الحضارة الغربية بين الإنسانية والتوحشمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

يسعى الغرب والمتغرِّبون أن تكون صورة الغرب متلألئة في الأعين ، وتلهج الألسن بإنسانية الغرب المتحضِّر ، ودفاعه عن حقوق الإنسان ، وحقوق الحيوان ، وإذا كان الغرب كذلك ، فإن على أمَّتنا – كما ينادي المتغرِّبون - أن تأخذ حضارة الغرب بعُجَرها وبُجَرها ، خطئها وصوابها .

وقد أضاع هؤلاء المتغرِّبون ما يقارب قرنين من عمر الأمَّة في هذه المجادلات الداحضة ، التي كان يمكن أن تكون دفعًا للأمة للتقدُّم وأخذ ما يصلح لنا من تقدُّم تكنولوجي وعلمي ؛ لكنهم يصرُّون أن يشغلوا الأمة في أحاديث الحضارة الغربية وقيمها الإنسانية التي علينا أن نسير وراءها حَذْوَ الْقُذَّةِ بالقذة! وحتى نرى مدى جنايتهم على ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها ؛ فلنبحر معهم في حديث مختصر عن هذه الإنسانية المزعومة .

ولنبدأ بما شاهدناه وعاصرناه من إنسانية الغرب في تدمير بلاد بأكملها ، وقتل ملايين البشر في مذابح رهيبة ، أو يراها ويؤجِّجها باطنًا وإن حدث بعض الاستنكار أحيانًا ذرًّا للرماد في العيون ؛ كما حدث في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفا وسوريا ، وهلمَّ جرًّا .

وربما جادل بعض هؤلاء المتغرِّبين بأننا نحمِّل الغرب وإنسانيته وحضارته ضعفنا ، إذن ؛ فلنبتعد عنا وعن ضعفنا ، ونتحدث بإيجاز عن إنسانية الغرب التي انبهر بها المتغرِّبون .

فهل تلألأت الإنسانية في أعينكم فيما حدث منذ عقود قليلة في حرب فيتنام مثلاً من قتل حوالي ثلاثة ملايين إنسان مع المآسي والتدمير الرهيب ؟!

وهل يوصف بالإنسانية والحضارة لديكم مَن قَتَل أكثر من مائة مليون إنسان في الحربين العالميتين الأولى والثانية ؟ أو الذي ألقى القنابل الذرية لقتل الحياة في هيروشيما وناجازاكي ؟

وها هو الغرب لا يكلُّ ولا يملُّ من حديثه عن وحشيَّة النازية والفاشية المهزومة في الحرب العالمية الثانية ، ولو نظرت إلى ما فعلوا عندما دخلوا ألمانيا النازية مثلاً من قتل واغتصاب النساء في الشوارع بما لم يحدث مثله في تاريخ البشرية بهذه الوحشية إلا نادرًا ، فما الفرق إذن بين هؤلاء " المتحضِّرين " وما نقموه على النازية والفاشية ؟!

وعلى ذِكر ألمانيا نتذكر حرب الثلاثين عامًا التي مزَّقت أوروبا ( بين عامي 1618 و1648م ) والتي قُتل فيها ما يزيد عن أحد عشر مليون إنسان ، من ألمانيا فقط حوالي سبعة ملايين حتى جعلوا تعدُّد الزوجات إجباريًّا بسبب قتل معظم الرجال .

وما فعلته فرنسا - رائدة الحضارة عند الليبراليين العرب - بالجزائر من قتل أكثر من مليون إنسان في ثورة الجزائر ، وما فعلته الحملة الفرنسية بمصر – التي يحتفل بها العلمانيون المصريون حتى الآن - في ثلاث سنوات من قتل وتدمير بقيادة نابليون ، الذي قُتل في حروبه أكثر من ستة ملايين إنسان .

أما حرب السنوات السبع (الحرب البومرانية) التي جرت بين عامي ( 1756م - 1763 م ) ، التي شاركت فيها كل دول أوروبا تقريبًا ، فقد قُتل أكثر من خمسةَ عَشَرَ مليون إنسان .

وحروب الإنسان الأوروبي المروِّعة ومجازره الدموية لن نستطيع إحصاءها في هذه المقالة ؛ فإنها تحتاج إلى مجلَّدات لتسوَّد فيها !

 أما إنسانية الإنسان الغربي وتعامله مع الحضارة ، فانظر إليها جليَّة عندما قضوا على الحضارة في الأندلس حينما كانت أوروبا غارقة في الجهل والوحل والظلام ، وأقاموا محاكم التفتيش ، واضطهدوا عقائد الناس – لا المسلمين فقط - اضطهادًا لم يشهده التاريخ ؛ فهل هناك شعب أو حضارة تستطيع منافسة الغرب في وسائل القتل والتعذيب بمحاكم التفتيش ؛ نعم حدث للأنبياء – كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - التمشيط بأمشاط الحديد ، والنشر بالمناشير ، والأسياخ المحمية على النار ، وهذا موجود في محاكم التفتيش ، أما سحق العظام بآلات ضاغطة ، وتمزيق الأرجل ، ومقلاع الثدي - يخلع أثداء النساء - والتابوت الحديدي ، والكرسيُّ المغطَّى بالمسامير ، والقناع الحديدي . . . إلخ ، فحقُّ الاختراع حصريٌّ على الإنسان الغربيِّ .

وانظر إلى كمِّ الدمار والوحشية عندما خرج الإنسان الأوروبي لينشر حضارته في العالم ؛ فمثلاً عندما سعوا لنقل حضارتهم وإنسانيتهم إلى العالم الجديد ، قتلوا أكثر من مائة مليون إنسان من الهنود في أمريكا الشمالية ، وأكثر من خمسين مليونًا من الهنود في أمريكا الجنوبية ، وأكثر من عشرين مليونًا من السكان الأصليين في أستراليا بأبشع أدوات القتل في تاريخ البشر ؛ مثل تقديمهم هدايا للسكان الأصليين من البطاطين الملوَّثة بجراثيم فتَّاكة بالجدري والكوليرا لتحصدهم ، وإعلان جوائز مالية لمن يأتي برأس أحد السكان الأصليين – طفلاً كان أو رجلاً أو امرأة – فانتشر الصيادون ينشرون حضارتهم وإنسانيتهم في الفوز بالجوائز بجلب أعداد هائلة من رؤوس البشر ، حتى اقتصروا فيما بعدُ – لسهولة الحمل - على فروة الرأس فقط ، حتى صار الصيادون يفتخرون بأحذيتهم المصنوعة من جلود البشر حتى أفنوا أممًا كاملة في الأمريكتين الشمالية والجنوبية ، وأستراليا ، وحلُّوا محلَّها!

أما إنسانيتهم في أفريقيا ، فيكفي الحديث عن استعبادهم أكثر من 180 مليونًا من الأفارقة عبيدًا ، لم يصل منهم إلى هناك إلا حوالي عشرين مليونًا ، والباقون قُتلوا وألقيت جثثهم في المحيط ، ولا يسعنا المقام للحديث عن تجارة (الرق) التي جعلوها كتجارة الماشية ، تحتكرها الحكومات الأوروبية ، وتضع القواعد المنظمة لهذه التجارة ، وما فيها من مآسٍ استمرت حتى عقود قريبة!

لقد ابتعدنا بالحديث عن وحشية الإنسان الغربي مع أمة الإسلام فيما ذكرناه من أحداث تاريخية لا ينتطح فيها عنزان ؛ لعل العلمانيين العرب يتفكَّرون بحيادية ؛ إذ بمجرد ذكر الإسلام تراهم يتحدثون دون وعيٍ أو منطق .

إن ما ذكرناه من الوقائع التاريخية تدل على أن من يفعل ذلك هو إنسان متوحِّش قاسٍ متعطِّش للدماء ، لم تنجح في تغييره المدنية والتحضُّر ، مهما تحدث بلسانه وإعلامه عن رسالته لنشرهما في العالم ؛ فهل أتى في تاريخ البشر ممن وُصفوا بالوحشية والقسوة والهمجية من ينافس الإنسان الأوروبيَّ المتحضِّر في سفك الدماء والتدمير والقتل بأبشع الأسلحة ، حتى القنابل النووية ؟!

ويكفي دليلاً ما حدث أمام أعيننا وأعينهم في وسط أوروبا من مجازر في البوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرهما ، ويكفي ما حدث في مجزرة (سربرنتشا) الشهيرة ، من مؤامرة القوات الهولندية المسؤولة عن حماية المدينة من قبل الأمم المتحدة لتسهيل المذبحة على الصرب ، الذين حاصروها عامين فلم يسلموا رغم الجوع والخوف ، حتى احتال عليهم الهولنديون فجمعوا أسلحتهم بحجة تأمينهم ؛ ليسلِّموهم للصرب فريسة سهلة دون مخالب ، فانقضُّوا عليهم ، فجمعوا الذكور رجالاً وصبيانًا فذبحوا أمام العالم اثني عشر ألفًا طعنًا بالسكاكين مع التمثيل بالجثث ، ناهيك عن اغتصاب النساء وبقر بطون الحوامل . . . إلى آخر ما حدث من أهوال أمام أعين العالم المتحضِّر!

وفي العراق ، وما أدراك ما العراق؟! دمَّروا البلاد بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل ، وبعد قتل أكثر من مليون إنسان وتدمير البلاد والانتهاكات المعلومة كسجن أبي غريب وغيره من اغتصاب للنساء والرجال ووسائل التعذيب البشعة ، والجنود الأمريكيون المتحضِّرون أنفسهم هم من وثَّقوا بالصور والفيديو هذه الانتهاكات ، ثم قالوا بكل أرْيحية واطمئنان نفس : آسفين أخطأنا ؛ لم يكن هناك أسلحة دمار شامل !

أما إذا أردتَ أن تعرف منشأ هذه الوحشية والقسوة والاستهانة بالدماء ، فلترجع إلى تراث الإنسان الغربي وافتخاره الدائم بحضارته اليونانية والرومانية ؛ إذ كانت التسلية عندهم في التعذيب والقتل ؛ فكما أن مباريات كرة القدم الآن أفضل أنواع التسلية والترفيه وما بها من جماهير ومشجِّعين من الرجال والنساء والأطفال ، كانت حلبة الموت الرومانية (الكولوسيوم) في وسط روما أفضل أنواع التسلية والترفيه للأسرة رجالاً ونساءً وأطفالاً .

تحضر الأسرة لتشاهد الأسود المفترسة تجوَّع ثم تطلق على الأسرى وسط الحلبة بدعوى المصارعة ، فتلتهمهم الأسود عضوًا عضوًا ، وسط تشجيع وضحك واستمتاع الجماهير الغفيرة ، وكذلك إجبار الأسرى على المجالدة والمصارعة والمبارزة بكل وسائل القتال ، فكلما يسقط قتيل ترتفع آهات الجماهير وكأن هدفًا قد أُحرز ، لا نفْسًا بشرية أُزهقت! والقاتل والقتيل أصدقاء يعيشون في سجن واحد ! كانت هذه الوحشية هي اللعبة الأكثر شعبية لدى الإنسان الأوروبي في الحضارة الرومانية القديمة ، وقد وثَّق هذه اللعبة الشعبية بوحشيتها المَرئيَّة عشرات الأفلام في الغرب ؛ ألا يشير هذا إلى الوحشية المتأصِّلة التي جعلت قتلى حروبهم بالملايين؟! وأن الوحشية لا علاقة لها بالنازية أو الفاشية أو غيرها من المذاهب ؛ بل إنها متأصِّلة في الإنسان الغربي نفسه ؟!

أما حضارتنا الإسلامية التي يتهكم عليها الليبراليون العرب ، فيكفي أن يقرؤوا عن الحروب الصليبية ووحشيتها ؛ مثلما جعلوا دماء المذبوحين للركب ، وكانوا كالوحوش التي لم تنتمِ للإنسانية يومًا عندما دخلوا القدس ، فلم يتركوا أحدًا رأوه - حتى النساء والأطفال - على قيد الحياة ، حتى إنهم شقُّوا بطونَ الذين ذبحوهم ؛ لكي يَستخرجوا من المعدة والأمعاء العملات الذهبية التي أشيع أن المسلمين قد ابتلعوها وهم أحياء! وقاموا أيضًا بجمع كومة من الجثث وأحرقوها حتى صارت رمادًا ؛ حتى يمكنهم أن يجدوا بسهولة ذلك الذهب ، وتذكر المصادر التاريخية في الغرب التي ذكرت هذه الأهوال بشيء من الافتخار !

ألا تقارنون ذلك بجيش صلاح الدين الأيوبي عندما دخل القدس بأخلاق الفرسان ومقدار العفو والتسامح الذي أشاد به الغرب قبل المسلمين ؟ ألا تقارنون بين أخلاق حضارتنا وحضارتهم التي تفخرون بها علينا ؟!

كنا نسعى لفتح القلوب قبل فتح البلاد ، فنحرص على الإنسان ، ونبني الحضارة ، ويعيش فيها الناس آمنين تحت راية الإسلام ، أما الإنسان الغربي فها هو ذا قد امتلك معظم العالم الآن ؛ فقد امتلك أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا بعدما أبادوا سكانها الأصليين, واحتل العالم القديم وأذاقه كل أنواع الهمجية والوحشية والقتل ، وعندما خرج الاحتلال سيطر على الدول بأذنابه ، مع محاولتهم فرض نموذج حضارتهم على العالم ، وما بها من شذوذ وضياع الروابط الإنسانية كالأسرة بدعوى تحرير الإنسان ؛ فترك الشعوب بمعتقداتها وعاداتها وثقافتها التي تتميز بها دون احتلال ظاهر أو باطن وسلب خيرات البلاد - من المستحيلات الآن!

فكما رأينا أن تحرير الإنسان في ثقافة الغرب يكون بالإبادة الجماعية ، واستئصال وسحق الأمم ، وقتل الملايين .

أما حضارة الإسلام فقد حرَّرت الإنسان الذي كرَّمه الله ، ورفعت من قدره ؛ ففيها تحرير العبيد عبادة, وفي الحرب لا يجوز قتل الشيوخ والنساء والأطفال والرهبان ، وحسن معاملة الأسير واجبة ؛ { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ؛ فشتَّان بين حضارة حملت رسالة الخير والسلام للعالم وحضارة أبادت ملايين البشر واستأصلت أممًا بكاملها !

ونصيحة أخيرة للعلمانيين والليبراليين العرب : ألا يكفي ما مضى من عمر الأمة في الانبهار بإنسانية الغرب وحضارته وانتقاص حضارة أمة الإسلام والجدال حول ذلك ؟!