محمد صلى الله عليه وسلم في بيتهمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21].

إن على المسلم أن يتَّبِع هَدْيَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سائر أحواله ؛ فهو الرحمة المهداة ، والسراج المنير ، والأسوة الحسنة ، الذي مدح الله تعالى خُلقه في القرآن قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وإن هديَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – يُضرَب به أروع الأمثال ، ففي بيته يكفي أن أول من آمن به من البشر على الإطلاق كانت زوجَه خديجةَ – رضي الله عنها – دون أن ترى معجزات ، أو أن يتنزَّل القرآن ؛ بل كان دليلها على صدق نبوَّته - صلى الله عليه وسلم - ما رأته من عظم أخلاقه ، وكريم خلاله ومكارمه ؛ فعندما رجع إليها من غار حراءَ خائفًا ، قالت له: «كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا ؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» رواه البخاريُّ ومسلم.

وقد سُئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: ما كان - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: «كان يكون في مِهنَة – أي: خدمة – أهلِه ، فإذا حضرت الصلاةُ ، خَرَج إلى الصلاة» ، وفي رواية لأحمد: «كان بشرًا من البشر ، يَفْلي ثوبه ، ويحلِب شاته ، ويَخْدُمُ نفسَه» رواه البخاريُّ وأحمد.

أما تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع زوجاته أمهات المؤمنين ، فكان - صلى الله عليه وسلم - حَسَنَ العِشرة للناس جميعًا ، ولزوجاته وأهل بيته خاصةً ، فمن ذلك:

- كان ينادي زوجه بترخيم اسمها ؛ تحبُّبًا إليها ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَائِشُ ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ» قَالَتْ : فَقُلْتُ : وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَتْ : وَهُوَ يَرَى مَا لاَ أَرَى. رواه البخاريُّ ومسلم .

- وعَنْها أيضًا قَالَتْ : «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ ، فَيَشْرَبُ ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ» رواه مسلم.

- ومن رعايته وعنايته - صلى الله عليه وسلم - بمشاعر أمهات المؤمنين أنه كان يعلم رضاها وغضبها من مجرَّد كلامها ؛ روى البخاريُّ ومسلم عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى» قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: « أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً ، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى ، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ » قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.

- ومن تقرُّبه لنسائه وتحبُّبه إليهم مع دوام الودِّ ما روته عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ» رواه البخاريُّ ومسلم ، وعَنْها: «أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ». رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ.

- وكان - صلى الله عليه وسلم – يسعى لإدخال السرور على أهله ؛ فعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ ، فَسَبَقْتُهُ ، فَسَكَتَ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا ، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ ، فَسَبَقَنِي ، فَجَعَلَ يَضْحَكُ ، وَهُوَ يَقُولُ: «هَذِهِ بِتِلْكَ». رواه أحمد والنسائيُّ وصحَّحه الألبانيُّ.

- ولما رجع - صلى الله عليه وسلم - من غزوة خيبر ، وبنى بصَفيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ كان يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. رواه البخاريُّ.

- وكان - صلى الله عليه وسلم – يراضي زوجاتِه ويعدل بينهن ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها – قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ». رواه البخاريُّ ومسلم.

- وكان صلى الله عليه وسلم يتعاهد أهله بالتعليم والتوجيه والدلالة على الخير: روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى ، وَهِيَ جَالِسَةٌ ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».

- وقد وجَّه صلى الله عليه وسلم الزوجين للتعاهد على الخير؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى ، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ المَاء» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

- وكان - صلى الله عليه وسلم – يرعى حق زوجته وفاءً لها ، حتى بعد موتها ؛ روى البخاريُّ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ ، وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ».

قال ابن القيم – رحمه الله – " زاد المعاد في هدي خير العباد" (1/ 146): "وكانت سيرته مع أزواجه حُسنَ المعاشرة ، وحُسن الخُلق ، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها ، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه ، تابعها عليه ، وكانت إذا شربت من الإناء ، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب ، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها ، وكان يتَّكِئ في حجرها ، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها ، وربما كانت حائضًا.

وكان يأمرها وهي حائض فتتَّزِر ثم يباشرها ، وكان يقبِّلها وهو صائم ، وكان من لطفه وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب ، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده ، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر ، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين ، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة. وكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه ، فأيَّتُهن خرج سهمها خرج بها معه ، ولم يقض للبواقي شيئًا ، وإلى هذا ذهب الجمهور.

وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي» ، وربما مدَّ يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن.

وكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه ، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن ، فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصَّها بالليل. وقالت عائشة: «كان لا يفضِّل بعضنا على بعض في مُكثه عندهن في القسم ، وقلَّ يوم إلا كان يطوف علينا جميعًا ، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو في نوبتها فيبيت عندها»".

فصلَّى الله وسلَّم على من قال: «خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي» رواه الترمذيُّ وقال: حديث حسن صحيح.