روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ اللَّهَ تعالى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ تعالى : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ، وَقَالَ تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء : يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له؟!)).
جاء رسول الإسلام في هذا الدين الخالد بأسمى ما تتطلبه البشرية من أوضاع واضحة القصد ، مظفرة الغاية ، قريبة المنال ، سبيلها سوي ، وفضلها سني ، وجلالها في الروعة بالغ مشهود.
فالدين الإسلامي في العقيدة : توحيد خالص لا يقبل إشراكًا ولا رياء.
والدين الإسلامي في العبادات : تهذيب وتنظيم وتكافل وتساند.
والدين الإسلامي في الأخلاق : بر ورحمة ، وعزة وسمو ، وترفع وإباء.
والدين الإسلامي في المعاملات : يستهدف أن لا ضرر ولا ضرار.
وحديثنا اليوم في المعاملات توجيه حازم حاسم للناس : أن كلوا من الطيبات ، ولا تيمموا الخبيث ؛ فإن الطيب مقبول محمود ، وإن الخبيث مردود مرذول ، وإن الله - عز سلطانه وجل شأنه - لم يفرق في أمره بالكسب الحلال بين الرسل الذين اصطفاهم وولاهم – والله أعلم حيث يجعل رسالته – وبين سائر المؤمنين الذين جملهم بالإيمان ، وهداهم إلى تعاليمه المشرقة ؛ بل سوى بينهم في هذا الطلب ؛ لما له من عظيم الشأن وبالغ الأثر.
فالكسب الحلال طريقه طيب ، وريحه طيب ، ومذاقه طيب ، والحافز إليه نفس طيبة ، وقناعة راضية ، واطمئنان كريم .
لا يعمد إلى الكسب الحلال غاش ، ولا مزور ، ولا كذاب ، ولا فاجر ، ولا يجري وراء الخبيث أبي ، ولا تقي ، ولا نظيف ؛ فشعار الطيبين حمد مكسوب ، وشرف مرغوب ، وشعار الأخسرين طمع لا يرعوي، وظمأ لا يرتوي ، وجشع طويل عريض ، يمتد إلى أعماق السحت ، ويأخذ بأسباب الإفك ، ويمضغ بين فكيه كرامة يهدرها ، وأمانة يحقرها ، وشرفًا يزدريه ، ولا والله ما هو ببالغ في جشعه الطويل العريض إلا رزقًا مقدَّرًا محدودًا ، قسمه الله له من فوق سبع سموات ؛ قال تعالى : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] ، وقال عز شأنه : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22، 23].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَب َّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّه الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ، قَالوا: وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ: «غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يكسب عَبْدٌ مَالًا من حَرَام فَيَتَصَدَّق به فَيُقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك فيه ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زاده إِلَى النَّارِ ، إِنَّ اللَّهَ تعالى لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ ؛ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ».
فالكتاب الكريم والسنة المطهرة يلفتان نظر الناس إلى أن الرزق مقسوم محدود ، وسواء ألج بالإنسان الجشع أو قرت نفسه بالقناعة ، وسواء أظفر المرء بالرضا أو شقي بالإرهاق ، فلن ينقص من رزقه أو يزيد فيه قناعة ورضا ، أو لجاجة وإعنات.
قال رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسَ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تستكمل رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ».
فيا معشر الناس ، التاجر فيكم إن صدق ووفى ، فكسبه حلال ، وتجارته رابحة ، وماله مبارك فيه ، وإن غش وخان ، أو احتكر وضيق ، فالغلاء الذي يكوي به الناس في الأسعار سيكون سعيرًا يكتوي به في عذاب النار ، وإن ربحه الفاحش أغلال في عنقه ، وخيانته في التعامل خسار في دنياه وآخرته.
ويا معشر الناس ، إن الموظف فيكم أمين فيما وليه من أمور الناس ، فإن ضيع الأمانة ، أو فوت الحق ، أو استغل النفوذ ، برشوة خبيثة ، أو مجاملة بغيضة ، أو سلطان أحمق ، فهو مدخول في نفسه ، مضيع في إثمه ، مدنس بما غل ، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ويا معشر الناس ، فيكم العامل والصانع والزارع ، فإن حفظوا حق الغير ، وراعوا حدود الله ، وكان في صفاتهم الأمانة والوفاء والصدق وحسن الرعاية ، فقد أكلوا طيبًا وربحوا حلالاً ، وإن هم عاثوا وخانوا وضلوا ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب ولعنة الوطن وكراهية الناس.
ويا معشر الناس ، أجمعوا أمركم وفوتوا على الغاشين والطامعين والمرتشين أطماعهم ، وكونوا على الحرام حربًا ، وأشيعوا التعامل الكريم البريء بين القانعين والصادقين ، ونظفوا المجتمع من هذا الغول الشره الذي لا يفرق بين الحلال والحرام ، ولا بين الخبيث والطيب.
ويا هؤلاء الذين يتعجلون الرزق فيسلكون إليه كل سبيل ، ويتحرقون للجمع ليطفئ المال نار جشعهم المتأججة: على رسلكم ؛ فكل قرش من رزقكم مرهون بوقته ، مضمون بوعد الله.
قال أبو حازم: وجدت الدنيا شيئين ، شيئًا هو لي لن أعجله قبل أجله ، ولو طلبته بقوة السموات والأرض ، وشيئًا هو لغيري وذلك مما لم أنله فيما مضى ، ولا أناله فيما بقي ، يمنع الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني ؛ ففي أي هذين أفني عمري وأهلك نفسي ؟!
وينبغي أن يكون معلومًا أن الإسلام لا يطلب من الناس أن يصبروا على الجوع دون سعي لتحصيل الرزق ؛ فإن الإسلام دين أمر بالكد والعمل ؛ ولكن الدين يهيب بالناس أن يثقوا برزق الله الذي وعد ؛ قال تعالى : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
وأن يطلبوه حلالاً طيبًا ؛ ليكون بركة لهم في أنفسهم وفي أولادهم وأهليهم ؛ فإن آكل الحرام لا يجد إلا علة لا تبرأ ، أو فسادًا لا يقوَّم ، أو ضياعًا وحرمانًا ، فيدعو الله لتخفيف العلة وتقويم الفساد واسترداد الضائع.. يا رب.. يا رب.. ولكن.. أنَّي يستجاب له؟
كيف يستجاب لدعوته وهو ظالم آثم؟!
كيف يستجاب له وقد ألبسه اله الداء وأحاطه بالبلاء ، وذلك من عدل الجزاء ؛ {وما ربُّكَ بظلَّام للعبيد}.
فالحلالَ الحلال يا قوم ، إنه زينة بيوتكم ، ومتاع أرواحكم ، وإنه نجاح مقاصدكم ، وظفر أولادكم ، وإنه عفة أيديكم ، وطهارة قلوبكم.
{إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهّرين}.
وفقنا الله جميعا وهدانا وجملنا بالطيب الحلال.
المصدر: مجلة الأزهر، بتاريخ غرة محرم 1374هـ، 30 أغسطس 1954م، الجزء الأول، (ص36-39)
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.