إن التحدُّث عن آداب الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – مما لا يشبع منه العلماء، ولا تمله النفوس المؤمنة على كثرة الترداد، ولا يقضى منه العجب، ومهما كتب الكاتبون وتحدث المتحدثون فلن يوفوا هذا النبي الأمي العربي حقه من الشكر والثناء عليه بما هو أهله، ولن يميطوا اللثام عن كل ما له من الفضائل والآداب السامية والجوانب النفسية المستورة، وكيف وقد جعله الحق تبارك وتعالى مثالاً للكلمات الإنسانية في عصره وفيما قبل عصره، وستبقى السيرة النبوية الوضيئة مشغلة العقل البشري حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وصدق القائل:
وَعَلَى تَفَنُّنِ مادِحِيهِ بوصفهِ = يَفْنى الزّمانُ وفيه ما لم يُوصَفِ
ولن أستطيع – في مقال – أن أتكلم عن الأدب المحمدي؛ فذلك أمر يطول؛ ولكنني سأتناول جانبًا من الجوانب الأخلاقية العالية في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم – ومعاملته لأصحابه ومن يعرف ومن لا يعرف من الناس، وهو نوع من الآداب اصطلح الناس على تسميته بـ"الآداب الاجتماعية" مما يتعلق بأدب الحديث، وأدب اللقاء، وأدب المجالسة والمؤانسة، وأدب الحفاظ على الود وعرفان الجميل والإثابة عليه، إلى نحو ذلك من الآداب.
وقد أوفى رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – في هذا المضمار على الغاية، وحاز قصب السبق، ولم يكن هذا الأدب العالي عن تصنع وتكلف – كما يفعل كثير من الناس اليوم – ولكنه أدب الطبع الهادئ، والنفس المطمئنة، والفطرة السليمة، والعاطفة الخيرة، والعقل الكبير.
فمن ذلك أدبه - صلى الله عليه وسلم – في إجابة الداعي، وفي لقاء الأصحاب بالبشاشة والترحاب؛ قالت عائشة – رضي الله عنها -: "ما كان أحسن خلقًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: ((لبيك))".
وها نحن اليوم في القرن العشرين، قرن الحضارة والرقي كما يقولون، ولم نصل إلى هذا الأدب في إجابة النداء.
وحدَّث جرير بن عبدالله قال: "ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم".
ومع ما كان عليه رسول الله من الجد وترك الهزل فقد كان يمازح أصحابه مزاح الأدب والوقار، ولا يقول حين يمزح إلا حقًّا، وكان يخالطهم ويحادثهم ويسأل عمن غاب منهم، ويكنيهم ويدعوهم بأحب أسمائهم إليهم؛ تكرمة لهم وإدخالاً للسرور على أنفسهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، وربما تلقاه المرأة في الطريق فتستوقفه فيصغي إليها حتى تنتهي من عرض حاجتها، ويأخذ العفو من أخلاق الناس وطبائعهم، ويقبل عذر من اعتذر إليه، ويعود المرضى مهما بعدت ديارهم، ويدعو لهم بخير، ويبصرهم طريق الهدى والفلاح.
ومن أدبه العالي في الحديث والمصافحة والسلام أنه كان لا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام، وإذا استمع إلى مسارة إنسان لا يُعرض عنه حتى يكون المسار هو الذي يعرض؛ قال أنس رضي الله عنه: "ما التقم أحد أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ".
وكان يبدأ أصحابه بالمصافحة، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويسلِّم على من يعرف ومن لا يعرف.
ومن إرشاداته السامية: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))، ويسلم على الرجال والصبيان، ولا يخفى ما في هذا الأدب من تأليف القلوب وغرس المحبة في النفوس وإشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس.
ولم ير رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس، ولا مادًّا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد؛ فأين من هذا الأدب السامي ما يفعله بعض الرجال والنساء اليوم في المحافل والمركبات العامة من مد الرجلين ووضع الساق على الساق في غير تأدب ولا احتشام؛ مما يضيق على الجالسين والمارة، ويؤذي الشعور الحي، وتتقذذ منه النفوس السليمة.
ومن أدبه - صلى الله عليه وسلم – في لقاء الوافد إليه أنه يكرم وفادته، ويبالغ في بره، ويتلقاه بالبشر والترحيب، وربما بسط له ثوبه، وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها، ولم نعلم أحدًا أعرف للجميل وأحرص في المكافأة عليه منه - صلى الله عليه وسلم – وكيف وهو القائل: ((من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه عليه، فإن لم تقدروا فادعوا له بخير)).
ولما وفد عليه وفد النجاشي قام يخدمهم بنفسه، فقال له الصحابة: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: ((إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)).
ولما جيء بأخته من الرضاع الشيماء في سبايا هوازن وتعرفت عليه، بسط لها رداءه، وقال لها: ((إن أحببتِ قمتِ عندي مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك)) فاختارت قومها، فمتعها.
وحدَّث أبو الطفيل فقال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم – وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته".
وعن عمرو بن السائب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كان جالسًا يومًا فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأجلسه بين يديه.
ومن برِّه وعطفه وعرفان الجميل لكل من أسدى إليه معروفًا أنه كان بعد وفاة السيدة الجليلة خديجة زوجه يذبح الشاة ثم يقول: ((أرسلوا منها إلى صويحبات خديجة))، وكان يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل: ((من بقي من قرابتها؟))، فقيل: لا أحد.
هذه بعض الآداب المحمدية، وهي أرقى ما يطمع فيه مجتمع راقٍ متآلف، وأفضل ما تصبو إليه النفوس والفطر السليمة؛ لأنها صدرت عن آدب الناس وأعقلهم وأطهرهم فطرة وأعظمهم خلقًا، فكونوا – يا بني الإسلام – محمديين في أخلاقكم وآدابكم، وكونوا بها مجتمعًا إسلاميًّا صحيحًا، ودعوا ما وفد إلينا من عادات وتقاليد لا تتفق هي وديننا؛ فقد بُلِيَ المجتمع الإسلاميُّ بعادات وأوضاع سقيمة، ووجدت من بعض ضعاف النفوس هوى وقبولاً، فإياكم وإياها، واتبعوا آداب من أدبه ربه فأحسن تأديبه، وخاطبه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).
المصدر: (مجلة الأزهر، غرة ربيع الأول 1375هـ، 18 أكتوبر 1955م، الجزء الثالث، مجلد 27، ص243-245)
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.