المرأة المسلمة إذ تصنع العلماء والأبطالمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إن المرأة هي عماد الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم ، ومن ثم كانت مكانتها وتأثيرها في بناء الأمَّة ، والحفاظ عليها ، والدفاع عنها ، في غاية الأهمية ، وإن المرأة هي مصنع الحياة ، منذ أن ينشأ الجنين في بطنها ، وهي التي تصنع الحياة في بيتها ، وهي التي تنظّم حياة الأسرة وترتّبها .

وإن الله تعالى قد افترض على الآباء والأمهات رعاية أبنائهم وتربيتهم وتعاهدهم بما يصلح أمور دنياهم وأخراهم ، وجعل هذه الرعاية والمسؤولية مشتركة بين الأب والأم معًا ، وليست مقتصرة على أحدهما دون الآخر ؛ بَيْدَ أن الأم مُلزَمة بالعبء الأكبر في ذلك ؛ لأنها أكثر ملازمة للأولاد منذ ولادتهم ، وأكثر خلطة بهم .

وإن المرأة ليست وظيفتها محصورة في المأكل والمشرب ونظافة البيت ؛ بل إن وظيفتها رعاية بيتها وزوجها وأبنائها ؛ فهي مَن يرسِّخ في نفوس الأبناء المعانيَ والمفاهيم ، والقيم والآداب ، فوظيفتها أن تكون مربِّية أجيال الأمة ، وصانعة رجالها ، والمدرسة الأولى في بذر الأخلاق في أولادها وتنميتها ؛ فعن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : (( كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ . . . . وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا . . .)) رواه البخاريُّ ومسلم .

قال حافظ إبراهيم :

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها = أَعدَدتْ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوْضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيَا = بِالرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُسْتَاذُ الأَساتِذَةِ الأُولى = شَغَلَت مَآثِرهُمْ مَدَى الآفَاقِ

والتاريخ الإسلامي مليء بالصفحات المشرقة التي سطِّرت بقصص نساء أدَّين أدوارهن ، وقمن بواجباتهن ، وصنعن رجالاً وأبطالاً رفعوا راية أمة الإسلام في كافة المجالات السياسية والعلمية والأدبية وهلم جرًّا .

لذا ؛ كان دور البيت خطيرًا ، فهو أساس المجتمع والأمة ، وأخطر كثيرًا من دور المجتمع بمدارسه وإعلامه وأنديته وأجهزته ، فالبيت هو الذي ينشِّئ الطفل في أهم وأخطر مراحل حياته ، مرحلة الطفولة ، وهي مرحلة تأسيس الإنسان ، فتجدها في بني الإنسان أطول منها في سائر الكائنات الحية الأخرى ؛ حتى تتوفر فترة أطول لتربيته وتأسيسه .

  فلو قرأت مثلاً سير العلماء ، الذين ما زالت الأمة تنهل من علمهم ، وتسير في ركابهم ، ومن كان صاحب الفضل عليهم ، لعلمت أثر دور المرأة إذا قامت به كما ينبغي .

ولقد اهتم الإسلام بتذليل الصعاب أمام المرأة للقيام بمَهمتها ؛ مثل عدم شغل المرأة بما يؤثر على وظيفتها ، فجعل نفقتها ومؤنتها على الرجل ، وجعل قرار المرأة في بيتها هو الأصل ، وحرم اختلاطها بالرجال ؛ حتى تتفرَّغ المرأة لمهمتها الأساسية بتربية أبنائها ورعاية زوجها .

بيد أنه لكي تتمكن الأم من القيام بوظيفتها ؛ فيجب إعدادها بما يساعدها في القيام بمَهمتها ؛ حتى تكون أمًّا واعية صالحة ، ملتزمة بتعاليم دينها ، ومحافظة على قيم مجتمعها ، ومطَّلعة على ثقافة عصرها ، ومتفاعلة مع قضايا الأمة ؛ ومن ثم تخرج لنا أجيالاً من الأبطال والعلماء .

ولقد أدرك أعداء الإسلام خطورة دور المرأة في بعص الأمة الإسلامية ، فاستفرغوا وسعهم لشغلها عن القيام بوظيفتها ، وإدخالها في أوهام ومتاهات ، فسخَّروا كل إمكاناتهم لإخراج المرأة من بيتها بمزاعم ودعاوى شتَّى ، حتى مناهج تعليم النساء في المدارس والجامعات لا تهتم ببناء المرأة المسلمة الصالحة ، وإعدادها للقيام بمهمتها ، فلا تجد في تلك المناهج ما يعلمها دورها في رعاية زوجها ، وتربية أولادها ؛ وإنما تدرَّس لها نفس المناهج والمقررات التي تدرَّس للرجال ؛ حتى تتخرج المرأة بعد ذلك فتزاحم الرجال في وظائفهم وأماكن عملهم ، وتبتعد عن وظيفتها الأساسية ؛ ليسود المجتمع الإسلامي التفكك والسقوط الأخلاقي .

ولو نظرنا إلى مراحل سيادة حضارة الأمة الإسلامية ، فسنجد أن الأمهات كن هن صناع نهضة الأمة الحقيقية ، من خلال بناء جيل من الرجال استطاع تحمُّل الأمانة ، وعاش مهمومًا برسالته ، وسعى لتمكين رسالة الإسلام في الأرض ، وشيَّد بناء حضارة من أكبر الحضارات في تاريخ البشرية ، وهاكم بعض النماذج :

فهذا عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – الذي إذا ذكر اسمه قرَّ في الأذهان العدل والرحمة والعظمة والجلال ، كانت أمُّه أمَّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، ذات النسب الشريف والصفات النبيلة ، وأمها التي اتخذها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - زوجًا لابنه عاصم ؛ لما رأى من تقواها وورعها وصدقها في إنكارها على أمها ، وهي التي نزعت به إلى خلائق جَدِّه الفاروق .

وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر ، الذي نشأ يتيمًا ، حيث قَتَل عمُّه أباه ، فربَّته أمُّه ، فلما كبر وولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن وسفك الدماء ، فأصلحها حتى قرَّت له ، ثم أخذ يفتح الحصون حتى وصل إلى فرنسا ، وأصبحت قرطبة مقرَّ خلافته يحتكم إليها ملوك أوروبا ، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها .

وسفيان الثوري - رحمه الله - فقيه العرب ومحدِّثهم ، وأمير المؤمنين في الحديث ، ما كان إلا ثمرة أم صالحة ، حفظ التاريخ لنا مآثرها وفضائلها ؛ فقد ربَّته على حب طلب العلم ، والاشتغال به .

عن وَكِيْعٍ " سير أعلام النبلاء (6/ 645) " قَالَ : " قَالَتْ أُمُّ سُفْيَانَ لسفيان : اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي ، فَإِذَا كَتَبتَ عِدَّةَ عَشَرَةِ أَحَادِيْثَ ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةً فَاتَّبِعْهُ ، وَإِلاَّ فَلاَ تتعنَّ "  ؛ أي : فلا تتعب نفسك ، ولا تهتم بذلك كثيرًا ، فكانت - رحمها الله - تعمل ، وتعوله ؛ ليتفرغ للعلم ؛ بل وكانت تتخوَّله بالموعظة والنصيحة ؛ قالت له ذات مرة : " يا بني ، إذا كتبت عشَرة أحرف ، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك ، وحلمك ووقارك ، فإن لم تر ذلك ، فاعلم أنها تضرك ، ولا تنفعك " ، وقد عمل سفيان بوصيتها وتوجيهها ؛ فصار بعد ذلك كما قال المثنى بن الصباح : " سفيان عالم الأمة وعابدها " ، وقال شعبة : " ساد سفيان الناس بالورع والعلم " ، وقال ابن عيينة : " ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري "  ، وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ : قَالَ لِي ابْنُ عُيَيْنَةَ : " لَنْ تَرَى بِعَيْنَيْكَ مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَتَّى تَمُوْتَ "  . " سير أعلام النبلاء (6/ 626) " .

أما الإمام الثقة الثبت ، إمام أهل الشام وفقيههم ، أبو عمرو الأوزاعي ، فذلك الحبر البحر كان أيضاً ثمرة أم عظيمة ؛ قَالَ العَبَّاسُ بنُ الوَلِيْدِ " سير أعلام النبلاء (6/ 543) " : " فَمَا رَأَيتُ أَبِي يَتَعَجَّبُ مِنْ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا تَعَجُّبَهُ مِنَ الأَوْزَاعِيِّ ، فَكَانَ يَقُوْلُ : سُبْحَانَكَ تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ ، كَانَ الأَوْزَاعِيُّ يَتِيمًا فَقِيْرًا فِي حَجْرِ أُمِّهِ تَنقُلُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ، وَقَدْ جَرَى حُكْمُكَ فِيْهِ أَنْ بَلَّغْتَه حَيْثُ رَأَيتُه يَا بُنَيَّ عَجَزَتِ الْمُلُوْكُ أن تؤدِّب أنفسها وَأَوْلاَدَهَا أَدَبَ الأَوْزَاعِيِّ فِي نَفْسِه ، مَا سَمِعْتُ منه كلمة قط فاضلةً إلَّا احْتَاجَ مُسْتَمِعُهَا إِلَى إِثْبَاتِهَا عَنْهُ ، وَلاَ رَأَيتُهُ ضَاحِكاً قَطُّ حَتَّى يُقَهْقِهَ ، وَلقَدْ كَانَ إِذَا أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْمَعَادِ أَقُوْلُ فِي نَفْسِي : أَتُرَى فِي المَجْلِسِ قَلْبٌ لَمْ يَبْكِ؟! " .

قال النوويُّ - رحمه الله - : " وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو مرتبته ، وكمال فضله ، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه ، وغزارة فقهه ، وشدة تمسكه بالسنة ، وبراعته في الفصاحة ، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم بمرتبته " .

وتاريخنا الإسلامي مليء بالنماذج والأمثلة والشواهد على دور الأمهات في صناعة العلماء والأبطال ، ولله در المتنبي حين قال :

‏ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا = لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ

فما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ = ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ

1 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً