الدعوة المعاصرة وشوائبها (1)مقالات

المستودع الدعوي الرقمي

 الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إن الدعوة إلى الله تعالى شرف وواجب ، فبها تنتشر الفضائل والمكارم ، وتنمحي الرذائل ، وتعلو كلمة الله ، ويهتدي الحيارى ، ويعزُّ الإسلام والمسلمون .

والناس في هذا الزمان في حاجة لمن يأخذ بأيديهم إلى الله تعالى ، حيث انتشر الباطل والفسق والفجور ، وأعداء الإسلام يضربون يجمعون كل قوتهم للضرب في كل قواعد الإسلام ، حتى المسلَّمات والمعلوم من الدين بالضرورة ، حتى إنهم صاروا يَصِمون كل من يلتزم بالإسلام بأوصاف سيئة بكل وسائلهم وإمكانياتهم ، ويصفون المتهتِّكين البعيدين عن الدين بأوصاف حسنة ، وكأنهم يدعون الناس إلى اتباعهم .

ووسط هذا الواقع الضبابي ، يحتاج الدعاة إلى الله إلى مهارة ومواهبَ وابتكار وتجديد في الدعوة إلى الله تعالى للوصول إلى الناس بأيسر السُّبل ، وعدم تركهم يغرقون في لجج الباطل والفسق والفجور .

ويحتاج الدعاة إلى الله إلى التغلب على الصعوبات والمعوِّقات المعنوية والمادية التي تعترض سير الدعوة إلى الله تعالى ، والشوائب التي تُزري بصفائها ، وإن كان هناك تشابه في هذه الصعوبات والمعوقات والشوائب التي تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة في كثير منها ، فإنها تتفاوت من بلد لآخَرَ من حيث القوةُ والضعف ، والأسبابُ والمظاهر ، وسُبل العلا؛ بيد أنه لا تخلو بيئة من معظمها ، وهي كثيرة، يصعب أن نستوعبها، فسنتحدث في هذا المقال عن بعض الشوائب الظاهرة :

الفتور لدى الدعاة :

إن مِن أخطر الأمراض التي تصيب الدعاة إلى الله تعالى الفتورَ ؛ فالفتور هو السكون بعد حدَّة ، واللين بعد شدَّة ، والانكسار والضعف بعد صلابة وقوة ، فخطورة الفتور أنه يصيب الدعاة أهل الإيمان المجتهدين الأقوياء ، الذين يحرصون على الاجتهاد والكمال .

وإن الناظر في حال الدعاة إلى الله تعالى على اتِّساع الأمة الإسلامية يجد تقهقرًا وفتورًا عن القيام بالواجب الدعوي عامَّةً؛ وربما يرجع ذلك للأسباب التالية :

- عدم تصوُّر كثير من الناس للمعنى الشامل للدعوة ، وتصوُّرهم أن الدعوة محصورة في الخطابة على المنابر ، أو ندوات ومحاضرات وكلمات مرتجَلة توجَّه لجموع المدعوِّين ، فإذا لم يستطع شيئًا من ذلك ، انصرف عن القيام بالواجب الدعويِّ بالكلية؛ بسبب قصور فهمه لمعنى واجب الدعوة إلى الله تعالى .

- التعرُّض أو خوف التعرُّض لما يؤذيه أو يمكِن أن يؤذيَه ، فيطلب الراحة والسلامة ، وربما يفضِّل الكسل والدعة والرفاهية ، والبُعد عن الجدِّية والعزيمة دون وَجَل من شيء ، ومن أكبر الآفات التي تواجه الدعوة في هذا الزمان آفة الدعة والرفاهية.

- يبتعد كثير من الدعاة عن القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى بسبب الانشغال ببعض القضايا الفكرية التي تُغرقهم في الجدل والمراء ، فلا يجد وقتًا ولا طاقة ولا فكرًا للاهتمام بالدعوة إلى الله ، أو الاهتمام بالنهوض بالأمة في أعمالها وسلوكها وأخلاقها .

- انشغال كثير ممن يصلحون أن يكونوا من أهل الدعوة بالبحث والتنقيب عن عيوب الناس ، خاصَّةً عيوبَ الدعاة والعاملين في حقل الدعوة ، والسعي لنشرها وتضخيمها ، وبثِّ الفُرقة والخلاف والشحناء والبغضاء في نفوس الناس ، وتكاد تكون هذه هي الدعوةَ في منظورهم .

 

ولا بد من علاج تلك الشوائب لدى البيئة الدعوية ؛ لأن بقاء هذه الشوائب دون علاج يؤثِّر سلبيًّا على حقل الدعوة إلى الله .

ونُجمِل طرق العلاج فيما يلي :

- لا بدَّ من توجيه الدعاة والبثِّ في نفوسهم أهمية الدعوة إلى الله تعالى للداعية في الدنيا والآخرة ، وأنها شرف وواجب ، وهي مَهمة الأنبياء والرُّسل ، ويكفي الداعية شرفًا وفضلاً قول الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33]؛ أي : لا أحد أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله ، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته ، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى ، ليس له فيها إلا التبليغ .

- على المسلم أن يدعوَ إلى الله تعالى بما وهبه الله من مواهب ، لا يُشترط أن يكون خطيبًا مفوَّهًا ؛ بل إن وسائل الدعوة كثيرة ، خاصَّة في العصر الحديث ، وما استُحدث فيه من وسائلَ هائلةٍ كشبكة الإنترنت ، وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ولو آيةً واحدة؛ حتى يسارع كل مسلم إلى تبليغ ما بَلَغه من الشرع مهما قلَّ ، وحتمًا سيصل كل ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل كل مسلم ذلك؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رواه البخاريُّ .

- على كل مسلم أن يستشعر المسؤولية العظمى تُجاه دينه وأمَّته ، ودوره في مواجهة التحديات التي تواجهها ، والسعي للنهوض بأمته ، ورفع الجهل عنها ، ومعالجة عللها وأدوائها ، خاصَّةً الدعاةَ إلى الله ، الذين التزموا بدينه وشرائعه ، أهل الخير والدعوة إليه ، الذين يغترفون من مَعين الحق؛ فهؤلاء هم أجدر الناس للقيام بذلك بعزيمة وقوة .

- يجب على العلماء والدعاة القائمين على أمر الدعوة ، أصحاب الخبرة والبذل والعطاء ، الذين وهبوا حياتهم للدعوة إلى الله ، أن يوجِّهوا الناس إلى القيام بواجبهم تجاه الدعوة إلى الله ، ودعوتهم للانخراط في مجالات العمل الدعوي المختلفة ، ويحفِّزوهم ويحضُّوهم على ذلك ، ويوجِّهوا كلًّا منهم إلى ما يُحسنه ، مستغلِّين المواهب والإمكانياتِ المختلفة لديهم ، فيفتحوا لهم آفاق الدعوة التي يمكِنهم العمل من خلالها .

- الاهتمام بالحديث عن أمراض القلوب ، ومعالجة الشوائب التي تصيب الدعاة؛ مثل الحديث والوعظ بالبعد عن الاشتغال بالجدل والمراء ، والبحث عن عيوب الآخرين ، والخوض في الأمور التي تؤجِّج الخلافاتِ بين الدعاة ؛ لأن ذلك مما يقسِّي القلب ، ويورث الضغائن بين الناس ، ويصدُّ القلب عن الاشتغال بما ينفع العبد ، وينفع الدعوة والناس ، فليبتعد المرء عن المراء والجدال ، وليشتغل بنشر الخير وتأليف القلوب على الحقِّ .

- دعوة أهل الدعوة للتأسِّي بذوي الهِمم من السلف والخلف ، والتقرُّب ممن يوصف بذلك من مخالطيهم من الدعاة ، والبُعد عن المتقاعسين والقاعدين والكسالى ، وأهل الجدل والمراء ، ومن جُلُّ همِّهم أن يعيبوا الناس والدعاة .

وشوائب الدعوة كثيرة جدًّا، وللحديث بقية.