الدعوة شرف وواجبمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:

إن الدعوة إلى الله تعالى هي أشرفُ الأعمال وأعظمها ، وهي مَهمَّة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ومن أكبر النعم على المرء أن يحظى بشرف الدعوة إلى الله تعالى ، ويكفي شرفًا من يبلِّغ ما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه يدخل في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33] ، وهذا استفهام تقريريٌّ ؛ أي : لا أحدَ أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله ، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته ، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى ، ليس له فيها إلا التبليغ .

إن الدعوة مُكلَّفٌ بها كلُّ المسلمين ، كلٌّ حسب طاقته ومقدرته ، وقد أمر الله المؤمنين أن يدعوا إلى الله تعالى ، ويكفي الداعية شرفًا وجزاءً وكرمًا من الله أن يكون من المفلحين ؛ قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران : 104] .

قال ابن كثير : " وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ فرْقَة مِنَ الأمَّة مُتَصَدِّيَةٌ لِهَذَا الشَّأْنِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِحَسْبِهِ "[1] .

ويكفي الداعيةَ جزاءً وأجرًا دخوله في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ))[2] .

وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ ))[3] .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فواللهِ ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))[4] .

إن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور ، يمكِنك ممارستها في كل أحوالك ؛ فإنها لا تشترط أن يقوم بها المختصون أو المدرَّبون أو مَن وظيفتُهم الدعوة ؛ بل يمكن أن يقوم بها كل مسلم ، حتى لو نشر آية أو حديثًا أو ذِكرًا ، فيؤجر على ذلك .

وإن الدعوة هي البلاغ والإنذار ، تبليغ الناس رسالة الإسلام ، ودعوتهم إلى الإيمان بالله وحده ، وإخلاص العبادة له ، وإنذار المنحرفين عن دينه بأن لهم عذابًا أليمًا .

قال ابن تيمية – رحمه الله - : " الدعوة إلى الله : هي الدعوة إلى الإيمان به ، وبما جاءت به رسله ، بتصديقهم فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا "[5] .

وبالدعوة تستقيم أمور الخَلق وتصلح مَعايشُهم ، ويتوجَّه المذنب إلى التوبة ، والعاصي إلى الطاعة ، والكافر إلى الإسلام ، وبالدعوة يكون المسلم في رحاب رضوان الله تعالى .

ولا بدَّ للدعوة إلى الله تعالى من داعية يمتثل وجوبها ، ويَعرِف شرفَها ، فيحمل همَّ دعوته ، ويعرف ماهيتها وغايتها ، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة ، وما يجب عليه من التحلِّي بالأخلاق الحسنة والشيم الكريمة ؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي .

وإذا كانت الدعوة هي إخبارَ الناس بدينهم ، وهذا لا يكون إلا بعلم وتثبُّت وحُجَّة مقنعة ، كان لا بد أن تكون هناك علوم تعين الداعية على إبلاغ الرسالة للناس ، علوم دينية ودنيوية تؤهِّل الداعية وتنير له صراط دعوة الناس إلى ربهم ؛ أي : إن الدعوة هي نداء الناس ، وحثُّهم على الدخول في دين الله تعالى بكل وسيلة ممكِنة ، والارتقاء بالدعاة ، ورفع مستواهم العلمي والأخلاقي ، ويكفيهم بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لهم إذ يقول : (( إن الله وملائكتَه وأهلَ السموات والأرض ، حتى النَّملةَ في جُحْرها ، وحتى الحوتَ ، ليُصلُّون على معلِّم الناس الخيرَ )) [6] .

وقد ذكر الله تعالى كيفية الدعوة في قوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125] .

قال ابن القيِّم - رحمه الله - : " أَطْلَقَ الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِوَصْفِ الْحَسَنَةِ ؛ إِذْ كُلُّهَا حَسَنَةٌ ، وَوَصْفُ الْحُسْنِ لَهَا ذَاتِيٌّ ، وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ ، فَقَيَّدَهَا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةً ، وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ ، قَدْ يَكُونُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ "[7] .

والدعوة تحتاج إلى بصيرة ؛ كما قال تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف : 108] ، بصيرة في كل أمور الدعوة ، ومنها مراعاة حال المدعوين ومستواهم العقليِّ ، فما يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر ، وما يفهمه أحد المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ ؛ قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟!"[8] .

إن على العبد المؤمن أن يتحيَّنُ كلَّ فرصة سانحةٍ ؛ لكي يسابق بالخيرات ، ويزاحم الآخرين بالطاعات ، ويدعو إلى ذلك ، فينال أجره وأجورهم ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)) .

وروى الترمذيُّ بسند صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ يَسْتَحْمِلُهُ ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُهُ ، فَدَلَّهُ عَلَى آخَرَ فَحَمَلَهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم – فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : (( إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه )) .

وما أشرفَ قولَ رِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ لكل داعية : " اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَتِهَا ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ "[9] .

 

[1] تفسير ابن كثير (2/ 91).

[2] رواه مسلم.

[3] رواه مسلم.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] مجموع الفتاوي 15/ 157.

[6] رواه الترمذي، وصححه الألباني.

[7] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 444).

[8] رواه البخاريُّ.

[9] البداية والنهاية لابن كثير (7/ 39).