حينما كنت طالبًا في كلية شبلي، بمدينة أعظم كره، تسع سنوات تقريبًا، وقعت يدي على بعض الكتب التي تتعلق بقواعد الإسلام، فأقبلت على دراستها بكل رغبة واجتهاد، وأول كتاب قرأته هو (الدين الحق) المترجم باللغة الهندية، لفضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي حفظه الله.
وبدأ هذا الكتاب بقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وكنت جاهلًا بمعاني القرآن الكريم، ومع ذلك فقد أثَّرت ترجمة الآية في نفسي تأثيرًا شديدًا؛ لأني كنت أعتقد دين آبائي اعتقادًا جازمًا أنه الحق، والعداوة للإسلام كانت راسخة في قلوبنا نتيجة الاتهامات الكاذبة الشائعة لملوك المسلمين من قبل المؤرخين الهندكييين الذين كنا ندرس كتبهم في المدارس الحكومية، ويزعم هؤلاء المؤرخون أن المسلمين قد حكموا البلاد بالظلم والعدوان، وهذا يتركز في أذهان الطلاب الهندكيين، لأجل ذلك يجد الطالب نفسه مضطرًا لمعاداة المسلمين وبغضهم.
وازدادت تلك العداوة حتى عمَّت البلوى، وكنت ممن يكن البغضاء للمسلمين، فجعلت أبحث في الكتب الإسلامية عن الإسلام ليلًا ونهارًا، لعلِّي أستطيع بذلك الطعن فيه، ولكن الأمر قد انعكس حينما أثَّرَت هذه الكتب في نفسي تأثيرًا ألجأني إلى هجر الكتب الدراسية التي كنت أدرس في ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن الدين الهندكي كان منذ آلاف السنين هو المصدر الوحيد للحضارة الهندية وأساس قوانينها، لذلك كنت في قلق واضطراب من (ويدك وهرم) وقد بقيت بضع سنين في هذه العصبة الجاهلية.
والمؤرخون الهندكيين يكنون للسلمين عداوة شديدة في صدورهم، ويكشفون عنها الحجب في كتبهم التاريخية، وأحيانًا يطعنون في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الطاهرة، بقولهم: إنه كان راغبًا في الحياة الدنيا ولذاتها، وهذا الجهل المركب تركز في عقول الشباب الهندكيين.
ومهما يكن فإن عداوة الإسلام كانت من تراث آبائنا، فإذا نظرت إلى أحوال المسلمين لم أجد فيها ما يرغبني، فإنهم متخلفون من الوجهة الاقتصادية والوجهة الخلقية، لذلك كان معظم الناس يقولون: إن الإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى الهدى والرشاد ومن يهديه إليهما بعد أن ضل ضلالًا بعيدًا.
وبالجملة فإن جميع الأسباب لمعاداة المسلمين والإسلام كانت متوفرة لدى الطالب الهندكي، ولا يستطيع الطالب بمعلوماته القليلة الضيقة أن يبحث مباحث توصله إلى دين الحق، ويكشف عنه ظلمات اللبس وسحب الجهل، إذ ليس من المعقول أن تعتبر هذه المعلومات الضئيلة كافية لحل مسائل الحياة الإنسانية، فوجدت نفسي مضطرًّا للرجوع إلى (ويد وهرم) ليطمئن قلبي بما أختار، وأسير على الطريق القويم، لكن ما وجدت فيه إلا أساطير الأولين من عبادة النار والبحر والأشجار وغيرها من الجمادات والبهائم التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فكيف بغيرها؟ وأحيانًا يعلل خلق الكون بصورة شنيعة قبيحة فيها رائحة منتنة يفر منها الإنسان اللبيب.
وهأنذا أسوق إليك أيها القارئ الكريم بعضها:
يقول الدكتور تاراجند، الفيلسوف الهندكي في كتابه (فكرة ويد):
إن الأضحية (أي ذبح الحيوان) آية لصلاح العالم، وهي وسيلة القوة للخالق إذا تعب من الخلق وذهبت قوته، فالملائكة يستردون هذه القوة بالأضحية، فينزل بها المطر وتطلع بها الشمس ويأتي بها الطوفان لأن هذه هي السبب الوحيد الذي تتم به إرادة الخالق! (ص 30).
(وشو): هو الإله الثالث في اعتقادهم، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما، وهو على كل شيء حفيظ، له أعين في جميع الجهات كلها، وله وجه في جميع الجهات، له أيد وأرجل كثيرة وهو وحده لا شريك له (ريتي ويد 10 – 81 – 2 – 4).
وهو ذات واحدة يسمى برم برش – أفضل الناس – له آلاف الرؤوس وآلاف الأعين وآلاف الأرجل، وهو محيط بجميع العالم ومنفصل عنه، وكل ما كان وما يكون فهو صادر منه، وهو مالك الحياة الأبدية، ولا يعاقب على أي عمل يعمله، لأن أعماله كلها خير.
(فكرة ويدانت):
يقول المفكر الهندوكي وويكانند في كتابه (HINDUISM):
خرج هذا العالم من العدم إلى الوجود بإرادة الخالق، المادة والروح والخالق كل منها أزلي وقديم لا يجري عليها زمان ولا يأتي عليها حدوث، تدوم الحياة كما يدوم الخالق، وكذلك تدوم الفكرة ولكنها تتغير بتغير الزمن. أما الخالق فهو موجود في كل زمان ومكان، عالم بكل شيء، ليس له صورة حسية ولن يستطيع أحد أن يصل إلى رفعته، إذا ادعى أحد لنفسه أنه الله فقد كفر به. (ص 64 – 61).
(فكرة منو السمرتي):
إن هذا الكتاب هو المأخذ الأساسي لقانون الهنادك، ودونك الباب الأول الذي يبحث فيه عن الخلق:
إن هذه الدنيا كانت غامضة لا توجد لها علامة ولا وسيلة يتوسل إليها، ثم ظهر برميشور (إله الآلهة) بمادة التكوين، وأراد أن يخلق خلقًا من ذاته، فخلق الماء وألقى فيه النطفة، وأصبحت هذه النطفة بيضة، فإذا ببراهما الخالق يخرج منها، وكسر البيضة نصفين، فخلق من أحدهما الجنة، ومن الثاني الأرض، ومن فخذه (ويسن)، ومن رجله (شودر)، فما دام براهما مستيقظًا فالدنيا باقية، وإذا أخذه النوم تقوم القيامة (من الباب الأول إلى الخامس ثم العاشر).
(فكرة بران):
يعد بران عند الهندكيين من الكتب المقدسة، أسفاره أكثر من أن تحصى، ولكن كله ينسب إلى ويدوياسي، فاختلف أصحاب بران في خلق العالم، وجاؤوا بالقصص الماجنة البذيئة، ودونك بعضها:
يقول صاحب بران (ديوي بهكوت): الخالق لهذا العالم هو امرأة من شرى بور اسمها شرى، وهي التي خلقت الآلهة الثلاثة المعروفين لديهم (برهما خالق الحياة) و(شنو الرزاق) و(مهيش قابض الأرواح).
ولما أرادت هذه المرأة أن تخلق العالم وضعت إحدى يديها على الأخرى فإذا ببرهما خرج منها، وأمرته أن يتزوجها، فأبى، فأحرقته أيضًا، ثم أعادت العمل فخرج (مهيش) فأمرته أن يتزوجها، فامتنع إلا بشرط وهو أن تغير صورتها وتأتي بصورة غيرها، ففعلت ما طلب منها، ثم طلب مهيش أن تحيي أخويه اللذَين أحرقتهما، فأحيتهما، ثم طلب أن تخلق امرأتين يتزوج كل واحد منهما بواحدة، ففعلت وتزوج كل واحد منهم بواحدة، فهؤلاء الآلهة الثلاثة هم الذين خلقوا العالم ويديرونه! (ستيسارتق بركاش: الباب 11).
وفي هذه الكتب المقدسة عندهم أفعال ينسبونها إلى الخالق لا يرضى أحد من الناس أن تنسب إليه – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا –، فكان مثلي بعد دراسة (ويدك وهرم) كمثل رجل فر من المطر خوفًا من البلل ووقف تحت الميزاب أو كما قال الشاعر العربي:
المستجير بعمر عند كربتهِ * كالمستجير من الرمضاء بالنارِ
وبعد ذلك انشرح صدري للخروج من دين آبائي وطرح العقيدة الجاهلية والدخول في الإسلام، وسجدت شكرًا لله القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.
الأمور التي حملتني على الدخول في الإسلام:
هذه الأمور المهمة الثابتة التي أدركت حقيقتها قبل تسع سنوات في الأيام الجاهلية، وكنت على دين آبائي فاهتديت - بحمد الله – لتركه، واتجهت إلى الإسلام بكل وجودي، وهو حق لا يرتاب فيه عاقل، {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}.
ولما دخلت في الإسلام أصابتني مصائب شتى {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}، وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
المرحلة الأولى: أن والدي حرمني من التعليم العالي، وأخرجني من مدينة (أعظم كره)، وبعثني إلى (كلكتا)، حيث صرت غريبًا لا أجد فيها أحدًا من المسلمين أعرفه ويعرفني، ولكن الله يسر لي في غربتي من أرشدني وأعارني ما كنت في حاجة إليه من الكتب، ولولا ذلك لكان إسلامي في خطر عظيم، والحقيقة أن هذه المرحلة كانت على أشد ما يتصور، وبعد الوصول إلى كلكتا مباشرة بحثت عن مركز الجماعة الإسلامية، ووجدته وحصلت على بعض الكتب الهندية المترجمة، وبدأت أطالعها لأستعد للمرحلة الآتية، وقد اطمأنت نفسي بمصاحبة الشيخ عبدالتواب - حفظه الله - في هذه المرحلة، فأحمد الله الذي يسر لي الأمور إلى هذا الحد، وأيضًا أشكر المخلصين الذين ساعدوني كل المساعدة في اللحظات الخطيرة، والله لا يضيع أجر المحسنين.
المرحلة الثانية: هذه المرحلة كانت مرحلة البحث والمناظرة مع النساك الهندكيين، مع صغر سني وقلة علمي وبعدي عن المسلمين، وكلما فكرت في البحث والمناظرة التي جرت بيني وبين النساك الهندكيين تعجبت كيف انتصرت عليهم وقد كانت القوى الكافرة متألبة على إسلامي على اختلاف مسالكها ومذاهبها؟!
لا أذكر من أسئلتهم إلا سؤالًا واحدًا وهو قولهم: "لم تختارون الإسلام مع أن المسلمين في شدة وضيق وتفرق وفقر وبعد عن الأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة؟"، فأجبتهم قائلًا: "ما اخترت الإسلام إلا بعد مطالعة قواعد الإسلام، لا بدراسة أحوال المسلمين اليوم وإن كنتم في ريب منه فاعرضوا علي ما أشكل عليكم من أصل الإسلام وعقيدته". ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح، فبهتوا وسكتوا وانقلبوا خائبين يلومون أنفسهم كما هي عادة المعاندين عند المحاولة، فصدق عليهم قول الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فما كنت أرجع إلى بيتي إلا وقلبي مطمئن بالإيمان، واستمر هذا البحث والنقد خمسة عشر يومًا متوالية.
المرحلة الثالثة: ثم جاءت مرحلة الأذى والتعذيب التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر، فمن أذاهم حبسهم الماء والطعام عني، وانقضوا علي ضربًا بالعصا والنعال، فاستمروا بجهودهم شهرين متتابعين، وبعدما يئسوا من رجوعي إلى دينهم تآمروا على قتلي، ولولا أن الله أنجاني منهم بلطفه الخفي لقتلوني شر قتلة، فيسر الله لي طريق الهجرة وهاجرت إلى مكان هادئ، تاركًا والدي والرفقاء والأصدقاء والكثير من العشيرة الأقربين لأحافظ على ديني وإيماني كل المحافظة بفرح وسرور، كما هاجر أبونا إبراهيم عليه السلام قائلًا: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
المرحلة الرابعة: فلما خرجت من وطني مهاجرًا إلى ربي ووصلت إلى بعد 400 كيلومتر غربًا إلى بلدة بدايون، أردت أن أقرأ القرآن وأتعلم اللغة الأردية، فعينت مدرسًا للغة الهندية والإنجليزية والتاريخ والرياضيات في مدرسة إسلامية صغيرة، وفي أوقات الفراغ كنت أتعلم القرآن، ولكن الهندكيين علموا بذلك، ولم يرضوا بهذا، فجاءت المؤامرات الأخرى، ووجدت نفسي مضطرًا إلى الخروج من هذه الناحية إلى ناحية أخرى بعيدة عنها وهي مدارس في جنوب الهند وتبعد عنها ألفي ميل.
ولما وصلت إلى هذه المدارس التحقت بمدرسة دينية معروفة تسمى بجامعة دار الإسلام، وهي محاطة بالجبال والأشجار، ذات بهجة ومنظر ممتع يسر الناظرين، ثم أصبحت طالبًا رسميًّا في تلك المدرسة، وهذه المدرسة تهتم بالتعليم والتربية، متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلك حفظني الله من التعصب للمذاهب واتباع الأهواء والفرق المبتدعة والطرائق الخرافية.
فطفقت أتعلم اللغة العربية وآدابها وعلومها والعلوم الدينية، من تفسير وحديث وفقه، وتعلمت شيئًا من المنطق والفلسفة، واستمرت دراستي ست سنين، ثم بعد التخرج في المدرسة قدمت طلبًا للالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كي أنهل العلوم الشرعية من مناهلها الصافية، فقبل الشيخ طلبي، فسافرت من بلاد الهند إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، سائلًا الله تعالى أن يجعلني من الحنفاء المخلصين له الدين، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.