المصدر: مجلة الدوحة، العدد الرابع، أبريل 1985م.
عندما وصلت مؤخرًا إلى مدينة بودابست عاصمة المجر (هنغاريا) قال لي صديق عربي يحضر لدرجة الدكتوراه في العلوم الزراعية بجامعة العاصمة المجرية إن هناك أسبوعًا للثقافة الإسلامية يقام في كلية الدراسات الإنسانية بجامعة بودابست وإنه يشغل الكثير من اهتمام المثقف المجري، وإن هذا الأسبوع يضم إلى جانب المحاضرات والندوات والمناقشات ومعارض الكتب ونماذج التعريف بالحضارة الإسلامية مفاجأة جديدة، فقد صرحت الحكومة للمسلمين بتكوين جمعية إسلامية تتيح لهم حرية العبادة ونشر الكتب الإسلامية وتنظيم اللقاءات الفكرية، إلى جانب الاهتمام بإحياء علوم الدين وقيام دراسات حول الفكر الإسلامي ونشاطات المسلمين المختلفة.
كانت هذه المعلومات جديدة ومفرحة بالنسبة لي ولكل من قرأ كتابات المفكر المجري المسلم الدكتور عبدالكريم جرمانوس، أو أتيح له اللقاء به مثلما تحقق لي هذا في عام 1974.
هذا المفكر الكبير الذي تستعد الأوساط الثقافية الاحتفال بعيد ميلاده المئوي في عام 1985 وبعد ثمانية أعوام من رحيله عن الحياة التي كان يتفرغ فيها للبحوث الإسلامية، وكان يتميز حنى آخر العمر الذي امتد به حتى جاوز التسعين بذاكرة قوية وعقلية مرتبة منظمة وإرادة حديدية حفظت له أسباب إيمانه وتدينه حتى آخر العمر.
وفي نوفمبر الماضي أصدرت دور النشر كتابًا ضخمًا عن الدكتور عبدالكريم جرمانوس الذي ولد في 11 نوفمبر 1885م في مدينة بودابست، والكتاب يحمل اسم Muslem of East أي (مسلم الشرق) ويتحدث الكتاب عن العالم المسلم الذي كان يحمل اسم يانوش جرمانوس قبل اعتناقه الإسلام، وعندما تخصص في الدراسات واللغات الشرقية وسافر إلى الهند في الثلاثينات من القرن الحالي، اعتنق الإسلام بعد صحبة طويلة لعلماء المسلمين في الهند التي عاد منها إلى بلاده وهو يجيد اللغة العربية قراءة وكتابة، بعد أن أجاد في رحلته إلى الهند الإنجليزية والفارسية والأردية، كما أجاد أيضًا اللغة التركية في رحلته إلى إستانبول، إلى جانب ما اكتسبه بنفسه من تعرف على اللغات الألمانية والفرنسية واليونانية، وهي بالطبع غير لسانه القومي من خلال اللغة المجرية التي تنتمي لعائلة لغوية فريدة لا تنتمي إلى العائلات الأوربية السلافية أو اللاتينية.
وكان الدكتور عبدالكريم جرمانوس يعرف أيضًا أسرار اللغات القديمة اللاتينية والإغريقية والفارسية والهيروغليفية، وقد أمدته هذه المعارف اللغوية بقدرة على البحث والتحليل والتنقيب جعلته يؤمن بالإسلام عن بحث وتمحيص ودراسة متأنية بجانب نزعة الإيمان القوية، التي جعلت كل من قرأ كتاب الدكتور محمد حسين هيسكل ((في منزل الوحي)) يبدي إعجابه بالمفكر المستشرق المسلم عبدالكريم جرمانوس الذي كان موضوع مقدمة كتاب الدكتور هيكل بعد زيارته لبيت الله الحرام وأداء فريضة الحج.
مسلم الشرق ومسلم الدانوب:
ترجمت لي السيدة مرجيت شاندور فقرات مقال نشرته واحدة من أكبر الصحف اليومية التي تصدر في بودابست باللغة المجرية، والتي تناولت في المقال المفاهيم الإسلامية وحضارة الإسلام، وقالت لي معقبة عما نشر في المقال حول السماح بإنشاء جمعية للمسلمين في المجر، وما صاحب ذلك من أسبوع إسلامي في كلية الدراسات الإنسانية، وما صحبه أيضًا من تكريم للمفكر عبدالكريم جرمانوس الذي رحل عن الحياة في 11 نوفمبر 1979، في نفس يوم مولده، أن هذه الأنباء لها دلالات كثيرة فقد كان النشاط الإسلامي قبل القرارات الأخيرة غير معترف به في المجر التي تعتنق بموجب دستورها الفكر العلماني الذي لا تشغله معتقدات الناس الدينية ويفصل بينها وبين نظام الدولة وفلسفتها السياسية!
ولكن الدولة كانت تسمح بوجود نشاطات دينية لغير المسلمين، والأغلبية التي تقترب من مجموع عدد سكان المجر (التعداد الأخير: عشرة ملايين نسمة) تدين بالمسيحية الكاثوليكية، مع وجود بعض الديانات الأخرى مثل الديانة اليهودية ولها معبد ضخم يتردد عليه يهود المجر في مدينة بودابست ومعابد أخرى عديدة في عدد آخر من مدن المجر وذلك على الرغم من أن غالبية يهود المجر هجروا بلادهم إلى إسرائيل قبل قيام الدولة الصهيونية، وأيضًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية المجرية المتعاونة مع ألمانيا النازية وتكوين جمهورية المجر في أبريل 1945.
وغير الغالبية الكاثوليكية والأقلية اليهودية هناك أقليات أخرى منها أتباع المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية مثل البروتستانت والأرثوذكس والأدفنتست والإنجيليين وغيرهم.
أما المسلمون فلم تكن الحقبة الماضية أمينة في معاملتهم وفي إفصاح كل منهم عن عقيدته خشية البطش أو الاضطهاد، ومن هنا فلا يوجد إحصاء دقيق عن المسلمين في المجر، وإن كان بعض المصادر تقول إن عدد المسلمين في المجر لا يتجاوز ثلاثين ألفًا، بينما تقول مصادر أخرى أن عدد المسلمين في المجر يزيد عن 150 ألف مسلم وهو رقم كبير في ضوء التعتيم على الوجود الإسلامي في المجر منذ تراجع العثمانيون وانسحبوا من حوض الدانوب قبل ثلاثة قرون، فمنذ انكماش المد الإسلامي في ظل الخلافة العثمانية من وسط أوربا والمسلمون في هذه الأنحاء يعانون من الاضطهاد الذي جعلهم لا يعلنون عن هويتهم الدينية في مواجهة قيام الثوار المجريين بالانتقام من أتباع العهد التركي تحت شعار القومية المجرية، وحيث أمكنهم بالتهديد إجبار الكثير من مسلمي المجر في القرن السابع عشر الميلادي عن التخلي عن ديانتهم الإسلامية التي كانت مصدر إزعاج لبعض الهيئات السياسية والدينية المتعصبة في أوربا، التي جعلت الديانة الإسلامية ي البؤرة التي يرتكزون في محاربتها على تحريك المشاعر القومية التي نجحت من خلال المطاردة والتسلط في خلق هواجس مرتبطة بنمو الفكر القومي في وسط أوربا، ذلك الفكر الذي يرتكز على التصدي للإسلام في ظل موجات الصراع السياسي في العهود التي صاحبت مد وجزر الإمبراطورية العثمانية وسط أوربا.
ورغم بقاء الطباع والتقاليد والسلوكيات الإسلامية وأيضًا بعض ألقاب العائلات ذات الأصول المسلمة، لم يستطع المسلمون في المجر حماية كيانهم الاجتماعي والفكري مثلما حدث لمسلمي يوغوسلافيا التي يتعايش فيها عدد من القوميات والأديان، فقد كان هذا الأمر أكر صعوبة في جارة يوغوسلافيا وشريكتها في نهر الدانوب -أي المجر- وعلى نحو يبدو شبيهًا في النمسا التي ربطتها بالمجر إمبراطورية واحدة حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن حال المسلمين في النمسا أيضًا كان أكثر مرونة من الحال في حوض الدانوب المجري.
ومن هنا فإن اعتراف السلطات المجرية في هذا الوقت المتأخر من القرن العشرين للمسلمين في المجر بحقهم القانوني في ممارسة شعائرهم الدينية وتكوين جمعية إسلامية تظلل نشاطاتهم العقائدية والفكرية والثقافية والاجتماعية ما هو إلا بمثابة تحقيق لأمل كبير جاهد من أجله المفكر الدكتور عبدالكريم جرمانوس الذي كان في حماية أنهم ينظرون إلى نشاطاته الإسلامية الفكرية من منظور البحث العلمي في العلوم الإنسانية.
لقد كان من أحلام الدكتور عبدالكريم جرمانوس وزوجته الراحلة السيدة عائشة جرمانوس أن يريا في بلادهم جماعة إسلامية تهتم بشؤون المسلمين، وأن تنتهي تلك الفترة السوداء التي عاش فيها المسلمون في ظل فكر الدولة العلماني وفي ظل مواريث تاريخيه جعلت الإسلام وأتباعه في ظل حصار ومطاردة من المتعصبين الأوربيين المتسترين وراء الدعاوي القومية خلال الحقبة التي تلت انحسار القوة عن الإمبراطورية العثمانية.
ولقد صاحب التطورات الخاصة بتكوين جمعية للمسلمين في المجر وقيام نشاطات فكرية إسلامية في المحافل الثقافية عودة دماء المشاعر الإسلامية إلى وريد الحياة في عدد كبير من مساجد المجر التي ظلت لسنوات طويلة مزارات إسلامية أثرية لا تمارس فيها العبادة، بل تحول بعضها من مساجد إلى كنائس وكاتدرائيات ترى في داخلها النقوش التجريدية الإسلامية مع الرسوم التشخيصية المسيحية على جدران مبنى واحد وعلى نحو يلاحظه الزائر للمسجد الذي تحول إلى كنيسة في المنطقة الموجودة أعلى الربوة العالية المطلة على نهر الدانوب والمعروفة باسم كاتدرائية ماتياس، ولا تزال كذلك الكاتدرائية الرئيسية في مدينة بيتش تحمل اسم مؤسس المبنى، فقد كان مسجدًا كبيرًا لمؤسسة غازي قاسم باشا، إلا أنهم في السنوات الماضية أضافوا لبنائه الأساسي بعض المرافق المعروفة في الكنائس والتي لم تكن موجودة في المسجد!
على أن هناك مساجد كبيرة صمدت بفعل دعاة التحرر من التعصب، وبقيت كما هي مزارات حضارية، ولم تكن تمارس فيها العبادات والشعائر الإسلامية، ومن أهم هذه المساجد وأكثرها شهرة المسجد الكبير في العاصمة بودابست والمسجد ذو المنارة العالية في مدينة ((أجار)) ومسجد مدينة ((سيجار)) وكذلك مساجد مدينة ((بيتش)) التي ظلت آخر قلاع المسلمين في المجر عند انحسار مد الدولة الإسلامية في القرن السابع عشر الميلادي.
عودة الروح لمسجد يعقوب علي حسن:
ومدينة ((بيتش)) تقع على بعد 210 كيلو مترًا جنوب غرب العاصمة بودابست، يقطع القطار السريع المسافة إليها في نحو ثلاث ساعات في حال الوصول إليها عن طريق السكك الحديدية.
وقد حرصت على زيارة مدينة ((بيتش)) لأرى مظاهر التجديد التي حلت بمسجدها الشهير المسمى باسم منشأة العارف بالله يعقوب علي حسن باشا، وفي القطار الذاهب إلى بيتش تعرفت على أسرة مجرية، قال لي رب الأسرة البروفيسور ((جرداني بيلا)) أستاذ الاقتصاد السياسي لعلك سعيد بإمكانك أداء الصلاة في مسجد يعقوب علي في مدينة بيتش.. ولم أعقب على عبارته الودودة انتظارًا للوصول إلى المدينة الناعمة الهادئة القريبة من الحدود اليوغوسلافية بالقرب من جمهورية البوسنة والهرسك حيث أكبر كثافة سكانية للمسلمين في يوغوسلافيا.
وعندما وصلت إلى مسجد يعقوب علي باشا لاحظت بعض من التغيير يحيط بالمكان، ليس فقط تغييرًا شكليًّا، لكنه أيضًا تغيير في الجو العام، فقد زرت نفس المسجد قبل عدة سنوات وكانت الكآبة بادية عليه، فهناك من يحرم بيتًا من بيوت الله من أن يرتاده المؤمنون للصلاة وإقامة الشعائر الدينية، وعندما عدت لزيارة المسجد مؤخرًا لاحظت أن لمحة الحزن ومسحة الألم تكاد تنسحب من على ملامح المكان. كيف؟! لقد تحقق حلم المفكر الإسلامي المجري عبدالكريم جرمانوس وأعيد تجديد المسجد بل وسمحوا للمسلمين بارتياده للصلاة.
ومسجد يعقوب حسن باشا أشهر وأقدم مساجد أوربا باستثناء مسجد خسرو غازي باشا في مدينة سيراييفو عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك اليوغوسلافية والمسجد المجري الذي يعد أحد أهم معالم مدينة بيتش يتكون من جزءين أساسيين، أولهما ذلك البناء التاريخي للمسجد الذي يعطي في داخله الإحساس بالطراز المعماري الإسلامي الذي ازدهر في عهد الدولة العثمانية.
والجزء الآخر الذي أقيم فيه متحف المسجد يمتد من المبنى المجاور الذي يشغله مستشفى تم بناؤه على الأرض التي كانت تحيط بالمسجد في الماضي، وحيث ألحق جزء من هذا المستشفى بالمسجد ليصبح متحفًا للمقتنيات والمخطوطات الإسلامية النادرة التي وجدت في مسجد يعقوب علي باشا أو خلال الفترة التي حكم فيها المنطقة أحد الولاة العثمانيين مثل حاكم المنطقة مولاي درويش.
ويضم المتحف الملحق بالمسجد حائطًا ضخمًا للمعروضات بطول الممر، ويتضمن أعمالًا وقطعًا تنتمي للفن الإسلامي، وتوضح التراث لثقافي المجري والتركي في تلك الفترة من حكم الأتراك للمجر وبلدان البلقان، والتي تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، وبجانب القطع والمقتنيات الأثرية هناك رسوم بالجرافيك تمثل المنطقة في تلك الحقبة.
والمخطوطات المحفوظة بالمسجد تروي قصته من خلال رواية السيدة إيفليا شلبي التي أمضت بجوار المسجد فترة من عام 1660م وحتى عام 1664م، والتي تقول أن المسجد يسمى باسم يعقوب علي حسن، وكان يضم بجانب مكان العبادة مدرسة وفصول لتحفيظ القرآن الكريم والتعليم المتقدم.
واسم يعقوب علي ليس اسمًا لجد صاحب هذا المسجد، لكنه النطق العربي لتسمية Yakavali التي تعطي نفس المعنى ولكنها اسم لمدينة تسمى Yakava والتي تتبع إمبراطورية المجر (هنغاريا) في الماضي لكنها الآن تقع داخل النطاق الإداري لجمهورية يوغوسلافيا وقد تعود تسميتها إلى أحد دعاة المسلمين الأتراك ممن استقروا في هذه المنطقة خلال المد التركي الإسلامي في وسط أوربا وحتى الحدود الإيطالية غربًا ومشارف فيينا شمالًا.
والتاريخ الدقيق لإنشاء المسجد والمباني المجاورة له مثل الحائط والساتر الذي يحيط بالمسجد والمدرسة والمستشفى غير معروف بدقة، ولكن الباحث الذي ألف كتابًا باللغات المجرية والتركية والإنجليزية وهو الدكتور ((جيرو جيوزد)) الذي وضع كتابًا يحمل اسم ((مسجد بيتش العريق)) يرى أن المسجد وملحقاته قد تم بناؤه في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي.
ومسجد يعقوب علي حسن قام بعد ذلك على الطراز المعماري للمساجد التي تقام في الميادين والساحات الكبيرة، والشكل العام للمسجد يشبه الدائرة التي تعلوها منارة في الجزء الشمالي الغربي من مبنى المسجد، على أن هذا المسجد يتميز عن كل المساجد الإسلامية التي بقيت في المجر بعد انحسار المد العثماني قبل ثلاثة قرون ومن أبرزها مسجد مدينة ((أجار)) والمسجد الكبير بمدينة ((بودابست)) ومسجد ((قاسم غازي)) في ميدان ((ستشاين)) قلب مدينة ((بيتش)) وحيث يبدو شكل المسجد المتميز من خلال أركانه الأربعة العليا التي تتجه نحو القبلة وحيث تبدو فتحات النوافذ مقطوعة من نفس البنية الأساسية للمسجد والمكونة من طبقتين، وكل نافذة مغطاة بما يسمى زخارف الأرابيسك التي تسمح بتسلل ضوء الشمس، وهذه النوافذ مقامة من الحديد المجوف بالزجاج، وبالمسجد مبنى تقودك إليه عدة درجات رخامية، ويتجه المبنى نحو مكة المكرمة، وعلى مقربة من صحن المسجد هناك جزء علوي مخصص لصلاة النساء، وكان بجوار المسجد ماكينة لاستخراج المياه من بئر مجاور تستخدم في الوضوء، ويزين جدران المسجد من الداخل آيات من القرآن الكريم مكتوبة بالخط العربي، ومن خلال تنويعات استخدام الخط العربي في أرقى صور التعبير الجمالي، وبجانب الآيات الكريمة هناك بعض الأحاديث النبوية الشريفة، ولا تزال هذه اللوحات الخطية بارزة يمكن قراءتها بوضوح رغم مرور أربعة قرون على تزيين جدران المسجد بها.
وقد تجدد بناء المسجد بعد إجراء بعض الترميمات في عام 1686 عندما تعرض لبعض الهزات الأرضية.
وفي عام 1702م وبعد انحسار المد العثماني عن المنطقة استولى أسقف ((نسلرود)) على مبنى المسجد، ومن خلال تلك الفترة غير بعض معالمه وأصبحت الأرض المملوكة لأوقاف المسجد تحت تصرف أسقف المنطقة طوال الفترة التالية، إلى أن اقتطعت قطعة من أرض المسجد (الفناء الخارجي) وأقيم عليها مستشفى حديث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكن في الفترة من عام 1957 وحتى عام 1960 تجددت الدعوة إلى ترك ملامح المسجد الحضارية كما هي دون تغيير، وبمعاونة الجهات المشتغلة بالتراث العثماني في تركيا أمكن إعادة المسجد إلى ملامحه القديمة، وكان ذلك بداية من عام 1961، على أن إقامة المتحف الملحق بالمسجد لم يستكمل إلا في منتصف السبعينات وحيث أعيدت إلى المتحف المقتنيات الإسلامية التي خرجت منه إلى متحف ((يانوش بانونيوش)).
وعندما تدخل إلى صحن المسجد العريق من المدخل الرئيسي تلحظ وجود عمود ضخم في ركن القاعة، هذا العمود كان ضمن بناء المسجد الكبير (غازي باشا) الذي لا يبتعد أكثر من 500 متر عن مسجد يعقوب علي حسن باشا، وهو المسجد الموجود في الميدان المسمى اليوم ميدان ((ساتشيني)).
اللوحات المعلقة على الجدران تظهر عصر التقدم العثماني التركي في الممالك والإمبراطوريات الأوربية في اليونان والجزر اليونانية وبلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا وألبانيا والمجر وقبرص وحتى مشارف مدينة فيينا وحدود إيطاليا الشرقية، الأمر الذي استقطب التكتلات الأوربية بزعامة بابا روما لمواجهة الفتح الإسلامي، ومن ثم ما ترتب على استخدام الشعارات القومية كوسيلة للتشهير بالدولة العثمانية الإسلامية.
وتوضح الخرائط الزمنية الموجودة في بهو مسجد يعقوب علي حسن هذا المد الإسلامي منذ إنشاء دولة تركية صغيرة في ((أناضوليا)) حيث هزمت جيرانها ثم امتدت مساحتها منذ أصبحت ((بورصا)) عاصمة للإمبراطورية العثمانية الأولى في عام 1326 في آسيا الصغرى وحتى حدث التقدم الطارئ الذي مكن العثمانيين من التقدم إلى أوربا بعد سقوط ((أدير)) أيضًا، وفي عام 1353 أصبحت ((القسطنطينية)) في حوزة العثمانيين، وتغير اسم المدينة ليصبح ((الأستانة)) أو استانبول اليوم، وأعطى هذا الوضع المتميز للعثمانيين القدرة على السيطرة على كل البلقان في عهد السلطان سليمان الأول عام 1521، عندما تقدمت القوات العثمانية فسيطرت على ((بلجراد)) بعد أن استولت على ((ساباكاس)) ثم وصلت إلى المجر، وفي الأراضي الهنغارية بدأت الاشتباكات بين القوات العثمانية والقوات المجرية عقب سقوط مدينة ((بودا)) (الجزء الأعلى والأكثر قدمًا من العاصمة الحالية بودابست) في عام 1541م وحيث استمر الحكم العثماني للمجر قرابة مائة وخمسين عامًا، واستمر المجريون في حرب العثمانيين حتى سقطت آخر معاقلهم في (كانزيا) على حدود المجر اليوم، وكان ذلك في أبريل من عام 1690م، وبعد فشل الحصار العثماني لمدينة فيينا في عام 1683م.
ويعرض المتحف الملحق بمسجد يعقوب علي حسن باشا الأسلحة المستخدمة في الحرب بين القوات العثمانية التركية والقوات المجرية والنمساوية، وكذلك معلومات تاريخية واقتصادية واجتماعية من الحقبة العثمانية من تاريخ المنطقة وأساليبها في الإدارة والاجتماع والاقتصاد والحياة الدينية.
ويروي الكاتب المجري الدكتور ((بورتزكي لاتزلو)) أن الأتراك المسلمين ممن استقروا في المجر ونجحوا في إقناع بعض السكان المقيمين باعتناق الإسلام وأقاموا العديد من المساجد الجديدة، ومن أشهر هذه المساجد ما سمي على أسماء بعض الباشوات من القادة السناجق والباكوات، كما أقاموا المعاهد والمدارس والحمامات الخاصة بالنظافة والتطهير، بجانب المقابر المقامة على الطريقة الإسلامية في دفن الموتى، وهذا بخلاف ما أقيم من أسواق مغطاة وغيرها من المعالم التي بنيت على الطراز العثماني الذي مزج تراث الشرق المسلم بفنون العمارة والبناء الأناضولية، وأغلب تلك المنشآت أقيم في منتصف القرن السادس عشر، وبقي الكثير منها يقاوم عاديات الزمان والطبيعة وسوء القصد البشري ومحاولات الافتراء والتشوية والانتقام من بعض المعالم الإسلامية مثل مسجد غازي قاسم ومسجد يعقوب علي حسن ومسجد فرهاد باشا وهي كلها في مدينة ((بيتش)) Pecs، وفي نفس الفترة جرى بناء مسجد طويجون باشا في بودابست ومساجد السلطان سليمان وعلي باشا في منطقة ((زيجتفار)) التي أقيمت فيها قلاع بنيت في العهد العثماني.
وبجانب متحف مسجد يعقوب علي حسن نجد في المكان ((جاليري)) يضم بعض المقتنيات النادرة مثل بعض المنسوجات والزخارف والسجاد والأواني المستخدمة في الاغتسال والوضوء والمصابيح وسجاد الصلاة (المصلية) وكلها تعود لعهد الفاتح محمد الثاني (1444-1481) وحتى عثمان الثاني (1618-1622) وبعضها من التحف والمقتنيات التي وجدت في المسجد وبعضها من المقتنيات المهداة للمسجد بعد إعادة الحياة إليه من متحف الباب العالي (توب كابي سراي) في تركيا.
وعندما تهم بمغادرة المسجد نلحظ في الممر المؤدي إلى الخارج وعلى الحائط الأيسر منه تناول بالمخطوطات للسيرة النبوية العطرة، مصادرها كتابات تركية (مخطوطات) تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، كتبها بخط يدوي من خلال حروف عربية للغة التركية خطاط يدعى (سيار فابي بك) وأسماها ((سيرة النبي عليه الصلاة والسلام)) وبجانب هذه المخطوطات التي تحكي قصة الرسالة المحمدية التي بعثها الله -جل جلاله- على يد النبي محمد صلوات الله عليه، نجد ملابس وأزياء تعود إلى تلك الفترة وتخص بعض الولاة والقادة مثل البكتاش باشا ومولاي درويش وعدد آخر من المشايخ ورجال الدين والأئمة، وقد قام برسم هذه الملابس والاعتناء بها والمحافظة عليها فنان فرنسي من القرن الثامن عشر.
وفي الاتجاه المعاكس لمدخل المسجد، وعلى امتداد الجدار الجنوبي الشرقي، طبقة عالية من الأرض تعود إلى مساحة داخلية إلى اليمين منها نجد المحراب والمنبر الذي يخطب من فوقه إمام المسجد، وهو مصنوع من الخشب ومرتفع عن سطح الأرض بحيث يصعد الإمام عدة درجات حتى يكون في مستوى يسمح للمصلين بمتابعته وهو يخطب فيها يوم الجمعة وفي الأعياد.
وساحة المسجد مغطاة بالسجاد، وبجوار المحراب مصحف شريف فوق حامل خشبي وبجواره القبلة حيث يتجه المصلون عبرها نحو مكة المكرمة، ثم نجد عددًا من المسابح (جمع مسبحة) للتسبيح بحمد الله، ونلحظ أن جدران المسجد محلاة بلوحات من الفن الإسلامي التي تستخدم جماليات الخطوط المعبرة عن تكوينات وتشكيلات الخطوط والظلال المعبرة عن جمال الحروف العربية في الكتابة خاصة الكتابة اليدوية المحسنة، وقد استخدم الخط لتجميل الجدران بكتابة أسماء الله الحسنى واسم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وأسماء الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأسماء أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة.
وعلى كل من الجانبين في المدخل من الشمال ومن اليمين عند بوابة المسجد يطل المكان المخصص للنساء المترددات على المسجد للصلاة.
ومن المعروف أن المسجد كان محاطًا بسياج حول الأرض التي أقيم عليها ولكن هذا السور أزيل في القرن الثامن عشر وبقيت بعض أجزاء منه تفصل المكان عن أكبر فنادق المدينة ذات النجوم الخمسة.
وقد عرفت من أمينة متحف المسجد أنهم جمعوا مقتنياته من المتحف الوطني المجري ومن مقتنيات متحف بانانيوس يانوش ومتحف بودابست التذكاري ومتحف تاريخ الفن، وكذلك هناك بعض القطع والتحف التي أهداها لمتحف المسجد متحف ((توب كابي سراي)) في إستانبول وقد أشرف هذا الدكتور رفقي دانسمان الذي تولى مسؤولية الثقافة في تركيا قبل عشر سنوات مضت والدكتور حكمت جورساي مدير المتحف الوطني التركي والسفير السابق لتركيا في بودابست فؤاد كبنيك.
... وأرحل عن المكان وتظل في وجداني ملامح الحياة التي عادت إلى المسجد العريق بعد أن زالت عن محياه مسحة الحزن التي ظللت ملامحه طيلة سنوات مضت غاب فيها عن المسجد دوره الحضاري المتميز الذي يرتبط بدور المسجد في الإسلام والذي عاد إليه مؤخرًا مع السماح بالتردد والعبادة وأداء الشعائر الدينية في المساجد.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.