الدعوة الإسلامية والذين عارضوهامقالات

محمد صبيح

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 13، السنة الثانية، محرم 1386هـ

 

لماذا قاومت قريش دعوة الإسلام، بكل هذا العنف الذي بدا منها، خلال واحد وعشرين عامًا من بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، حتى فتح مكة؟

إن الرد الشائع على ألسنة المسلمين، هو أن سيدنا محمدًا عاب آلهة قريش، وسفَّه أحلامها، وهو رد صحيح، ولكن يدخل تحته الكثير من التفاصيل، التي يوسع النظر الحديث آفاق البحث عنها، ويهتدي منها إلى الكثير.

آلهة قريش:

ما آلهة قريش، وآلهة العرب جميعًا التي كانت تعبد قبل البعثة النبوية وأثناءها؟

كلنا نعلم أنها الأصنام، ورد أسماء بعضها في القرآن الكريم، وحاول علماء الآثار واللغة أن يردوا هذه الأصنام إلى أصول محلية، وأخرى مستوردة.

والصورة العامة للكعبة قبل الفتح، انها كانت أشبه بمتحف، حرصت قريش على أن تجمع فيه كل شارة من شارات العبادة القديمة، سواء كانت تمثالًا له معالم، أو قطعة حجر سوتها الريح على شكل من الأشكال، أو تحفة مستوردة مما صنع الفنانون الإغريقيون أو المصريون،

وقد روى الأزرقي أنه كان للمسيح تمثال تحمله أمه العذراء، ورجح بعض علماء اللغات أن ((هبل)) ما هو إلا ((أبولو)) آلهة الشعر عند اليونانيين، للتقارب بين اللفظين، ولأن العرب كانت تغرم بالشعر غرام أبولو وأصحابه به. وكذلك قالوا إن العزى اسم محرف عن إيزيس المصرية، وكانت العزى شجرة هائلة خارج مكة لها كاهنة، ويسمع لمرور الريح بين فجواتها وأغصانها صفير وفحيح مخيف.

ومعرض العبادات الذي اصطنعته قريش، حول بيت التوحيد الخالد، الذي أنشأه إبراهيم ابنه إسماعيل، لم يكن عن إيمان منها بكل هذا الزحام من الدمى والتهاويل وقد زاد عددها عن ثلاثمائة ولكنه كان محاولة ذكية بارعة لاسترضاء القبائل، حين تفد للحج ولتبادل عروض التجارة ولعقد ندوات الشعر وللتحكيم في الخصومات، وهي الأسواق المشهورة في ذلك الوقت.

والتجارة وما تفيئه من ربح كانت المحور الذي تدور حوله حياة قريش، ولا تقل في أهميتها عن شارات الشرف التي تعتز بها قريش بوصفها حارسة الببت العتيق.

ولكم ثارت الحروب لكي تنتزع من قريش هاتان الميزتان العظيمتان: التجارة وحراسة قوافلها عبر الجزيرة العربية شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وحج الناس إلى بيت الخليل إبراهيم، ونفس الحج لم يكن عبادة فقط ولكن تحريم القتال فيه جعله أمنًا ومثابة للناس كافة.

وما أكثر الخصومات التي كانت تثور بين القبائل، وما أكثر الطلب بالثأر ومطاردة الأعداء، هذه المطاردة التي ما انت تصل إلى ظلال الكعبة حتى تنتهي، وحتى يأخذ الناس نفس الراحة والتخفف من عداواتهم القديمة والحديثة.

ولقد أثرت قريش من هذه المزايا ثراء فادحًا، ودخل في حوزة سادتها من الذهب والفضة وعروض التجارة الشيء الكثير، وكان من أهم هذه العروض بما يمثلونه من قيمة مادية وما يمثلونه أيضًا من طاقة انتاج وقوة عمل.

فإذا كان العربي رجلًا محاربًا ورجلًا تاجرًا ورجلًا شاعرًا، فإن القيام على شؤون الحدادة والنجارة والبناء وصناعة الرماح والسيوف والقسي وغيرها من معدات الحرب وأعمال النسيج والحلي وأدوات التطرية والتعطر والتجميل ورعي الإبل والغنم والوراقة والكتابة وخدمة البيوت وإعداد صنوف الطعام والحلوى والقيام على أعمال الترفيه من غناء وموسيقى، كل هذا وأشباهه كان من مهام الرقيق.

والرقيق في تلك الفترة كان مجلوبًا من كل مكان: من إفريقيا والأناضول والقوقاز وبلاد اليونان والرومان ومن مصر ومن بلاد البربر ومن آسيا حتى حدود الصين، وهذا إلى جانب أسرى الحرب وسباياها.

وهم عرب من شتى القبائل.

كم كان يقوم من هؤلاء الرقيق على خدمة كل أسرة عربية، وكم كان يملك أثرياء قريش وسادتها من هذه الرقاب؟ لا يوجد إحصاء دقيق لهم، ولكن تكفي إشارات لبعض كبار التجار في هذه السلع الآدمية، مثل عبدالله بن جدعان الذي كان يملك ألفي عبد وأمة، وكان متخصصًا في رقيق الأحباش حتى لقد عرض على رسول الله أن يزود الجيش الموجه لغزو حنين بعدد منهم، فكره عليه السلام ذلك ولم يوافق عليه.

وإذا تذكرنا قافلة من قوافل التجارة إلى الشام وكان تعدادها ألفي جمل بأحمالها مثل قافلة أبي سفيان التي تسببت في غزوة بدر، فإنا نستطيع أن نقدر عدد الرقيق الذي كان في خدمتها للعناية بالأحمال عندما كانت الجمال تنيخ في محطات معروفة بالطريق مبنية بجوار الآبار يملكها كبار التجار من قريش.

حقيقة لم تكن هذه القوافل ملكًا لواحد أو عدد محدود من الأسر القرشية، فقد كان رأسمالها يجمع من معظم هذه الأسر، وربما زاد تمويلها عن مائة ألف ذهبًا، ولكن كانت تتفاوت مساهمات هذه الأسر بحسب طاقتها وقدرتها على التعامل.

ولقد أسمى بعض الباحثين المحدثين نوع الحكومة في قريش، بأنها كانت حكومة تجارية، توزع أعباء الرياسة فيها على سقاية الحجيج وإطعامهم، وحمل راية الدفاع، والقضاء في الخصومات والتحكيم، ورقابة الأسواق.

وأنا نرى رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة أمر بإبقاء بعض هذه الأعباء في أسر بعينها ولكنه وكل رقابة الأسواق لغير من كان يقوم بها في الجاهلية.

ومن هنا نستطيع أن ندرك جو الحياة التي ظهرت فيها الدعوة الإسلامية، فعبادة الأصنام كانت جزءًا من هذه الحياة، أما الجزء المؤثر والفعال فكان ما تدره هذه العبادات، من مكاسب مادية ومعنوية.

الدعوة حين جاءت:

وعندما بدأت الدعوة الإسلامية كانت تقوم على أساسين:

  1. توحيد الله تعالى.
  2. رعاية حق الإنسان -كل إنسان- في حياة حرة كريمة.

والتوحيد في ذاته لم يكن ليضر قريشًا وكان يعيش في مكة ويفد إليها كثير من الموحدين، ناس من اليهود يعبدون إلهًا واحدًا، وناس من النصارى لهم أيضًا توحيدهم، وناس من المتحنفين العرب الذين رفضوا عبادة الأصنام، بل دأبوا على مهاجمتها في الأسواق، وبخطب بليغة بقيت لنا آثار منها، ولم نعلم أن أحدًا من قريش أو غيرها عرض لهؤلاء الموحدين بأذى، أو كره مقامهم في مكة، أو اختلافهم إلى أسواقها، فقد كانوا دائمًا يحلون أهلًا، ما داموا لا يتعرضون لما تغنمه قريش من أصنامها وأسواقها وقوافلها من مكاسب.

الحرب إذًا ضد دعوة التوحيد الإسلامية، لم تكن من أجل عقيدة راسخة ولكن من أجل نظام حياة بني على أوضاع معينة، فمعنى التوحيد أن تزول هذه الأصنام التي كانت تعجب القبائل العربية حين تفد، ويتقربون عن طريق التصفيق والصفير لها إلى الله، وهما المكاء والتصدية اللذان ورد ذكرهما في القرآن الكريم.

ومعنى زوال الأصنام توهم خطر، هو انصراف القبائل عن مكة، ربما إلى نجران التي كانت تحاول جاهدة أن تجذب لها القبائل، وقد صنعت من التماثيل ما يزيد طوله عن ثلاثين ذراعًا، ونقلت من قصور بلقيس التحف والنفائس النادرة لتخلب لب العرب بها، ولكن البيت العتيق وما حوله هو وحده الذي يجذبهم.

فهل كان في الدعوة الإسلامية ما يبقي لقريش امتياز وفود الناس إليها؟.

لقد أدركت قريش أن خطرًا كبيرًا قد يحل بها ولهذا كانت المقاومة.

هذا وجه من وجوه الخطر إذا انتهى نظام الأصنام، وثمة خطر آخر له كل قدره ووزنه وهو هذه الدعوة الغريبة الجريئة التي تنادي بتحرير الإنسان، والتي تنهي ميراث السيادة بالنسب وبالعصبية، وربما امتدت إلى نظام الرقيق فألغته إلغاء.

قريش التي عاشت سيدة العرب جميعًا يتساوى فرد منها بهذا العبد الحبشي أو الرومي أو الفارسي الذي اشترى بالمال، فلما أسلم اعتقه سيده المسلم، فأصبح جليس محمد بن عبدالله، وأبي بكر بن قحافة، وعثمان بن عفان، وحمزة، وعمر وغيرهم من الأشراف، يؤاكلونه، ويقفون معه في صف واحد، كتفًا إلى كتف، ونداء مع نداء في الصلاة.

يا عجبًا! ان ما يدعو إليه محمد وما تحقق حين تبعه بعض العرب وبعض الرقيق الذي تحرر، لهو الهدم الكامل لقواعد الحياة، لهو التسفيه لأحلام عاشت عليها وبها قريش بل قبائل العرب كلها بل دنيا الرومان والفرس والحبش والهند وغيرهم من الذين علمت قريش أنباءهم أو زارهم تجارها.

هذا هو التغيير الأساسي في حياة قريش الذي لمحته قريش والدعوة المحمدية تسري وئيدة بطيئة في أوصال حياتها.

وهذا هو سر المقاومة العنيدة العنيفة التي جابهت بها قريش دعوة الإسلام.

ولو أن هذه الامتيازات الكبرى لم تكن في يد قريش إذًا لتركت محمدًا عليه السلام يقول ما يشاء، وليتبعه من يريد وخلت بينه وبين العرب.

فلما انتقلت الدعوة بعد الهجرة إلى بيئة مسالمة، ليست فيها عقد الحياة ولا فوارقها الشاسعة التي كانت لقريش وجدت الاستجابة السريعة لكلمة الحق، البسيطة النظيفة المسالمة.

عداء اليهود:

وإذا كان العرب في يثرب قد لانت قلوبهم لهذا الإيمان الجديد، الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فثمة عدو آخر كان يتابع في حذر تقدم الدعوة، ويمعن النظر في تفاصيلها وهم اليهود.

واليهود بدورهم كانوا سادة المال مرابين وتجارًا، في هذه المنطقة من الحجاز التي آوتهم، وكانوا قد هربوا إليها مذعورين مشردين من اضطهاد حل بهم في الشمال.

إن الدعوة الجديدة لم تكن لترضيهم ولا تريحهم، فإذا كانوا قد قاوموا قبل خمسة قرون وبعض قرن دعوة المسيح عليه السلام، لأنه ناداهم أن ينبذوا أحقادهم، وأن يعيشوا في محبة، وألا تكون عبادة المال وانتهابه بكل وسيلة هي هدف حياتهم، وقد عاندوه وخاصموه إلى السلطة الرومانية.

وكذلك صنعوا مع أنبياء سبقوا السيد المسيح حتى أن تنكيلهم بدعاة السماء فيهم كان جزءًا من تاريخهم.

فهل يسمحون لهذا النبي الجديد بأن يتابع دعوته، وقد وفد في الديار التي أقاموا فيها وأثروا فيها وأقاموا الحصون واصطنعوا الرقيق؟.

قبل كل شيء لقد ظهر هذا النبي من الأميين أي الأمم غير بني إسرائيل، فهل يجوز أن تكون هناك نبوة خارج نطاقهم؟ هذا ما رفضوه ابتداء.

ثم ان النبي العربي له من قوة التأثير ومن الدأب على تبليغ دعوته، ما جعله يتابعها في مكة ثلاثة عشر عامًا، ثم انه يشق لها الآن طريقًا يبدو أنه أكثر تمهيدًا.

ورتب اليهود طريق معارضتهم، بدأت بالجدال العقائدي، وقد أنفق القرآن الكريم في جدالهم وقتًا طويلًا.

وعنف معهم عنفًا بالغًا في بعض الأحيان، ولما رأى اليهود أن هذا الحوار لم يفد شيئًا إذ تابع العرب الإقبال على الدين الجديد، أخذوا يجربون أسلوبًا آخر وهو تحريض القبائل والاتصالات الخبيثة مع قريش وغيرها، كما جربوا أسلوب الاغتيال بالسم واسقاط الأحجار فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، مما أدى إلى تصميم المسلمين على الانتهاء من وجود اليهود في هذه المنطقة كلها، دفعًا لكيدهم وشرهم الذي لا ينتهي.

إسناد الدعوة:

ولقد كان واضحًا في سير الدعوة أنها لا تطمع أن تلين لها قناة قريش وحدها، ولا العرب وحدهم ولكنها مدت آفاقها إلى الناس جميعًا حيث يقيمون، فكل إنسان في نظرها هو خليفة الله في أرضه ووسيلته إلى حياة مطمئنة كريمة في الدارين، هو الإسلام والإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والعمل الصالح بعد ذلك.

ولهذا ما أن جاء العام السادس من الهجرة حتى كانت كتب رسول الله تصل إلى الملوك والحكام في كل مكان، وثمة جهة وصل إليها واحد من هذه الكتب وهي الصين، فقد كشف هـ.ج.ويلز في تاريخه عن هذه الرسالة من مصادرها الصينية، وقد أكرم امبراطور الصين هذه البعثة وأذن لها في إقامة مسجد والتبشير بالدعوة، فكان أول مسجد أقيم خارج الحجاز في ذلك التاريخ، وقد حاول هرقل أن يقلد المسلمين بعد هزيمته في اليرموك وجلائه عن الشام، فأرسل بعثة تدعو أهل الصين إلى المسيحية، وقوبلت أيضًا مقابلة حسنة، وربما كان بعض أفراد البعثة المسيحية هم الذين نقلوا طرفًا من نشاط المسلمين هناك.

هذه هي دعوة الحق، ولمحات عنها في عيد هجرة الرسول عليه أزكى صلاة وسلام.