اغتنم رمضان.. وأنتَ في المنزل !مقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إنَّ نِعَمَ الله تبارك وتعالى لا تحصى، وكرامَاتُهُ وهباتُهُ وآلاؤُه على عبادِه المؤمنين لا تُستَقصَى، ومن تلك الكرامات والهبات والنعم والآلاء ما عددُه عددُ الأنفاس التي يتنفسها العبد، ذلك أن كلَّ نَفَسٍ جديد هو بمثابة فرصة جديدة لتصحيح المسار، وتصويب الأخطاء، وذلك بالتوبة والرجوع والإنابة إلى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا.

ومن كرامة الله لنا أن يسر لنا إدراك شهر رمضان المبارك من هذا العام. فمرحبًا بربيع القلوب !

اللهم سلمنا لرمضان، وسلم رمضان لنا، وسلم منا شهر رمضان، وتقبله منا.

ويُظلُّنا شهر رمضان هذا العام في ظرف استثنائي، وحدث خطير، أشغل العباد والبلاد، من شرق الأرض إلى غربها، وهو هذا الوباء الذي أصاب الملايين، وفتك بالألوف في أرجاء هذه المعمورة.. فكيف سيكون حالنا مع رمضان في هذه السنة؟

(ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا):

لننصت إلى شيء من حديث التاريخ عن حال فئام من الناس عندما أظلهم شهر الصيام في ظل الجوائح..

تلكَ جائحةٌ أصابت بلاد المسلمين قبل مئة عام بالضبط، وهي تلك المجاعة التي ضربت بلاد الشام، في ظروف الحرب العالمية (الأولى)..

يحدثنا السيد محمد رشيد رضا عن حال أولئك العصاة القانطين، وكيف كان تعاملهم مع ذلك البلاء فيقول:

(ثبت في آيات القرآن الحكيم أن الشدائد تمحص المؤمنين وتمحق الكافرين، وقد ثبت أن شدائد هذه الحرب ما زادت أكثر الناس في كل البلاد إلا فسادًا وفسقًا وفجورًا، وكان الأغنياء والفقراء في ذلك سواء إلا من عصم الله: الأغنياء ازدادوا قسوة وبخلًا وإسرافًا في الشهوات وكفرًا بنعم الله وإعراضًا عن شكرها، والفقراء استباحوا جميع الفواحش، وتركوا جميع الفرائض مع الاعتراض على الله عز وجل، حتى إنهم تركوا فريضة الصيام مع فقد الطعام، فلم يكن المسلمون (جنسية) ينوون الصيام في رمضان، وإن كانوا في شك أو ظن راجح بأنهم لا يجدون في النهار ما يأكلون، ومهما يُصِبْ أحدَهم من لَمَاج – هو أدنى ما يؤكل - كان يلتقمه، ولو قبيل غروب الشمس، ولم يكن الباعث على ذلك عدم الطاقة على احتمال الجوع، بل مراغمة الشارع ومعاندة الخالق سبحانه، وكانوا يصرحون بذلك، وأكثر ما نقل منه نقل عن النساء اللواتي هن أشد إذعانًا للدين وخضوعًا لشعوره، وأكثر محافظة على الصيام: كانت إحداهن تقول: لا أصوم له ولا أصلي له وقد فعل بي كذا وكذا، والأخرى تقول: ليرجع لي ولدي من القبر أو من العسكر أصم له. ومثل هذا كثير.

فأمثال هؤلاء ليسوا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، فتمحصهم الشدائد وتطهرهم، بل من الكافرين بدين الله ونعمه كلهما أو أحدهما، فزادتهم رجسًا إلى رجسهم ومحقتهم، بل محقت أممهم بهم) ([1]).

إن الحقيقة القرآنية الناصعة تدل أن الكافر والمؤمن يختلف حالهما مع اتحاد القدر النازل عليهما، لاختلاف طبعهما، فكما أن الشجرة إذا سقيت بالماء نمت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، والنار إذا صب عليها الماء انطفأت وخمدت، فكذلك هو البون بين حال المؤمن والكافر، فالمؤثر واحد، لكن انفعال كل منهما وتأثره بحسب طبيعته وجوهره!

فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين الشاكرين الطائعين له، وأن يرزقنا الصبر والاحتساب على ما يصيبنا من البلاء!!

وقد رحم الله تعالى أمة الإسلام، فهذا الوباء النازل بنا اليوم (فيروس كورونا) عدد من مات فيه من غير المسلمين لا يقارن بعدد من مات فيه من المسلمين([2]).

ونسأل الله تعالى أن يتم علينا نعمته برفع هذا الوباء، وكشف هذه الغمة. آمين.

(أرحم الراحمين .. يفعل هذا ؟!)

 هذه الجملة تعبير عن اعتراض يختلج في صدور كثير من مرضى القلوب والشكاكين، صرح بها رأس من رؤوس البدعة والضلال عبر التاريخ معترضًا على أفعال الله تعالى وأقداره، وهو الجهم بن صفوان، إذ (حُكي عنه الجهم أنه كان يخرج، فينظر الجذمى، ثم يقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟

يقول: إنه يفعل لمحض المشيئة، ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا.

يقول ابن تيمية - مُعلِّقًا - بعد أن أورد هذه القصة: (وهذا من جهله لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة، والرحمة، والمصلحة) ([3]).

إن البلاء له حكمٌ ومقاصد عديدة، نبه إليها أهل العلم([4])، فمنها:

معرفة عز الربوبية وقهرها.

ومعرفة ذلة العبودية وكسرها.

والإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه، والتضرع والدعاء.

وتمحيص الذنوب والخطايا.

ورحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم.

ومعرفة قدر نعمة العافية، والشكر عليها.

وما في طي البلايا من الفوائد الخفية.

والمصائب والبلايا تمنع الشر والبطر.

وليس المقصود هنا التفصيل في الحديث عن كل مقصد من تلك المقاصد، وعن جوانب أخرى تتعلق بالبلاء، وإنما هي إشارة اقتضتها كلمة الجهم بن صفوان! فلنعد إلى ما نحن بصدده من حديثنا عن شهر رمضان المبارك في ظل هذه الأزمة.

اليأس والحزن يتنافى مع الاستعداد لرمضان:

إن الأخبار قد وصلتنا جميعًا بأن الرياحين التي اعتدنا في كل عام على تنسم أريجها، لن يكون حالها هذه السنة كما اعتدنا، أعني أن صلاة التروايح لن تكون في المساجد!

ستكون المساجد في هذه السنة مغلقة.. سنفقد المكث في المسجد في نهار رمضان.. الذي كان معينًا لنا على صيانة صيامنا عما يخدشه.. سنفقد قراءة القرآن في المسجد قبل الصلوات المكتوبة وبعدها.. سنفقد سماع القرآن في صلاة التراويح.. سنفقد المشي في الهاجرة إلى المسجد..   

ومع ذلك؛ فإن تلك الأخبار لا ينبغي أن توهِن العزيمة، وتُضعِف الهمة عن الاستعداد لشهر رمضان المبارك، ومشاعر الحزن والألم لا ينبغي أن تستولي على القلوب، وذلك لعدة أسباب:

السبب الأول: أن الحزن ليس مطلوبًا، ولا مأمورًا به.

يقول ابن القيم:

( ومنزلة الحزن ليست من المنازل المطلوبة، ولا المأمور بنزولها، وإن كان لا بد للسالك من نزولها، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيًا عنه، أو منفيًا.

وسر ذلك أن الحزن موقف غير مسير، ولا مصلحة فيه للقلب، وأحب شيء إلى الشيطان أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويوقفه عن سلوكه)([5]).

والسبب الثاني: أنَّ هذا الحزن يذم إذا كان يقدح في الاستعداد والتأهب للطاعة والبر، والتي هي من أسباب السعادة وانشراح الصدر، والتأهب والاستعداد علامة على صدق النية في العبادة، والاستعداد للعبادات مما يندرج في قوله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً). [التوبة:46]

وهذه دعوة إلى اغتنام ما تبقى من أيام شهر شعبان بختمة لكتاب الله تعالى يُستَقبَل بها شهر رمضان.. فشمر ساعد العزم، وابدأ!

أما السبب الثالث: أن إغلاق المساجد وإن كان من البلاء فهو مُعارَض بمننٍ ونِعَم، فأي سعادة فوق بلوغك شهر من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه؟ وهل فرحة تفوق فرحة غفران ذنوب سنة كاملة؟

ولك البشرى بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه). متفق عليه.

ومن نافلة القول أن نذكر بأن الحزن المذموم هو ذلك الحزن المستولي على القلب، الموهي للعزم، أما الخوف من أن يكون ما أصابنا من إغلاق المساجد عقوبة لنا بسبب ذنوبنا فهو مقام آخر.. غير ما نحن فيه.. وهذا  الخوف - بإذن الله - محفز على مزيد من الإقبال على الدعاء والتضرع إلى الله أن يرحمنا ويلطف بنا.

إن إغلاق المساجد بلاء عظيم، فانظر لنفسك في حيلة تحافظ بها على رمضان، وتتقي بها ضياعَهُ منك!

الصيام غذاء الروح:

الحديث عن الصيام في الإسلام يكون من جانبين:

الجانب الفقهي: ويدخل فيه الحديث عن حقيقة الصيام، وشروط الصيام، ومبطلاته، وما على من أخل به من كفارةٍ أو فدية، وبم يثبت شهر رمضان، وغير ذلك من الأحكام الفقهية، التي موضعها في كتب الفقه.

والجانب المقاصدي: ويدخل فيه الحديث عن سر عبادة الصيام، ومعناها، وحِكَمِهَا، ومقاصدها.

وهذا الجانب هو محور حديثنا هنا.

فكثيرون يخوضون في معنى الصيام وحكمَتِه مقتصرين على جوانب ثانوية، أو مفسرين الصيام تفسيرًا غير صحيح، حتى فُسِّرَ الصيام بأنه دليل على اشتراكية الإسلام! وهذا يقوله من زل في هذا الباب قاصدًا المواءمَة بين التشريعات والمعاني الإسلامية، والأفكار والمبادىء الغربية الحديثة.

والواقع أن تفسير الصيام ومعناه يدور في فلك (تزكية النفس الإنسانية)، فالغاية من الصيام: كفُّ النفس عن شهواتها، والتشبه بالملائكة المقربين، وحياة القلب وفرحه، والتزهيد في الدنيا والترغيب في ما عند الله، وتذكُّر الفقراء، والإعانة على تقوى الله تعالى، واجتناب محارمه.

يقول الإمام ابن القيم:

(وأما الصوم: فناهيكَ به من عبادة تكفُّ النَّفسَ عن شهواتها، وتُخرِجُها عن شَبَه البهائم إلى شبه الملائكة المُقرَّبين، فإنَّ النَّفس إذا خُلِّيت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كُفَّت شهواتها لله ضيَّقَت مجاري الشيطان، وصارت قريبةً من الله بترك عادتها وشهواتها؛ محبةً له، وإيثارًا لمرضاته، وتقرُّبًا إليه، فيدع الصائم أحبَّ الأشياء إليه وأعظمها لصوقًا بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة لا تُتُصوَّر حقيقتها إلا بترك الشهوة لله، فالصائمُ يدعُ طعامَه وشرابَه وشهواته من أجل ربِّه.

وهذا معنى كون الصوم له تبارك وتعالى، وبهذا فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث فقال: (يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشرة أمثالها، قال الله: إلا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدعُ طعامَه وشرابه من أجلي)، حتَّى إنَّ الصائم ليتصوَّر بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا في تحصيل رضا الله.

وأيُّ حُسنٍ يزيد على حُسنِ هذه العبادة التي تكسر الشهوةَ، وتقمعُ النَّفسَ، وتُحيي القلب وتُفرحه، وتُزهِّدُ في الدنيا وشهواتِها، وتُرغِّب فيما عند الله، وتُذكِّرُ الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم، وأنَّهم قد أخذوا بنصيبٍ من عَيْشِهم، فتعطِّف قلوبَهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شُكرًا؟!

وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمرٌ مشهور، فما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم، فهو شاهدٌ لمن شرَعَه وأمر به بأنَّه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنَّه إنما شرعه إحسانًا إلى عباده، ورحمة بهم، ولطفًا بهم، لا بُخلًا عليهم برزقه، ولا مُجرَّد تكليفٍ وتعذيبٍ خالٍ من الحكمة والمصلحة، بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة، وأنَّ شَرْع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم، ورحمته بهم) ([6]).

الصيام عبادة السابقين:

الله تعالى لما أخبرنا بفرضِه الصيامَ علينا أعلمنا أنه فرضه أيضًا على من قبلنا من الأمم، وهذا فيه تسلية لنا، إذ إن الأمر إذا عمّ سهل، ولهذا مما يدل على شدة عذاب أهل النار أن هذا الأمر المسهل المسلي وهو الاشتراك والتعميم، لن يكون مسليًا في حقهم: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (الزخرف: 39).

وقد نبه العلماء إلى معاني عديدة دل عليها قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)؛ يقول الإمام أبو بكر القفال الشاشي رحمه الله تعالى:

(وفي الإخبار باشتراك أهل الأديان في شريعة الصوم تعظيمٌ لها، وحثٌّ لنا على التزامها، وتهذيبٌ لما يثقل على الطباع من الإمساك عن الشهوات في فعلها، لأن الشيء إذا استوى في التزام فعلِهِ العددُ الكثير خفَّ الأمر في احتمال ثِقَلِه ما لا يخف إذا كان الواحد مخصوصًا) ([7]).

رمضان شهر القرآن:

من خصائص هذا الشهر الكريم: نزول القرآن العظيم فيه، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، والمقصود بنزوله في شهر رمضان: ابتداء نزوله، أو نزوله إلى السماء الدنيا، كما جاء في أثر ابن عباس رضي الله عنهما.

وكان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان فيُدارِسُه القُرآن.

ونزول القرآن في رمضان، ومدارسة جبريلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان أمران مهمان يبرزان ملامح علاقة رمضان بالقرآن، فرمضان شهر القرآن.

أما أخبار اهتمام السلف بتلاوة القرآن وختمه في هذا الشهر الكريم فهي كثيرة؛ أوردها الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف). ومما ذكره:

كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.

وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.

وكان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.

وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت.

وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.

وأيام رمضان ولياليه من أنسب ما يكون لتلاوة القرآن، وتدبره، وذلك أن نهار رمضان يكون المرء فيه صائمًا، والصوم يصفو به الفكر، فيعين على الفهم، كما قيل: البطنة تذهب الفطنة.

وأما الليالي ففيها من الرقة والأنس ما يعين على التعبد بالتلاوة والتدبر، قال الله تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) (المزمل:6). وفي قراءة ابن عامر وأبي عمرو: (هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً): قال المفسرون: أي: أشد مواطأة للقرآن، يعني موافقة لسمعِهِ، وبصرِه، وقلبِه([8]).

كما أن ليالي رمضان محل لمراجعة المحفوظ من كتاب الله تعالى، حتى جعل بعض السلف صلاة الرجل وحده خيرًا من صلاته مع الإمام، إذا كانت صلاته مع الإمام مؤدية لنسيانه ما معه من القرآن، كما جاء عن الحسن البصري([9]). 

فاجعل لك وردًا يوميًا من كتاب الله تعالى تلتزمه في هذا الشهر، واتخذ كتابًا في التفسير يكون مصاحبًا لك ومعينًا في تفهم آيات الكتاب، وتدبر معانيه.

(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب):

يقول الإمام ابن القيم:

(ما من مؤمن إلا وفي قلبه محبةٌ لله تعالى، وطمأنينة بذكره، وتنعُّمٌ بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوقٌ إلى لقائه، وأنسٌ بقربه، وإن لم يحُسّ به لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به) ([10]).

وإنَّ في تخلية القلب من الشواغل والصوارف: طريقًا إلى الإحساس بتلك اللذة والنعيم! ولا شيء يعين على ذلك كهذا الشهر الكريم، بما فيه من أوقات صفاء القلب والفكر.

وقد جاء في كتاب الله تعالى الحث على الدعاء متخللًا آيات الصيام، يخبر الله تعالى بقربه من عباده، حاثًا لهم على الدعاء، والضراعة، والاستكانة بين يديه؛ يقول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). (البقرة:186).

قال ابن كثير: (وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر) ([11]).

فاظفر بهذا القرب، وسل الله تعالى من فضله، وأقبل عليه بقلب خاضع خاشع منيب..

وتخير أوقات إجابة الدعاء، كوقت النزول الإلهي، عسى – إن ضعف إقبالك وتوجهك - أن يجبر ذلك نفحةٌ من نفحات الله، يستجاب فيها دعاؤك، وتقضى حاجتك..

ولله در من قال:

إذا عرضت لي في زماني حاجة
 

وقد أشكلَتْ فيها عليَّ المقاصدُ
  

وقفت بباب الله وقفة ضارع
 

وقلت: إلهي إنني لك قاصدُ
  

ولست تراني واقفًا عند باب من
 

يقول فتاهُ: سيدي اليوم راقدُ
  

هل ستتأثر عبادة الصيام، وقراءة القرآن، والدعاء بإغلاق المساجد؟

نقول بعد أن بينَّا لك شيئًا من المعاني المتعلقة بالصيام، ومقاصده، وقراءة القرآن، والدعاء: إن إغلاق المساجد في رمضان لن يكون مُعِيقًا لك عن إدراك تلك المقاصد، ولا تحقيق تلك العبادات، وإدراك فضائلها.

كما أنَّ الوسيلةَ الأهمَّ المعينة على الطاعة والعبادة، واجتناب المحرمات، وهي الصوم نفسه لن يتأثر بإغلاق المساجد، فالصوم (ليس يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب) ([12]).

قيام رمضان .. والمساجد مغلقة!

لقيام الليل فضائل جليلة، وعبارات السلف تدل على الاهتمام به أشد الاهتمام، فمن ذلك قول ثابت البناني رحمه الله: (ما شيء أجده في قلبي ألذَّ عندي من قيام الليل).

وقال سفيان: (إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت) ([13]).

وقال أبو سليمان الداراني: (لأَهلُ الطاعة بليلهم ألذُّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا) ([14]).

وسيكون لإغلاق المساجد في هذا العام تأثير مباشر على صلاة التراويح.. فما الحيلة في ذلك؟

فها هنا أمران:

أولًا: أن مسألة المفاضلة بين صلاة التراويح منفردًا، والصلاة مع الإمام من المسائل الاجتهادية الخلافية بين أهل العلم([15]).

فعلى القول بأفضليتها منفردًا: فلا إشكال في أن إغلاق المساجد لن يؤثر في تحصيلك الأفضل.

وعلى القول بأفضليتها جماعة في  المساجد: فيقال ما قيل في الصلوات المكتوبات، من أن ترك صلاتها في المساجد مع العذر - كما هو في حالنا اليوم – يكتب به الأجر الكامل.

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين- يقول: (إذا كان العبد يعمل عملًا صالحًا فشغله عنه مرض أو سفر، كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) ([16]).

وهذه البشرى تقال أيضًا لمن رغب في الاعتكاف في المساجد في العشر الأواخر، وفَاتَهُ ذلك بسبب إغلاق المساجد.

وتُشرع صلاة التراويح مع الأهل والأولاد في البيوت، كما يقال في الصلوات المكتوبة.    

ولا تُشرع صلاة التراويح خلف المذياع والتلفاز، لأَنَّ معنى الاقتداء معنى شرعي، وهو غير متحقق في الصلاة على هذه الهيئة، ولأَنَّ من أجاز للمأموم أن يأتم بالإمام في بيته إذا كان قريبًا من المسجد إنما أجازه لوروده عن بعض السلف، فلا يُتجَاوَزُ النقل في ذلك.

ثانيًا: بما أن الصلاة ستكون هذه السنة في البيوت؛ فالأفضل تأخيرها إلى آخر الليل.

وفي ذلك آثار عن السلف([17]):

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون - يريد آخر الليل - .

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا تعشى في شهر رمضان هجع هجعة، ثم يقوم إلى الصلاة يصلي.  

وعن عكرمة قال: كنا نصلي، ثم أرجع إلى ابن عباس رضي الله عنه فأوقظه، فيصلي، فيقول لي: يا عكرمة! هذه أحب إلي مما تصلون، ما تنامون من الليل أفضله، يعني آخره.

وقد ذهب بعض أهل العلم - منهم الإمام أحمد - إلى أفضلية الصلاة أول الليل. قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: يؤخر القيام - يعني التراويح – إلى آخر الليل ؟ قال: لا، سنة المسلمين أحب إلي. وهذا إنما يكون في الحالة الطبيعية، التي يمكن فيها العمل بسنة المسلمين بالصلاة في المساجد، أما وقد أغلقت فيُرجَع إلى الأصل، وهو تفضيل الثلث الأخير من الليل، لكونه وقت النزول الإلهي.

برنامج رمضان المنزلي:

ظروف الحظر بسبب الوباء فرضت على الآباء المكوث في البيت مدةً أطول من المُعتَاد، ومع حلول الشهر الفضيل في تلك الظروف: يكون في ذلك فرصة مضاعفة ليكونوا قدوة حسنة للزوجة والأولاد.

ففي برنامج رمضان المنزلي يمكنك إعادة تأهيل أهلك لسلوك درب الاستمساك بالهدي النبوي، ولتكن البداية بربطهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والصيام.

قال عبد الله بن مسعود: حافظوا على أبنائكم الصلاة، وعودوهم الخير فإن الخير عادة([18]).

وكان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، فيقال: يصلون الصلاة لغير وقتها!

فيقول: هذا خير من أن يناموا عنها([19]).

وكان عروة بن الزبير يُعلِّم بنِيه الصلاةَ إذا عقَلُوا، والصوم إذا أطاقوا([20]).

ويمكنك في برنامج رمضان المنزلي أيضًا أن تُوطِّنَ أسرتك على أخلاقيات الإسلام، من خلال التآلف مع أخلاقيات الصيام التي تحض على حفظ الأسماع والأبصار والأفئدة، وتدعو إلى الجود والسماحة، ولين الجانب، وحب الخير للناس.

وفي برنامج رمضان المنزلي تستطيع تعويد أهلك وأبنائك على تعظيم الحرمات الدينية، وتعظيم حرمة رمضان الزمانية، فمن يصون رمضان لله يصون ما بعده وما قبله لله، فالقربى من الله والزلفى إليه، لا تقتصر على شهر دون شهر.

مسؤولية الآباء نحو الأَهْلِينَ والأبناء في رمضان ليست في التوسعة عليهم في أمور الدنيا فحسب، بل تسبق إلى ذلك مسؤوليتهم في تعريض الأهل والأبناء لواسع رحمه الله([21]).

ماذا بعد رمضان؟

إن الأعوام الماضية دلت أن مجتمعاتنا مع ميلها نحو التدين؛ فإنها تعاني من جملة من تناقضات في ذلك التدين، ولا نعني أن المؤمن لا يقع في الذنب، بل يقع في الذنوب، ويقع في الكبائر، لكنه يفعلها مع غلبة الشهوة، وهو كارهٌ مبغضٌ لها، وفيه خوف من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها: إما بتوبة، وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك([22]).

وإنما نعني بهذه الظاهرة: أن يقع المؤمن في الذنوب، ويدرك وقوعه فيها، ومع ذلك فهو متصالح معها، ولا يريد الإقلاع عنها، ويرى نفسه متدينًا لا ينقصه شيء!

وإلا؛ فلِمَ كنا نرى في الأعوام الماضية حركة الحياة شبه مشلولة عند الإفطار، ثم نرى الناس يعودون لما كانوا عليه قبل رمضان؟

بل لِمَ كنا نرى الإقبال على المسلسلات والبرامج الرمضانية وبنفس الوقت الإقبال على المساجد وصلاة التراويح من نفس الأشخاص؟

كتب بعض الفضلاء حول هذا المعنى قبل عامين فقال:

من جملة تلك المشاهدات التي تدل على فصام وتناقض، وتصالح مع الذنوب، أنك تجد في المساجد كثيرًا من موظفي البنوك الربوية يصلون التراويح، ومن ثم التهجد.

الداخل لأي بنك يلمح الموظفات محجبات، وقد قللن من مساحيق التجميل في رمضان، ثم يَعُدن لما كُنَّ عليه بعده.

في المساجد حجم المشاكل والمظالم بين المصلين أنفسهم كبير، فهناك انفصام في السلوك في التدين بين التعبد وشدته (في الظاهر)، وبين أكل المال بالحرام، وظلم الآخرين.

وقد حدثني صديق – والكلام للفاضل المنقول عنه - أن من يجلب فطورًا غالي الثمن للمسجد يوميًا تاجر سجائر. وقد عرفت ذلك عن عدد منهم.

وهذا يذكر بأصحاب القنوات الإسلامية، وهم يمتلكون قنوات فجور في ذات الوقت.

والمجتمع أصبح كالصعاليك: حرص على أكل الحرام والمماطلة، وحرص على التصدق.

ونحن نخشى أن شدة الحرص على (مطالعة) القرآن لمرات هو حرص شكلي، وأقول معذرة: (مطالعة) لأنها ليست قراءة، فموظفة البنك تقولها صريحة: إنها تعرف أنها تعمل بالحرام، وهي مصرة على الصيام والصلاة والحرام، والذي يأكل أموال الناس ويظلمهم وهو يصلي يدرك ذلك جيدًا، أو الأقل أغلبهم يدرك ذلك!

هذه التناقضات - ومثلها كثير - وَلَّدَت نوعًا من التدين الذي يجمع المتناقضات، ونوعًا من التصالح بين أمور متناقضة، وأصبح ذلك ظاهرة مجتمعية دينية تبقى ولا تُعالج، لأنه – بصراحة - الحركات الإصلاحية اليوم غابت عن الساحة، وحالة المسلمين كحالة اليهود عندما غاب التدين عنهم إلا بأمور شكلية، فأصبح تدينهم تدينًا شكليًّا، وتعلق بالدنيا بشكل سافر، وكثير من الوعاظ يتصالح مع الظاهرة ولا يعالجها بحجج ضعيفة، تدلك على إنه واعظ، وليس من أهل العلم، كما أن أهل العلم غابوا عن المجتمع.

هذه الظواهر وهو التدين الظاهري شكلًا، والتناقض في السلوك هي ظاهرة خطيرة لكونها تتحول إلى دين جديد. والله المستعان([23]).

ونقول معلقين على هذه المشاهدات التي سُجِّلَتْ قبل عامين: إن هذا الوباء الذي نزل بنا قد أغنى عن كثير من جهود الوعاظ والمصلحين والمُذكِّرين!

وبناء عليه نقول: إننا نعرف أن كثيرًا من الناس لا يعجبهم مثل الجملة الآتية، ويعتبرها مزايدة، أو: مبالغة، أو: شراسة تفكير، لكننا - والله - لا نجد من الجمل ما هو أهدأ منها، مما يناسب حقيقة الحال:

(إنَّ الذي يحييه الله لرمضان، الشهر الشريف، ركن الإسلام، ثم يشاهد المسلسلات والبرامج الرمضانية المصنوعة للإفساد، سواء شاهدها على التلفاز أو الإنترنت: هو شريك بماله في إفساد هذه الأمة، فهو مفسِد، وليس مجرد فاسد، وهو حجر عثرة في طريق التمكين لهذا الدين).

جملة أخرى: (إنَّ الذي سيشاهد المسلسلات والبرامج في رمضان، ولم يعتبِر إلى الآن، ولم يجد لنفسه طريق استفاقة عاجلة من غفلته بعد كل ما يراه بعينه: يوشك أن يموت قلبُه، فإننا في واحدة من العِبر التاريخية، فلم يبق إلا أن يموت).

اللهم عافنا يا رب، واعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن([24]).

 

 


([1]) «مجلة المنار» (21/499).

([2]) بحسب منظمة الصحة العالمية تم تسجيل أكثر من 111 ألف إصابة بفيروس كورونا المستجد وأكثر من 5500 وفاة في منطقة شرق المتوسط التي تشمل 22 دولة وتمتد من المغرب الى باكستان باستثناء الجزائر، في حين تجاوز عدد الاصابات في العالم المليونين والوفيات 140 ألفًا.

([3]) «النبوات» (2/915).

([4]) انظر «البلايا والمحن والرزيا» للعز بن عبد السلام.

([5]) «مدارج السالكين» (1/500-501).

([6]) «مفتاح دار السعادة» (2/868).

([7]) «محاسن الشريعة» (ص113).

([8]) «شرح السنة» للبغوي (4/3).

([9]) «مفتاح دار السعادة» (2/868).

([10]) «إغاثة اللهفان» (2/ 948).

([11]) «تفسير القرآن العظيم» (1/509).

([12]) من كلام الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام. «شرح السنة» للبغوي (6/224).

([13]) مقدمة «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم.

([14]) «حلية الأولياء» (9/275).

([15]) ذهب الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم إلى أن الأفضل صلاتها جماعة، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل صلاتها فرادى في البيوت. «المغني» لابن قدامة (1/457)، «شرح صحيح مسلم» للنووي (6/39)، «مختصر قيام رمضان» للمروزي (ص37-40)، «مختصر الحوادث والبدع» للطرطوشي (ص31-32).

([16]) أخرجه أحمد (19679)، وأبو داود (3091)، وابن حبان (2929). 

([17]) انظر «مختصر قيام رمضان» للمروزي (ص55-56).

([18]) «مختصر قيام رمضان للمروزي» (ص102).

([19]) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3494)، ووقع في المطبوع من «أحكام القرآن» للجصاص (3/430): (يتناهوا عنها) بدلا من (يناموا عنها) وهو تصحيف.

([20]) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (3488).

([21]) «روح الصيام ومعانيه» عبد العزيز مصطفى كامل (ص59).

([22]) «قاعدة في المحبة» لابن تيمية (ص177).

([23]) من كلام الشيخ إياد القيسي (داعية عراقي).

([24]) من كلام الشيخ خالد بهاء الدين (داعية مصري).