المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد السادس، جمادى الآخرة 1385هـ
انتشار الإسلام في البلقان قبل الفتح العثماني:
المزاعم:
لقد راج زعم غير المحققين من كَتبة التاريخ أن الإسلام لم يدخل أوروبا الجنوبية الشرقية إلا في زمن الفاتحين الأتراك، وأن جماعات قليلة من سكان البلقان قد أكرهوا على اعتناق الدين الإسلامي عندما افتتح العثمانيون بلدان المنطقة وهي: (يوغوسلافيا وألبانيا ومقدونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر)، وأن البلقانيين وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع بين الدخول في الإسلام أو السيف، وهذا الزعم قام بنشره أعداء الدين الحنيف الذين قاموا بدعاية مغرضة نظموها في الكنائس والاجتماعات والكتب المدرسية، حتى رسخت في العقول، وحارب بها الأوربيون الدول الإسلامية؛ فنظموا الحملات العسكرية الانتقامية ضد الدول العربية في أوروبا وآسيا وإفريقيا لإبادة المسلمين في كل بلد، كما فعلوا في إسبانيا والبرتغال وصقلية وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا حيث ازدهرت الحضارة الإسلامية، ثم توجهوا إلى جنوب روسيا (القرم) وحولوا بلادهم إلى جحيم، مما اضطرهم إلى الجلاء إذ امتنعوا من الارتداد والعودة إلى دين أجدادهم، فتمكن أعداء الإسلام من القضاء على الوجود الإسلامي في (صربيا والمجر وسلافونيا ودالماسيا).
ولم يبق سبيل للمسلمين في بضعة أماكن في يوغوسلافيا وبلغاريا إلا بتحمل الأذى أو الهجرة أو الارتداد طيلة ثلاثة قرون وإلى يومنا هذا.
التاريخ الحقيقي:
لكن إذا محصنا الوثائق التاريخية الأصلية ودرسناها بإنصاف، تجلى لنا أن انتشار الإسلام ابتدأ قبل أواخر القرن التاسع الميلادي (ولم يدخل الأتراك يوغوسلافيا إلا في عام 1943م) على يد تجار مسلمين وسياح وزهاد وبعض الأسرى، فبثوا الدعوة الإسلامية بمجهودهم الخاص، وحببوا الدين إلى السكان بالموعظة والحكمة.
ثم تلتهم جماعات من الشعوب التركية أو قابل (كومان وبجناك ويازيغ وأوغز وبلغار والخزر.. إلخ) تطوعوا لخدمة الإسلام، وعاشوا حياة السكان واختلطوا بهم فصاروا منهم، فامتد الإسلام من مناطق القوقاز وما حولها إلى أراضي نهر الدانوب وروافده (تيسا، سافا، مورافا، ورينا) التي تمر ببلاد رومانيا وبلغاريا والمجر ويوغوسلافيا. فتكونت دويلات إسلامية على شكل واحات جميلة في شبه جزيرة البلقان، وسعدت بتعاليم الدين الحنيف فهمًا وتطبيقًا وذاع صيتها، فزارها العلماء العرب من مؤرخين وجغرافيين واقتصاديين ودعوا (البجناك) إلى زيارة العواصم العربية لربط الصلة بالعلم والمصاهرة.
المؤرخون العرب في البلقان:
يذكر (عبدالله البكري) (المتوفى في قرطبة 1094م) في ((المسالك والممالك)) فئات من علماء الفقه والتوحيد بين اليازيغ والبجناك والبلغار، وزار (أبو حامد الغرناطي) سنة 545هـ (1150م) المسلمين في (بشغرديا) وقص علينا إقامته فيهم في كتابه ((تحفة الألباب)) وكيف فرحوا به وتزوج ابنة من بنات أعيان فرسان الإسلام في هذا البلد المزدهر، ويخبرنا (ياقوت الحموي) في سنة 1228م في ((معجم البلدان)) بتعرفه بطائفة (الباشغاردية)، فيقول وجدت بمدينة (حلب) جماعة كبيرة يقال لهم (الباشغاردية)، شقر الشعور والوجه جدًّا، يتفقهون على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
فسألت رجلًا منهم استعقلته عن بلادهم وحالهم، فقال: أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من أوروبا يقال لهم (الهنكر) = (هنغار، المجر)، ونحن مسلمون رعية لملكهم في ناحية من مملكته، نعيش في ثلاثين قرية يكثر فيها العمران والمباني الجميلة والمساجد، مما يعطي لكل قرية شكل بليدة منظمة، ولكن بغير تحصينات ولا سور، حيث أن إقامة السور ممنوع علينا من طرف ملك الهنكر النصارى لئلا نثور على نظام هؤلاء، ونحن نخدم الجندية مع الهنكر ونلبس زيهم ونتكلم لسانهم ونذود عن الوطن مع الجيش الهنكر الذي كان يحارب مجاوريه وهم دائمًا من النصارى، فسألته عن سبب إسلامهم مع وجودهم في أواسط أوربا الكافرة.
فقال سمعت فئة من أجدادنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد (بلغار) وسكنوا بينا وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال، وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام، فهدانا الله والحمد لله، فأسلمنا جميعًا وشرح الله صدورنا للإيمان ونحن نقدم إلى هذا البلد ونتفقه فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم، فسألته لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج؟ فقال: يحلقها منا المجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت فكم تبلغ المسافة بيننا وبين بلادكم؟ فقال: من هنا إلى القسطنطينية نحو شهر ونصف، ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك.
والمراد من بلاد (بشغرديا) هو أرض (هنغاريا) أي المجر، حسب ما أثبته المؤرخ الألماني (ماركسفارد) في (موسوعة الإسلام) ويتجلى من تقرير (ياقوت الحموي) أن المسلمين في هذا البلد كانوا على مذهب أبي حنيفة.
ونستنتج من رواية (ياقوت) أن ملوك المجر كانوا لا يثقون بالمسلمين العائشين في المجر، رغم ولائهم لهؤلاء الملوك، ومشاركتهم في الحروب، تحت راية المجر، في محاصرة مدينة (ميلانو) بإيطاليا عام 1158م، وفي (مورافيا) 1260م وضد التتار سنة 1241م على تخوم (هنغاريا) بإخلاص وبسالة نادرين.
ولكن لما اشتد ساعد ملوك المجر وخاصة من 997م إلى 1038م، حين قوى الملك الكاثوليكي (استيفان القديس) تضاعف الاضطهاد ضد المسلمين.
فصادر هذا الملك المتعصب أملاك المسلمين البجناك وأموالهم ليبني بها في مدينة (فروأر) الكنيسة الموجودة إلى الآن، وفرضت ألوان من المضايقات ضد المسلمين، بإيعاز من البابا بروما الذي اعتبر المسلمين كفارًا، وأمر بإبادتهم بجميع الوسائل.
وفي عهد الملك المجرى (كارل روبرت) (1310-1342) تفاقمت إجراءات التعسف ضد الإسلام، فاستعان (كارل) بتعاليم البابا الصادرة عام (1341م) والقاضية بإزالة آثار الإسلام والمسلمين، وذلك بأن يغادر هؤلاء المجر أو أن يعتنقوا الكثلكة ويدفعوا نصف ثروتهم للكنيسة ويقدموا أبنائهم كزوجات للمسيحيين، وأن يأكلوا لحم الخنزير ويشربوا الخمر، ويقيموا الكنائس ويعلقوا لوحة الصليب في كل بيت، ويزيلوا معالم اللغة العربية ويحرقوا القرآن الكريم.
فطال التنكيل بالمسلمين على مدى 350 سنة هاجر خلالها غالبيتهم من بلاد المجر وانتهى بذلك وجود الإسلام ببلاد (هنغاريا).
ووصل الكثير منهم إلى (بوسنة) في يوغوسلافيا.
وكانت قبائل البجناك قد اختلطت مع الصقالبة في بلاد المجر وتكلمت لغتهم، وفي سنة 973م قام (إبراهيم ابن يعقوب الأندلسي) برحلة خلال ألمانيا وبلاد شرقي أوربا، ولاحظ أن شعب البجناك ينطق باللغة الصقلبية بحكم اندماجهم في الصقالبة في (هنغاريا) ثم تمركزوا في (بوسنا) حيث يدين السكان الصقالبة بدين ((يطابق[1])) تعاليم الإسلام ويحمل اسم المذهب (البوغوميلي) فاختلط البجناك (بالبوغوميلي) وعدلوا بعض عقائدهم واندمج الشعبان وامتد دينهم إلى بلاد (هرسك) فتمسكوا بالإسلام إلى دخول العثمانيين عام 1463م.
فصمموا بعض تعاليم طبق المذهب وأصبحوا من أقوى الدعاة للدين الحنيف رغم المضايقة المسيحية حولهم.
مناطق المسلمين وشعوبهم في يوغوسلافيا:
يوجد في يوغوسلافيا ثلاثة أجناس من المسلمين (الألبان) و(الأتراك)، في الجنوب (مقدونيا) ومقاطعة (قصوة – متوخيا).
ويقطن وسط يوغوسلافيا الصقالبة في بوسنة و (هرسك) و (سنجق بني بازار) وهم الأكثرية من المسلمين وعرقهم الصقلبي أنقى عناصر الصقالبة في البلقان وكذلك في (الجبل الأسود) وفي بعض مناطق (مقدونيا).
و (صقلب) لفظة عربية تقابلها كلمة (سلاف) باللغات الأوروبية، استعملها المؤرخون العرب كأمثال (المسعودي) في ((مروج الذهب)) وغيره.
وأوسع منطقة إسلامية وأجملها وأغناها في يوغوسلافيا هي (بوسنة) مع جزئها الجنوبي (هرسك) والجنوبي الشرقي (سنجق بني بازار) بين نهر (سافا) شمالًا، ونهر (درينا) شرقًا، وبلاد (دلماسيا) غربًا، و (الجبل الأسود) جنوبًا. ولها مساحة تبلغ 564و51 ميلًا مربعًا ويسكنها مليون ونصف مليون نسمة وإذا أضفنا لهذا العدد سكان مقدونيا ومقاطعة (قصوة) يصل المسلمون في يوغوسلافيا إلى مليوني نسمة رغم أن عددًا كبيرًا يغادر بلاده إلى تركيا تحت الضغط الشيوعي الحالي.
أصل أهالي بوسنة وهرسك:
إن أجداد اليوغسلاف (أي سلاف الجنوب) من أواسط أوربا وراء جبال (كربات)، وكانوا من الوثنيين، ونزحوا إلى البلقان بينما كانت هذه البلاد مأهولة من (الألير)، وهم الأهالي الأصليون.
وقبائل الصقالب الجنوبية كانت تحمل أربعة أسماء رئيسية، أطلعت فيما بعد على الأقاليم التي تمركزت فيها على النمط التالي:
ولما تم استقرار هذه القبائل في القرن السابع الميلادي، بسطت عليها (بيزنطة) أطراف سلطنتها، ودفعت بالصقالبة لمحاربة العرب، خاصة ضد حصون (سيف الدولة الحمداني) في القرن العاشر الميلادي ولكن كان الكثير من هؤلاء الصقالبة يفرون إلى العرب ويعيشون في (حلب)، أو يقعون في أسر (سيف الدولة) فيحسن إليهم، ويدخلون في الإسلام. وذكر الصحابي (أبو ذر الغفاري) أن أربعة من الصقالبة رافقوه في سفره من دمشق إلى المدينة المنورة.
تكوين دولة يوغسلافيا:
وكان الصقالبة في هذا البلد وثنيين ولم يدخلوا في النصرانية عنوة إلا بعد منتصف القرن التاسع من الميلاد.
فأجبر (الكروات) على اعتناق الكثلكة وانضموا إلى معظم مملكة المجر سنة 1102م ماعدا جزء منهم، استولت عليه المملكة النمسوية ولما أخضعته لحكمها التعسفي سنة 1526م.
فلما امتد الحكم التركي إلى المجر، سقط الكروات تحت سيطرة العثمانيين، وبقي الجزء الآخر تابعًا للحكم النمساوي المجرى إلى نهاية الحرب الكونية الأولى سنة 1918 حين تأسست مملكة (الصرب والكروات والسلوفان).
أما الصرب فقد انفصلوا عن نفوذ (بيزنطة) وتحصنوا في جبالهم تحت قيادة أمرائهم، وكونوا ممالك متفرقة، دينها الأرثوذكسية، متزاحمة فيما بينها.
مما أدى إلى سقوطها تحت السلطنة العثمانية، التي حكمتهم إلى انعقاد مؤتمر برلين (1878) حين احتضنتهم (روسيا)، فنالوا استقلالهم وكونوا النواة لمملكة (الصرب والكروات والسلوفان) سنة 1918 تحت أسرة (قارة جورجفتش) إلى عام 1929، حيث أصبح اسمها (يوغسلافيا).
ومنذ سنة 1945 أعلنت الجمهورية الاشتراكية الشيوعية بزعامة (يوزيب بروتيتو) الذي كان يشتغل قفالًا ثم أمينًا عامًا للحزب الشيوعي الصربي (اليوغسلافي).
وكانت دولتا الكروات والصرب تعاديان مملكة بوسنة وهرسك، بايعاز من البابا.
فكانت المملكة بوسنة في حالة حروب دفاعية ضد المنطقتين المذكورتين طيلة ثلاثة قرون مليئة بالحملات الصليبية ضد كيانها الإسلامي المهدد بالفناء.
ففي عام 1463 دخل السلطان العثماني (محمد الفاتح) مدينة (سراييفو) عاصمة بوسنة ثم إلى عام 1483م أصبحت (هرسك) خاضعة للباب العالي وتبعهما (سنجق بني بازار) فشملهم السلم الإسلامي وانتشرت الحضارة وشيدت المساجد في كل قرية، منها ثمانون جامعًا بمدينة (سراي) وحدها.
إلى أن نص مؤتمر برلين (1878) على إدماج (بوسنة وهرسك) في المملكة النمساوية المجرية فقامت النمسا تفرض الكثلكة بالقوة وشيدت المحصنات العسكرية وعبدت طرقات للاحتلال العسكري، ولكن وعدت بأن يكون احتلالها مؤقتًا على أن تستمر السلطة الاسمية للباب العالي على المناطق الإسلامية في يوغوسلافيا.
فما كانت سنة 1908 حتى أعلن ملك النمسا (فرانز يوسب) ادماج (بوسنة وهرسك) وجعل الأولوية للدين الكاثوليكي كدين الدولة النمساوية – المجرية.
وفي عام 1918 احتلت (صربيا) ولا تنف (بوسنة وهرسك) والجبل الأسود وكرواسيا، وكونت مملكة (يوغوسلافيا) واستقلت من الحكم النمساوي.
وفي عام 1941 احتل هتلر وموسوليني هذه الدولة في عاصمتها (بلغراد) وفضلا (كرواسيا) عنهما على أن تكون تحت الحماية الإيطالية وتتبعها (بوسنة وهرسك) كجزء منها.
وتحت قيادة (تيتو) أصبحت يوغوسلافيا تتألف من ست جمهوريات اتحادية اشتراكية عاصمتها (بلغراد) من جديد.
[1] إن اللفظة الصقلبية ((بوغوميلي)) تعني ((أحباء الله)) وتمتد أصول هذه الفرقة الدينية بادئ ذي بدء إلى ((المانوية)) التي دخلت عليها تأثيرات مسيحية وبوذية، ثم تنقحت بعناصر إسلامية مستمرة في تسربها إلى بلاد المجر عن طريق التجار العرب ومن بعد بواسطة روايات المسافرين المجر إلى البلاد الإسلامية، ثم اقتربت من تعاليم الإسلام حتى أصبحت تطابقها، وهكذا كان ((البوغوميلي)) يصلون خمس مرات بالنهار ويعبدون الله وهم ساجدون، غير أنهم ما كانوا يؤدون الشهادتين على النمط الذي رتبه الإسلام وسيأتي فيما بعد المزيد عن تاريخ المعتقد ((البوغوميلي)) (انظر: الدكتور س.م. عبدالله/ ((الإسلام في يوغسلافيا)) المجلة الإسلامية، برلين ري غ – 1936).
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.