أثر الثقافة العربية في العلم والعالم (1)مقالات

أحمد حسن الزيات

الشعوب كالأفراد ، فيها من يولدون على حكم الطبيعة ، ويعيشون على هامش الحياة ، ثم يغوصون في ظلال العدم ، لا ينعم بهم وجود ، ولا يغنم منهم إنسان ، ولا يعبأ بهم تاريخ.

وفيها من يقبلون إقبال الربيع ينضرون الحياة بالجمال ، ويمرعون الأرض بالخصب ، ويفيضون على الدنيا سلامًا ووئامًا وغبطة ، أولئك الذين يصطفيهم الله من خلقه لإعلاء حقه ، فيودعهم سرَّه ويحملهم رسالته فيعيشون لأجلها ، ثم يموتون في سبيلها ، بعد أن يخلّدوا في صدر الزمان وعلى وجه الأرض آثار جهادهم في الله ، وجهودهم للناس ، وفضلهم على المجتمع.

وهؤلاء هم أدلّاء ركب الحياة ، وحمّال ألوية الخليقة ، يقلون قلة الصفوة ، ويبطئون إبطاء الخير ؛ ولكن آثارهم تشغل ذهن العالم ، وأخبارهم تملأ سمع الزمن !

هذا التاريخ على طوله وفضوله لم يسجل من الأمم التي بلغت رسالات الله بالخير والجمال والحق إلا أربعًا : العبران في الدين والسلم ، واليونان في الفن والعلم ، والرومان في النظام والحكم ، والعرب في كل أولئك جميعًا.

(والعرب في كل أولئك جميعًا) فقرة أقولها وأنا أعلم أن الشك فيها سيحك الآن في بعض الصدور ؛ لأن ما أقرته التعاليم المريضة في الأذهان من أن اليونان والرومان هم مصادر الثقافة العالمية ، وأن العرب أعجز بفطرتهم عن العلم ، وأبعد بطبيعتهم عن التمدن ، يجعل هذه القضية على إطلاقها سخيفة.

لقد آن للنظر الصحيح أن يرى ، وللعقل المجرد أن يحكم ، أما الأحكام التي صدرت عن موتوري الشعوب وتجار العقائد وورّاث الأحقاد ، فلا وزن لها في نظر المنطق ، ولا شأن لها في رأي العلم .

كان العرب في الشرق فاتحين وحاكمين فلا بدع أن تعصف ثورة العصبية ، وتقوم دعوة الشعوبية ، وتظهر فكرة الإسماعيلية والإسحاقية ، ويبقى من آثار ذلك ما نشاهده اليوم وقبل اليوم في سياسة الترك والفرس ، من ازورار عن العربية ، واضطغان على العروبة ، وكان العرب في الغرب فوق ذلك شرقيين ومسلمين ، فلم يكن بدٌّ من تصادم العقائد وتعارض

الطبائع وتحكم الجهالة ، فتنشأ محاكم التحقيق ، وتصدر عقوبة التحريق والتمزيق ، ويشاب التعليم بالتضليل والتلفيق ، ويبقى من آثار ذلك أن تظل كنيسة الحمراء تقرع نواقيسها أربعًا وعشرين ساعة قرعًا متداركًا في ثاني يناير من كل عام ؛ ابتهاجًا بجلاء العرب عن الأندلس ؛ فكيف يرجى من هؤلاء وأولئك الإقرار بفضل العرب على الثقافة ، والاعتراف بجميلهم على الحضارة ، وفي النفوس من غلبة الفاتح وترًا ، ومن عظمة الحاكم حقدًا ، ومن دين المجاهد إحنة ، ومن سلطان الدخيل نفور ؟!

والنهضة الحديثة لم تستطع بفلسفة ديكارت وحرية الفكر ونزاهة التعليم أن تصفي العقول من شوائب هذه المذهبية القديمة ، فلا يزال نفر من العلماء يكابدون ازدواج الشخصية فيهم ، فهم يجمعون في إهاب واحد بين رجلين مختلفين: حديث يتأثر بالدراسة الشخصية والبيئة الخلقية والفكرية ، وقديم يتكون على بطء من تراث الأجداد ومخلّفات القرون ، وهذا الرجل العتيق هو الذي يتكلم في أكثر الناس ، فيملي عليهم الآراء ، ويلبس عليهم وجوه الحق ، فإذا تنبّه الرجل الحديث وتكلم ، وقع صاحبهما في التناقض وتعسف من جرائهما في الحكم.

وأصدق الأمثلة على هذا الصنف من الباحثين العالم المؤرخ (أرنست رنان) خالق فكرة السامية والآرية ، وأعدى الكتّاب للأمة العربية ، فإن ازدواج الشخصية فيه جعل آراءه في العرب متناقضة يدفع آخرها أولها ، له محاضرة معروفة عن الإسلام ألقاها في السربون ، وقد جهد أن يدلل فيها على وضاعة شأن العرب في التاريخ وقلة غنائهم عن العلم ؛ ولكن الرجلين القديم والحديث كانا يتعاوران الكلام على لسانه فينقض أحدهما ما أبرمه الآخر .

فبينما هو يقول مثلاً: "إن العلوم والآداب والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للعرب وحدهم طوال ستة قرون ، وإن التعصب الديني لم يعرفه المسلمون إلا بعد أن دالت دولة العرب وخلفهم على ولاية الإسلام الترك والمغول" إذا به يقول بعد ذلك: "إن الإسلام كان لا ينفك مضطهدًا الفلسفة والعلم ، وإنه جعل من دون الحرية الفكرية سدًّا في كل بلد احتلَّه" ، ثم يعود فيفيض القول في فضل العرب على القرون الوسطى ، وفيما كانت عليه إسبانيا من الرخاء والارتقاء في عهدهم .

 فإذا فرغ من ذلك سارع الرجل القديم فيه إلى القول بأن الذين نهضوا بالعلم من المسلمين لم يكونوا من العرب ؛ وإنما كانوا من سمرقند وقرطبة وإشبيلية؛ وأنساه شيطانه أن هذه البلاد عربية ، وأن الدم العربي والعلم العربي قد تغلغلا في أصولها منذ طويل ، وأن تقسيم العرب إلى عرب وعرابوفون سلاح لا تفلت منه أمته نفسها إذا حلل هذا التحليل نسبها وأدبها .

 ثم تنتهي المعركة بين الرجلين في (رينان) بقوله في صراحة مفاجئة: "ما دخلت مسجدًا قط إلا تملَّكني انفعال شديد ، هو لو أفصحت عنه نوع من الأسف على أني لم أكن مسلما"!

على أن هناك فريقًا من صفوة العلماء الأوربيين تحرروا من حكم الهوى ، وتحللوا من قيد الغرض ، فأقروا الحق في نصابه ، وأرجعوا الفضل إلى أهله ، سنجعلهم شهودنا في إثبات ما نقول ؛ فإن أشد ما شهد امرؤ على نفسه وأقرب الآراء إلى الحق رأي الفرد في جنسه .

كان العالم شرقه وغربه في أوائل القرن السابع للميلاد قد استحال كونه إلى فساد ، فحضارته تتحطم بالترف والرخاوة ، وسياسته تتحكم بالغلول والأثرة ، وأخلاقه تتفكك بالسرف والشهوة ، وعقائده تتنزى بالجدل والتعصب ، ودماؤه تهدر بين الروم والفرس لغير غرض أسمى ولا مبدأ مقدَّس ، وكانت شعوبه منذ طويل قد فقدت مُثلها العليا فهي تعيش عيش الهمل السوائم ؛ فلا عظمة روما تحفز الرومان ، ولا مجد السلف يهز الفرس ، ولا سمو الغاية يسدد وثبة البربر .

على هذه الحال خرجت أمة العرب برسالتها الدينية والخلقية إلى هذا العالم المنقض والهيكل البالي ، فجددت أخلاقه على الرجولة ، وطبعت عقيدته على التسامح ، ورفعت مجتمعه على المحبة؛ وصمدت للجهاد والفتح في سبيل هذا المثل الأعلى لا تطمح من دونه إلى سلطان ، ولا تطمع من ورائه في غرض ، حتى أنشأت فيما دون القرنين ملكًا طبق الأرض، وحضارة هذبت العالم ، وثقافة حررت العقل ، ولم يكن ذلك مستطاعًا لغير الأمم الموهوبة التي هيأها الانتخاب الطبيعي لتبليغ رسالة أو تجديد دعوة أو تحقيق (إديال Ideal) ، وكأين من أمة قوضت سلطان أمة أو أمم ؛ ولكنها لم تعد ما يفعل منسر من اللصوص سطا على قافلة أو قطيع من الوحوش عدا على قرية ، فالشعوب الجرمانية والهونية والسلافية تعاقبت غاراتها على الرومان في الشرق والغرب فاجتاحوا ملكهم ، والقبائل التركية والمغولية قد دهموا العرب فثلوا عرشهم ؛ ولكن شعبًا من هذه الشعوب لم يصغ قلبه للمدنية ، ولم يجد فتحه على الإنسانية ، فظلوا بعداء عن الحضارة غرباء عن العلم إلا ما كان من ترويجهم بعدُ لحضارة المغلوب وثقافته.

أما القبائل العربية فلم يكادوا يضعون عن كواهلهم عتاد الحرب ، وينفضون عن وجوههم غبار الصحراء؛ حتى صعدوا في مراقي الحضارة بسرعتهم في طريق الفتوح ، واستطاعوا أن يرفعوا على أنقاض اليونان والرومان والفرس حضارة ثابتة الأصول باسقة الفروع ، لا يظهر في عناصرها المختلفة إلا روح الإسلام وفكر العرب ، ثم كانت من القوة بحيث طاولت الدهر ، وصاولت المغير ، وأخضعت لسلطانها حضارات لم تخضع لفاتح من قبلُ ، وسخرت لدعايتها خصومًا لم يتحرروا من آثارها بعد .

ولو رحنا نتلمس أسرار هذه القوة وأسباب تلك العظمة وجدناها أولاً في إلهام الطبع وسلامة الفطرة وجاذبية المثل الأعلى ، وثانيًا في القابلية الطبيعية لفقه الحضارة ، وهي صفة لا تكتسب عفو الحاضر ولا طوع التقليد ؛ وإنما تتأصل في الشعب بتقادم عهده في الثقافة وطول رياضته على التمدن ؛ فالعرب لم يكونوا جميعًا كما يصورهم الأدب القديم جفاة الطباع بداة الاجتماع ؛ وإنما كان منهم في اليمن والحجاز والشام والعراق متحضرون لابسو أرقى أمم العالم بالتجارة منذ ألفي سنة ، وكان لهم قبل الإسلام ثقافة أدبية ومدنية لغوية لم يكن من المعقول أن تظهرا في التاريخ فجأة .

فإن تطور الأفراد والشعوب والأنظمة والعقائد تدريجي بطيء لا يبلغ كماله إلا حالًا على حال ودرجة بعد درجة ، والحق أن الأخبار والآثار والعقل تتناصر كلها على إثبات حضارة عربية في المدن الجاهلية ، وإذا كان بدو الجزيرة هم الذين أنتجوا الشعر وفتحوا الفتوح ، فإن حضر الحجاز هم الذين حكموا الناس ونشروا المعرفة وأقاموا الحضارة .

(للمقال بقية)


المصدر: مجلة الرسالة ، العدد 1 ، بتاريخ 18 رمضان 1351هـ ، 15 يناير 1933م