الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، أما بعدُ :
فإن الحديث عن " ظاهرة شغب الأطفال في المساجد " ليس بالأمر اليسير ؛ فإنه الحديث عن الطفل ، مستقبلِ الأمَّة ، وعلاقته بالبيت الذي أذِن الله أن يُرفع ، فيجب أن ينشَّأ الطفل على ذلك ، ويتعلَّق بالمسجد على أنه الحِضن الدافئ الذي يتربَّى فيه على حبِّ دينه وعقيدته ، وانظر إلى غير المسلمين كيف يحبِّبون أطفالهم في كنائسهم وبِيَعِهم ومعابدهم ؛ حيث يوفِّرون لهم ما يحبُّون من ألعاب وهدايا حتى يتعلَّقوا بهذه الأماكن ، فكيف يفعل المسلمون مع أطفالهم ؟!
للأسف هناك عدد كبير من المصلِّين يتشدَّدون جدًّا مع الأطفال في المساجد ، المشاغب وغيره ، مجرَّد رؤية طفل - خاصة لو تقدَّم في الصفوف الأولى - تثور غلظة غير مبرَّرة ، وكثيرٌ من الناس يظلُّون سنوات طويلة لا يدخلون المسجد بسبب موقف كرَّههم في دخول المسجد من القسوة ؛ كضربٍ أو إهانة أو سبٍّ أو غيره ، وإن المرء ليحزن من هذه الغلظة مع أطفال يحتاجون إلى الرفق والحب والمعاملة الحسنة من أهل المسجد ؛ حتى ينشأ وقلبه معلَّق بالمساجد ، لا أن يصير المسجد في قلبه وذاكرته مكانَ خوف وذكرى بغيضة .
هذا وقد اعتنى الإسلام بالأطفال ، وأمر الآباء وأولياء الطفل أن يأمروا أبناءهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، ولا جَرَمَ أن أفضل مكان لتعليمهم الصلاة وقراءة القرآن وأحكام التجويد والعلوم الشرعية وغيرها هو المسجد .
ومن عجبٍ أن من يتشدَّدون مع الأطفال دائمًا ما يذكرون حديثًا واهيًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( جنِّبوا مساجدَكم صِبْيَانَكم ومجانينَكم ) ، ولا ينظرون إلى هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الأطفال في المساجد ؛ كحمله حسنًا أو حُسينًا في الصلاة ؛ فعن شدادِ بنِ الهادِ الليثي : خرَجَ علينا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَيِ العَشِيِّ ، وهو حاملٌ حسَنًا أو حُسَينًا ، فتقدَّمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – فوضَعَه ، ثمَّ كبَّرَ للصلاةِ ، فصلّى ، فسجَدَ بينَ ظَهْرانَيْ صلاتِه سَجْدةً أطالَها . قال أبي : فرفَعتُ رَأْسي ، وإذا الصبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجدٌ ، فرجَعتُ إلى سُجودي ، فلمّا قضى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال الناسُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّكَ سجَدتَ بينَ ظَهْرانَيْ صلاتِكَ سَجْدةً أطَلتَها ، حتى ظنَنَّا أنَّه قد حدَثَ أمرٌ ، أو أنَّه يُوحى إليكَ ؟ قال : (( كلُّ ذلكَ لم يكُنْ ؛ ولكنَّ ابني ارتَحَلني ، فكرِهتُ أنْ أُعجِّلَه حتى يَقْضيَ حاجتَه )) . أخرجه أحمد والنسائيُّ واللفظ له ، وصحَّحه الألبانيُّ .
وكنزوله - صلى الله عليه وسلم - من على المنبر ليأخذ الحسن والحسين عندما رآهما يعثران ويقومان ؛ فعن بُريدة بن الحصيب الأسلميِّ ، قالَ : خطبَنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأقبلَ الحسنُ والحسينُ - رضيَ اللَّهُ عنْهما - عليْهما قَميصانِ أحمرانِ يعثُرانِ ويقومانِ ، فنزلَ فأخذَهما ، فصعِدَ بِهما المنبرَ ، ثمَّ قالَ : (( صدقَ اللَّهُ : { إنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } ، رأيتُ هذينِ فلم أصبِرْ )) ، ثمَّ أخذَ في الخطبةِ . رواه أبو داود والنسائيُّ ، وصحَّحه الألبانيُّ .
وكحمله أمامة على عاتقه - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ : فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا " رواه البخاريُّ ومسلم .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ – قَالَ : (( إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَة ِ، فَأُرِيدُ إِطَالَتَهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ ، فَأَتَجَوَّزُ ؛ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ )) رواه البخاريُّ ومسلم .
وغير ذلك من الأحاديث .
هذا هو هديُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعامله مع الأطفال في المسجد ، فما شأن من جعل همَّه طردَ الأطفال من المساجد بما فيه من التنفير لهم من المسجد وروَّاده ، فلا يجوز أن يُطرد الأطفال من المساجد ؛ بل يجب تعويدهم على الحضور للمسجد لتتعلَّق قلوبهم بها ، ويتعلَّموا دينهم من الصلاة وقراءة القرآن وأحكام التجويد ، وغير ذلك من الأحكام الشرعية .
أما مشكلة شغب الأطفال ، فلا بدَّ من التعامل معها برفق وحكمة ، فالطفل الهادئ الذي لا يثير شغبًا مهما صغرت سنُّه – بشرط أن يؤمَن عدم تنجيسه المسجد - ليس فيه مشكلة ، بل يشجَّع من روَّاد المسجد ، ويحبَّب في المسجد والمكوث فيه ، والطفل المشاغب مهما كبرت سنُّه ، يُسلك معه طرق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولو بتقديم الهدايا له إن التزم بآداب المسجد ، مع تنبيه أهله ممن يَرِد المسجد ليتابعه ويقف بجواره في الصلاة ، وإن استُنفدت معه سُبل الرفق ولم يستجب ، ينبَّه عليه وعلى أهله برفقٍ ألَّا يَرِد المسجد حتى يتأدَّب بآدابه ، ولا بأس من إجراء مسابقات بين الأطفال في ذلك وإعطاء الجوائز عليها .
ونصيحة لروَّاد المساجد أن يتَّبعوا هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يسمع بكاء الطفل فيتجوَّز في الصلاة ، فإن حدث تشويش بعض الأطفال على المصلِّين في المسجد بالبكاء والصياح مثلاً ، لا يَنبغِ أن يُثير ذلك المصلِّين ، فيحتجُّوا على الطفل وعلى أبيه أو أمه ، وقد يكون تشويشهم أكثرَ من تشويش الطفل ، وعليهم بترك الأمر لأهل الدعوة والرفق من أهل المسجد كالإمام مثلاً .
وعليه ؛ لو اتَّبعنا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لجَنَيْنا جيلاً يتعلَّق قلبه بالمساجد ؛ إذ نبذر فيها حب الإسلام وعقيدته وآدابه ، فلنحفِّظهم كتاب الله تعالى ، ولنعلِّمهم مبادئ الدين ، وحذارِ حذارِ من طرد الأطفال وصدِّهم عن المساجد ؛ فإن في هذا الصدِّ إلقاءه في الأمواج العاتية ، من التلفاز وغيره من وسائل الإعلام التي تجيد جذبه بما يُلهيه ؛ حتى ينسى المسجد ويُعرِض عنه .
نريد فتى معلَّقًا قلبُه بالمساجد ، مشغولاً بتلاوة القرآن والصلاة وذكر الله ، لا فتى معلَّقًا قلبه بأفلام الكارتون والمسلسلات والمباريات وسماع الموسيقى والأغاني .
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.