الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن الدعوة إلى الله هي مَهمَّة الرسل ، وعليها مَدار رسالاتهم ؛ فإنما بُعثوا دعاة إلى الخير ، وهُداة للبشر ، مبشِّرين ومنذرين ، يبشِّرون من آمن بنَيل رضوان الله ، وجنات عرضها السموات والأرض ، ومنذرين من كفر بسخط الله والعذاب الأليم ؛ قال تعالى : ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء : 165] .
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في القمة من ذلك ؛ فهو خاتم المرسَلين ، وحبيب رب العالمين ، وهو سيد ولد آدم ، فقام بأداء الرسالة حقَّ القيام ، فبلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمَّة ، وجاهد في الله حقَّ جهاده .
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حريصًا أشدَّ الحرص على هداية الناس ، وتبليغ رسالة ربه تعالى ، وقد كان ذلك الحرص الذي ملأ قلبه - صلى الله عليه وسلم – لأنه كان أعرفَ الخلق بالله تعالى ، وأعلمهم بوعد الله ووعيده ، لذا ؛ كان يحرص على الناس ، ويرجو لهم الخير ورحمة الله تعالى ، ويخشى عليهم عذابه وتحقق وعيده .
ولحرصه على هداية الخلق ؛ كان حريصًا على بذل الخير للناس ، وأوقف حياته للدعوة ، وجعل همَّه هداية الناس ، وتبليغ رسالة ربِّه ، ونشر الإسلام ، ورفع راية التوحيد ؛ فصدق فيه قول الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وقد امتنَّ الله تعالى على عباده بأن بعث فيهم هذا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من أنفسهم ؛ يقول الله - عز وجل- : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة : 128] .
لم يقل : جاءكم رسول منكم ؛ ولكن قال : (من أنفسكم) ، وهي أشدُّ حساسيةً ، وأعمقُ صلةً ، وأدلُّ على نوع الوشيجة التي تربطهم به ؛ فهو بضعة من أنفسهم ، تتَّصل بهم صلة النفس بالنفس ، وهي أعمق وأشد حساسيةً ، وهو (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، يَعِزُّ ويشقُّ عليه عَنَتكم ومشقَّتُكم .
حريص عليكم ، غاية الحرص ، وغاية الشفقة ، يحب لكم الخير ، ويسعى جهده في إيصاله ، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ، ويكره لكم الشرَّ ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه ، ولا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ، فإذا كلَّفكم بما تظنونه يشقُّ عليكم وتكرهونه ، أو بركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ؛ إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .
قال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - : "فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنَّة ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - والتنويه بصفاته الجامعة للكمال ، ومن أخصِّها حرصُه على هداهم ، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفًا رحيمًا بهم ؛ ليعلموا أن ما لَقِيه الْمُعرِضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ، ما هو إلا استصلاح لحالهم . وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارِنةً لبعثة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] ، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما من شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدَّة ، وعوملوا بالغلظة ؛ تعقيبًا للشدَّة بالرفق ، وللغلظة بالرحمة ، وكذلك عادة القرآن ، فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ؛ ليدخلها من وفَّقه الله إليها"[1] .
كل ذلك الحرص ، وهذه المنَّة من الله تعالى على عباده ، كيف يقابلها الناس ؟
يُكمل الله تبارك وتعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة : 129] .
أبعد كل هذا الحرص على هدايتهم يتولَّون ؟! بعد أن رأوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم – ولمسوا منه إرادة الخير لهم ، ورغبته رغبةً ملحَّة في إيصاله للناس ، تدفعه رحمته ويحدوه الأمل في إيصال الهداية والخير للخلق بحياتهم حياة طيبة في الدنيا ، ودخولهم الجنة ونجاتهم من العذاب في الآخرة ، أبعد كل هذا يتولَّون ؟!
نعم . . إن من عجيب أمر الخلق ، أن يحرص النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – على هدايتهم ، وهم يُعرضون عنه ، لذا ؛ قال الله - عز وجل- لرسوله - صلى الله عليه وسلم – : ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف :103] .
وقال : ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل :37] .
يقول الشنقيطي - رحمه الله - : "ذكر - جلَّ وعلا - في هذه الآية أن حرص النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقيٌّ ، وأوضح هذا المعنى في مواضعَ أُخَرَ ؛ كقوله : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص : 56] ، وقوله : ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة : 41]"[2].
ويواسي الله تعالى نبيَّه مما يلقى من قومه ؛ يقول الله سبحانه : ﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل :127] .
قال الشنقيطيُّ - رحمه الله - : "الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الحُزن على الكفَّار إذا امتنعوا من قَبول الإسلام ، ويدلُّ لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم ؛ كقوله : ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل : 127] ، وقوله : ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر : 8] ، وقوله : ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء : 3] ، وقوله : ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف : 6] ، وقوله : ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة : 68] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والمعنى قد بلَّغتَ ، ولستَ مسؤولاً عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياءَ"[3] .
لقد كثر في القرآن الكريم أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ، وبيان أن العاقبة له كما كانت لإخوانه المرسلين من قبله ؛ قال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود : 49] ، وقال : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف : 35] ، وغيرها من الآيات ، وكثر أيضًا الآيات التي تذكر تحديد مَهمَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد : 40] ، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر : 77] .
يقول الله تعالى لنبيِّه – صلى الله عليه وسلم - الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود ، ما مفهومُه : أدِّ واجبك وقِفْ عنده ، فأما النتائج فليست من أمرك ، إنه يعمل وكفى ، يؤدِّي واجبه ويمضي ؛ فالأمر ليس أمرَه ، إن الأمر كله لله ، والله يفعل به ما يريد .
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.