي تسير بينها وبين سيلان والهند والباكستان وغيرها من الدول، وتقع على بعد 3 كيلو مترات من العاصمة ((جزيرة هولولي)) التي افتتح فيها أول مطار مدني في المالديف، في شهر أبريل الماضي، وينتظر أن تهبط فيه طيارات الشركة العالمية التي تعمل بالمنطقة.

العضو رقم 117 في الأمم المتحدة:

وجزر المالديف دولة مستقلة ذات سيادة، وقد نالت استقالها التام في يوم 26 يوليو 1965.

وكانت بريطانيا قد فرضت حمايتها على المالديف في ديسمبر 1887 بموجب رسالتين متبادلتين بين السلطان محمد معين الدين الثاني، وبين السير آرثر هاملتون جوردون الحاكم العام البريطاني في سيلان، وقد حرصت بريطانيا على أن تذكر في كل الاتفاقيات اللاحقة أن فرض الحماية كان استجابة لطلب السلطان، غير أن الوثائق التي اكتشفت حديثًا أثبتت كذب هذا الادعاء، وأوضحت أن السلطان قد أكره على قبول الحماية تحت التهديد بالاحتلال.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن هذه الحماية طوال فترة استمرارها من عام 1887 إلى عام 1965 كان لها وضع متميز خاص، فلم يكن لبريطانيا في المالديف في أي وقت من الأوقات حاكم ولا مندوب سام، ولا أي مسؤول آخر من جهتها يباشر السلطة الفعلية، وإنما كان يحكم المالديف أبناؤها، فالحماية لم تكن إلا نوعًا من التبعية القانونية التي حدت من حريتها في التعامل مع الدول الأخرى، ولم تقاس المالديف من ويلات الاستعمار كما قاست الدول الأخرى.

وبعد أن نالت المالديف استقلالها بمقتضى الاتفاقية التي عقدت بين الطرفين في يوم 26 يوليو سنة 1965، انضمت للأمم المتحدة في شهر سبتمبر من نفس العام، فأصبحت العضو رقم 117 في الهيئة الدولية.

وبعد حصول المالديف على الاستقلال، يثور سؤال حول مستقبل القاعدة البريطانية بجزيرة ((جان)) (إحدى جزر المجموعة التاسعة عشرة) وهي القاعدة البحرية والجوية التي أنشأتها بريطانيا هناك عام 1956، ولا أعتقد أن بقاءها حتى نهاية مدتها في عام 1986 أمر مؤكد، نظرًا للتيار التحرري القوي الذي يسود المنطقة كلها، وحرص المالديف على التخلص من كل ما قد يكون له أثر في المساس بحريتها التي نالتها بعد طول حرمان.

بلاد إسلامية 100%:

يبلغ عدد سكان المالديف 100 ألف نسمة[2]، وكلهم مسلمون، ولعل المالديف هي الدولة الوحيدة التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 100% والشعب المالديفي شديد التمسك بأهداب الدين، وحريص على تنفيذ تعاليمه وأحكامه، ومن الطبيعي أن تنعكس آثار هذا على القانون المالديفي، فالدستور لا يسمح لغير المسلمين بالإقامة الدائمة في المالديف، والإفطار بلا عذر شرعي يعتبر جريمة يعاقب عليها قانونًا، كما أن استيراد المشروبات الروحية أو صناعتها ممنوع منعًا باتًا، ومع أن صيد السمك هو مصدر رزق أغلب السكان فإن الخروج إلى الصيد صباح يوم الجمعة ممنوع خوفًا من فوات صلاة الجمعة.

الابن الذي يشبه الزهرة.. أول من أسلم:

أما كيف دخل الإسلام هذه الجزر النائية، فتلك قصة تدل على ما يتمتع به الإسلام من وضوح وبساطة وسلامة عقيدة تجتذب الناس إليه اجتذابًا، وبطل هذه القصة أحد الدعاة الذين وهبوا أنفسهم لله، وكرسوا جهودهم لنشر دينه وتبليغ دعوته إلى الشعوب التي لم تبلغها بعد، واسمه الشيخ الحافظ أبو البركات يوسف البربري، وهو من بلاد المغرب.

فقد وصل الشيخ الجليل إلى المالديف في منتصف القرن السادس الهجري، مع بعض التجار العرب الذين كانوا في ذلك الوقت يقومون برحلات تجارية منظمة بين الجزيرة العربية من جهة، وبين موانئ الهند وسيلان والمالديف من جهة أخرى.

وعندما نزل الشيخ أبو البركات إلى العاصمة ووجد أهلها على الديانة البوذية طلب مقابلة السلطان، فلما حضر بين يديه دعاه إلى الإسلام، ولكن السلطان أبى في أول الأمر أن يترك دين آبائه وأجداده، غير أنه قربه إليه وأكرم وفادته، وما زال الشيخ يعرض عليه الإسلام في كل فرصة تسنح له، وما زال يجادله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى شرح الله صدره للإسلام فأسلم على يديه وأمر الشعب باعتناق الإسلام.

وكان ذلك في اليوم الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 548ه (1153م). وهناك قصص كثيرة شبيهة بالأساطير، يتناقلها الناس في المالديف تصف كرامات كثيرة خارقة، يقال أنها ظهرت على يدي الشيخ أبي البركات حتى اقتنع السلطان والأهالي وآمنوا جميعًا، ولا توجد أدلة تاريخية تؤكد صحة هذه القصص.

وكل الذي نستطيع أن نقطع بصحته هو تاريخ دخول الإسلام إلى المالديف، واسم الداعية الذي كان سببًا مباشرًا في ذلك، واسم السلطان الذي أسلم على يديه، إذ إن هذه المعلومات مكتوبة في اللوحة الموجودة بالمسجد الذي أمر ببنائه السلطان بعد إسلامه، وهي مكتوبة باللغة العربية، والكتابة التي عليها ما زالت واضحة.

وهذا السلطان الذي أسلم على يدي الشيخ أبي البركات كان اسمه قبل إسلامه ((درمس كالامنجا)) وكان يلقب بـ((كوى ملا)) ومعناه الابن الذي يشبه الزهرة، وبعد أن أسلم أسمى نفسه ((درمس محمد بن عبدالله)) وقد حكم مالديف 25 سنة، 12 منها قبل إسلامه، و 13 بعده.

برج الأذان:

ومن آثار هذا السلطان المسجد الذي بناه في العاصمة، وهو أول مسجد يؤسس في المالديف، ولا يزال هذا المسجد باقيًا وفي حالة جيدة، وأبوابه ونوافذه تعتبر دليلًا حيًا على التفوق الذي بلغه الفن المالديفي، وقد قام عدة ملوك جاؤوا بعده بتوسيعه وترميمه في أزمنة مختلفة.

وأمام هذا المسجد يوجد برج الأذان الذي أنشئ منذ (300) سنة وهو أيضًا من الآثار التاريخية الخالدة، وهو عبارة عن بناء دائري أبيض بخطوط عرضية زرقاء وقطره حوالي (25) قدمًا عند القاعدة، وأقل منه عند القمة، وعلى ارتفاع حوالي (35) قدمًا توجد شرفة دائرية يقف عليها المؤذن للصلاة خمس مرات في اليوم.

وبقي الشيخ أبو البركات في المالديف بعد إسلام أهلها يعلمهم القرآن وتعاليم الدين، ويعاون السلطان ويوجهه إلى تطبيق أصول الإسلام ومبادئه إلى أن توفي.