الدواء لفتور النفس عن الطاعةمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إن مِن أخطر الأمراض التي تصيب أهل الطاعة والصلاح والدعوة إلى الله : الفتورَ ؛ الفتورَ في الطاعة والعبادة ؛ كصيام النوافل ، وقيام الليل ، والذكر ، وقراءة القرآن ، والفتورَ في طلب العلم ، والدعوة إلى الله ، وهلم جرًّا .

الفتور هو السكون بعد حدَّة ، واللين بعد شدَّة ، والانكسار والضعف بعد صلابة وقوة ، فخطورة الفتور أنه يصيب أهل الإيمان المجتهدين الأقوياء ، الذين يحرصون على الكمال في الدين ، الذين قال الله فيهم : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [ آل عمران: 191 ] ، { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] .

وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم – المؤمنين ألا يتركوا الطاعة بالكلية حين الفتور ؛ وعالج هذا الأمر في كثير من الأحاديث ، منها :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )) متفق عليه .

وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : (( لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ )) متفق عليه .

وعن حنظلة الأسيدي قال : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَة ُ؟ قَالَ : قُلْت ُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ . قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ ؟! قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا . فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (( وَمَا ذَاكَ؟! )) ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فنَسِينَا كَثِيرًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُم ؛ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً )) ثَلاثَ مَرَّاتٍ . رواه مسلم .

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : (( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي ، فَقَدِ اهْتَدَى ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَقَدْ هَلَكَ )) رواه أحمد والبيهقيُّ ، وصحَّحه الألبانيُّ .

وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ )) متفق عليه .

وعلى المؤمن أن يتعامل مع الفتور وهو عرَضيٌّ ، ويحرص على التخلص منه ، حتى يرى طاعته وعافيته أقوى مما كانت عليه قبل المرض ، قبل أن يستفحل المرض ويصير مرضًا عضالاً يفتك بإيمانه ، ويهلكه ؛ فكما أن التنبه للمرض الحسي في بداياته ، والسعي لعلاجه من حين ظهور أعراضه ، يُعزز فرص الشفاء بإذن الله تعالى ، فإن اهتمام العبد بما يصيبه من ضعف في طريق سيره إلى الله عز وجل ، واجتهاده في إزالة ذلك الخمول ومقدماته ، يعين على تجاوز فترات الإحجام والتراجع ، ويشحذ الهمة ، ويدفع العبد للإقبال على الله تعالى بعزيمة ونشاط ورغبة .

علاج الفتور :

- الاستعانة بالله - عز وجل - وصدق الدعاء والإلحاح في طلب الثبات والتوفيق ؛ وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (( أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ )) رواه البيهقيُّ ، وصحَّحه الألباني ؛ فكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- عقب الصلاة : (( اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ )) رواه أحمد وأبو داود ، وصححه الألبانيُّ ، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ )) متفق عليه ، وليُكثرْ من الدعاء : يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ .

 - دوام المجاهدة والاجتهاد في شَغل النفس بالحق والطاعة والخير ؛ { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت : 69] ، قال الحسن : " نفسك إن لم تشغلها بالحق ، شغلتك بالباطل " .

- المداومة على ذكر الله ؛ فهو جلاء القلوب من صدئها ، وشفاؤها من أمراضها ، ودواؤها عند اعتلالها ، وهو روح الأعمال الصالحة ؛ فالذكر مرضاة للرحمن ، مطردة للشيطان ، مزيل للهمِّ والغمِّ ، جالب للرزق والفَهم ، به تطمئنُّ القلوب ، وتبتهج النفوس ، وتنشرح الصدور ؛ { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[ الرعد :28 ] .

قال ابن القيم - رحمه الله – "الوابل الصيب (ص 71)" : " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى ، وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلاً قال للحسن : يا أبا سعيد ، أشكو إليك قسوة قلب . قال : أذبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة ، اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل " .

- تعاهد الإيمان ومراقبة القلب دائمًا ؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إِنّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ ، فاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُم )) رواه الطبرانيُّ والحاكم ، وصحَّحه الألبانيُّ .

- الرفق بالنفس ، وأخذها باليسر ، وعدم إلزامها بما لا تُطيق ؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : (( أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )) ، وَقَالَ : (( اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )) رواه البخاريُّ ومسلم .

- كثرة ذكر الموت ؛ فإنه يجعل همَّ المرء الآخرة ، ويدفعه إلى العمل لها ، وتعاهد نفسه ومحاسبتها ، وتجديد التوبة ، وإيقاظ العزم على الاستقامة ، والتجافي عن دار الغرور .

- ترك العزلة وقت الفتور ، ومخالطة الأبرار ، وصحبة ذوي الهمم العالية ، وقراءة قصص وأخبار السلف والخلف منهم ، وزيارة أهل الخير والفضل ، وحضور مجالس العلم والذكر ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الرجل على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل )) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي : حديث حسن ، والحذر من مجالسة الأشرار ، وهجر البيئة المثبِّطة المؤثرة بالفتور ، الداعية إلى الكسل والخمول .

- الاعتناء بطلب العلم ، والعمل به ، ونشره ؛ فالعلم يصعد بالهمَّة ، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال ، فيتَّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد ، ويوازن بين الحقوق والواجبات ، ويبصِّره بحيل الشيطان واستدراجه .

- الحذر من اتباع خطوات الشيطان ، والوقوف عند حدود الله تعالى ، والبعد عن جميع المعاصي والسيئات في كل الأوقات والحالات ؛ وليحذر العبد في حالة الفتور أن يستدرجه الشيطان للتجرؤ على حرمات الله تعالى ؛ قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور : 21]

- الاهتمام بالأعمال التي يتعدى نفعها للغير ؛ كزيارة المرضى ، واتباع الجنائز ، وعدم قصر النفس على لون واحد من التعبد ، والإكثار من الصدقات .