الجوار الأعظممقالات

طه محمد الساكت

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ وهم فَوْقَ رُؤوسِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ((مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!)) رواه الشيخان.

***

إذا كان عظم الجوار على مقدار عظم الجار، فلا ريب أن جوار الله عزَّ سلطانه، أجلُّ جوار وأعظمه، وأن حماه تعالى شأنه أعزُّ حمى وأكرمه، وأين جوار الخلق أجمعين من جوار الخلاق العظيم؟! بل أين حمى العبيد، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، من حمى الملك المجيد، الذي له ملك السموات والأرض، ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرًا؟!

***

إن ذلك الجوار الأعظم الذي نعنيه، هو الذي عناه الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم – في حديثه هذا لصاحبه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الجوار الخاصُّ الذي يختص الله به عباده المقرَّبين من النبيين والصديقين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، على درجات لا يحصيها إلا من أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا، وهو جوار المعية الإلهية الخاصة، والصحبة الربانية المقدَّسة، التي حرمها الله على أعدائه؛ لأنهم نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن الله فأعرض الله عنهم، واقرؤوا إن شئتم قوله عزَّ جاره: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُون} [الأنبياء: 42، 43].

***

وثَمَّ جوارٌ إلهي آخر، وهو جوار المعية العامة الشاملة، معية إحاطته تعالى بخلقه، علمًا وقدرة وجزاءً، لا تخفى عليه منهم خافية، تلك المعية التي يشير إليها قوله جلَّت قدرته: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وينبئ عنها قوله تعالت عظمته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

وشتَّان ما بين الجوارين؛ فذاك جوار التكريم والتأييد والتسديد، وهذا جوار المحاسبة والإنذار والتهديد.

ولا يضير هذا الجوار الكريم وأهله أن يأخذوا في أسبابه، وأن يعدُّوا العدَّة له، ما داموا بربهم معتصمين، وعلى ربهم متوكلين، فإن الاعتصام بالله تعالى والتوكل عليه أساس هذا الجوار وعماده، وقد أمر الحكيم العليم الذي ربط الأسباب بالمسببات، والوسائل بالغايات، أمر عباده ألا يلغوا هذه الأسباب، فيلغوا معها حكمته، وألا يغلوا فيها، فيجحدوا بهذا الغلوِّ مشيئته وقدرته.. وهذا سيد المتوكلين يأخذ مع أول الصديقين بكل أسباب النجاة في هجرتهما إلى الله، حتى إذا أحسَّ الصديق وقع أقدام الكفَّار فوق الغار ألم وحزن، وخشي أن يصاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأذى لا يستطيع الصدِّيق أن يدفعه أو يحمله – وهو أول من يفتديه بنفسه وماله – طمأنه – صلوات الله عليه وسلامه – بأن الله معهما، وأنهما اثنان الله ثالثهما، وقد اعتصما به وحده دون خلقه، فلو أن السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن، كادوا لهما، لجعل لهما من هذا الكيد فرجًا ومخرجًا.

وقد ظاهر – صلوات الله عليه – في الحرب بين درعين، وكان يصلي في الحرب صلاة الخوف بطائفة بعد طائفة، وهم آخذون حذرهم وأسلحتهم، مع أنهم جميعًا في أعظم الجوار، وأمنع الحمى.

بل لا يضير هذا الجوار الكريم وأهله أن يكونوا – بجوارحهم لا قلوبهم – في جوار أحد من الناس وضمانه، ما دام هذا الجوار سببًا كريمًا مشروعًا، ووسيلة سائغة للخير والهداية. لا جرم أن المجير مع المجار كليهما في جوار الله حينئذ.

ولما عاد – صلى الله عليه وسلم – من الطائف لم يستطع دخول مكة – لما علمت قريش من توجهه إلى الطائف يستنصر بأهلها عليهم – إلا بجوار المطعم بن عدي، وكان جواره هذا يدًا حفظها له النبي – صلى الله عليه وسلم – وذكرها بعد موته.  

***

على أنه قد تعرض للمتوكلين الصادقين نفحات إلهية تأخذ بقلوبهم وأنفسهم، فلا يستطيعون لها مدفعًا، وهم معذورون إذ ينسون في هذه الأحوال جميع الأسباب، ولا يذكرون إلا العزيز الوهاب.. وقد يأخذون في الأسباب ثم يرفضونها بكل شمم وإباء؛ اعتزازًا ببارئهم وبارئ الأرض والسماء.. ومن هذا ما وقع للصدِّيق نفسه – رضوان الله عليه – مع ابن الدغنة لما لقيه وقد أجمع أمره على الهجرة إلى الحبشة، فقال له: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج، ووصفه بما وصفت به خديجة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أول ما رأى الملَك، وقال لها: لقد خشيت على نفسي... وانتهى الحديث بجواره إياه على أن يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، غير أن أبا بكر كان رجلاً بكَّاءً لا يملك عينيه، فأفزع ذلك أشراف قريش، وسعوا إلى ابن الدغنة أن يستردَّ جواره، أو يسرَّ أبو بكر صلاته وقراءته، فردَّ أبو بكر جوار ابن الدغنة قرير العين بجوار الله عز وجل.

غير أن هذه مقامات خاصة محدودة، لا ينبغي أن يقاس عليها، ولا أن يدعى أحد إليها، ولبسط القول فيها مجال آخر.

***

وإذا كان جوار الرحمن أعظم الجوار وأكمله، كان جوار الشيطان بلا ريب أحقر الجوار وأسفله، فكم زين في الدنيا ووعد بأنه جار، فلما جد الجد تبرأ ونكص وولى الأدبار، وهو في الآخرة أشد تبرؤًا ونكوصًا؛ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].


المصدر: (مجلة الأزهر، غرَّة محرَّم 1374هـ، 30 أغسطس 1954م، الجزء الأول، ص11-13)