نظرات في دعوة المبشرين (2)مقالات

ممدوح فخري

وأما الرسول الذي يزعم المبشرون اتِّباعه فهو المسيح عليه السلام، وهو نبي كريم وهو عبد الله ورسوله وقد أدى رسالة ربه ومهَّد لظهور أخيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المعروف من حياة المسيح عليه السلام وهديه في شؤونه الخاصة والعامة لا يكفي بشكل من الأشكال لجعل تلك السيرة قدوة ومنهاجًا لإنسان يؤمن بالمسيح ويريد أن يتبعه ورغم قصر المدة التي قضاها المسيح عليه السلام في التبليغ ورغم رفع الله له إلى السماء في سن مبكرة فإن شطرًا كبيرًا من تلك المدة القصيرة مجهول غير محفوظ، فبعض المواعظ والرقائق مع بعض التعديلات في التوراة لا يكفي لأمة تحتاج في كل ناحية من نواحي حياتها لمرشد يهديها سبيل الرشاد، وهل هذا المرشد إلا هذا النبي؟ وإذا لم تحفظ الأيام حياة النبي وسيرته بشكل مفصل وواف ومقبول، ومنقول نقلًا صحيحًا فكيف نتبعه؟

وأمام هذا تستطيع أن تقول بدون تردد في النبي العظيم محمد عليه الصلاة والسلام: إن أمته لم تفقد منه فعلًا إلا جسده الشريف، وأما أقوله وأعماله وشؤون حياته كلها في مجالاته الخاصة والعامة بل حتى شؤونه الشخصية البحث من أكله وشربه ونومه واستيقاظه وضحكه وتبسمه وملابسه وأوانيه ودوابه وأسماء هذه الدواب وجلوسه ومشيه واتكائه والتفاته وشكله ولونه وطوله وعرضه ولون شعره وبشره، وغير ذلك من جميع شمائله وخصاصه وشؤون حياته وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، كل ذلك قد دون وأحصي ودرس وسجل في كتب السير والشمائل والتاريخ بشكل لا مزيد عليه ونقل كل ذلك إلينا بطريق علمية تبهر علماء التاريخ من الأوروبيين، مع حفظ أسماء النقلة وأحوالهم وكتبهم.

ومن أراد أن يتتبع حياة الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل ولادته إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ويعيش معه حياته المباركة بكل تفاصيلها الجليلة والدقيقة من شؤون البيت ومداعبة الأطفال وملاطفة النساء إلى خصف النعل وغير ذلك من كل ما يخطر ببالك من شأنه ما عليه إلا أن يقرأ كتب السيرة والشمائل وحسبه من ذلك على سبيل المثال: كتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله وكتاب الشفا للقاضي عياض - رحمه الله - وكتاب السيرة النبوية لابن هشام وإمتاع الأسماع للمقريزي وعيون الأثر لابن سيد الناس، مع كتب التاريخ التي لا سبيل إلى حصرها، وهذه الكتب زيادة على المعروف المشهور من كتب السنة المتداولة كالصحاح والسنن والمساند في هذه الحياة الكريمة والسيرة العطرة يجد المسلم كل ما يحتاج إليه في حياته الخاصة والعامة.

وليقل بعد هذا كل عاقل هل من تكريم العقل والعدل والعلم والإنصاف أن يعدل الإنسان عن هذه السيرة الكاملة والمحفوظة والمضبوطة والمنقولة نقلًا صحيحًا لا شك فيه إلى سيرة مجهولة ناقصة المحفوظ منها لا يفي بحاجة الإنسان في أية ناحية يستفتيها ومع جهالتها ونقصها لم تنقل نقلًا صحيحًا؟

وكما أن القرآن الكريم هو الكتب السماوي الوحيد الذي حفظه الله وصانه ووضع فيه أسس السعادة والصلاح لكل زمان ومكان ويمثل بين دفتيه حكم الله خالصًا وقادرًا على تنظيم حياة الإنسان في كل مجالاتها، فكذلك سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، هي السيرة المحفوظة المتكاملة الوحيدة والقادرة على مد الإنسان بكل ما يحتاج إليه في دقائق حياته كلها.

وبعد هذا كله فما الذي قدمته النصرانية للإنسان عبر التاريخ؟ أي حل قدمته للإنسان في مشاكله العقائدية والأخلاقية والتشريعية؟ وما هي القيم التي قدمتها؟ وما هي المثل التي صدرتها؟ وما هي الأمجاد التي حققتها؟ وما هي الحضارة التي نشأت في ظلها ورعايتها؟

إن الذي يحفظه التاريخ للمسيحية من كل ذلك باختصار شديد هو ما يلي: جماعة من رجال الدين في كل عصر تستطيل على الناس بسلطانها الديني وتتطاول على كراسي الحكم بغير حق وتدعي لنفسها أنها ظل الله فتتحكم في رقاب البشر باسم الله، والله من كل ذلك الظلم بريء، وتخدر الناس بالرضا بالواقع لأنه حكم الله. وتعتبر كل خروج على آرائها خروجًا على الله، وتقمع جميع الحركات التحررية والعلمية، وتخنق الثورات والنهضات بهذه الحجة وتجعل حصيلة كل ذلك وسيلة لشهوات حفنة قليلة من رجال الدين برئاسة البابا، وقد كان لموقف رجال الدين النهضة العلمية في أوربا ضرره البالغ على الديانات كلها في العالم وعلى الإسلام بوجه أخص، وذلك حينما وقفت العقول المتحجرة سدًّا منيعًا أمام التيار العلمي المتدفق وحرمت على الناس استخدام حقهم الطبيعي في التفكير والإبداع وبررت ذلك التحجير والتحريم باسم الدين.

كفر العلماء بذلك الدين المتحجر الذي يقوم وجودهم ويهددهم في حياتهم وفي مبتكراتهم العلمية ويكرههم على البقاء في ظلمة الجهل والتخلف، وكنتيجة طبيعية لهذا الموقف نشأت الحركة العلمية في ظل الإلحاد ثم غزت العالم كله وهي تحمل هذا الطابع وتنفر وبالتالي من كل دين ومن كل ما يمت إلى الله بصلة وقد نسيت أن تميز في حركة اندفاعها وشرودها عن الكنيسة وعن دينها ورجالها وأن تميز بين دين ودين وحكمت على الديانات كلها بالإعدام واعتبرتها منافية للعقل والعلم وأخرجتها بذلك من ميدان الحقائق العلمية المسلمة إلى عالم الخرافات والأحلام والشعوذة ففقدت الديانات بذلك قدسيتها وتأثيرها على الناس وأصبح الدين كالمجرم الذي أدين ووضع في قفص الاتهام وعلى أثر انزواء الدين من المجتمعات طغت فيها مردة الأبالسة من الملاحدة وخرج الأمر كله بذلك من يد أهل الخير والصلاح.

هذا ما جنته الكنيسة على الإنسانية في الماضي والحاضر وهذا ما قدمته لها، وأما قيم الإسلام ومثله العليا ورسالته التي أنقذ بها العالم والحضارة الإنسانية الشاملة التي شيد صورها والحركات العلمية التي أنبتها نباتًا حسنًا في ظل رعايته عبر التاريخ شيء يغنينا اشتهاره عن الإطالة فيه، ولا تزال آثاره ماثلة على مرأى الأوروبيين في بلادهم وفي التراث العلمي العريق الذي خلفه المسلمون في مكتبتهم الزاخرة العامرة.

والسؤال الذي يهجم على الإنسان الآن بعد ما تقدم هو ما يلي:

إذا كانت للمسلمين هذه الحصانة في العقيدة والشريعة والكتاب والرسول وهذه الأمجاد التاريخية فكيف يتسرب إلى صفوفهم المبشرون وهم من وصفت في العقيدة والشريعة والرسول والكتاب والتاريخ؟

والجواب عن هذا السؤال هو: أن المبشرين لم يأتوا إلى المسلمين بشيء أفضل مما عندهم فيما ذكر ولكنهم وجدوا في المسلمين ثغرتين كبيرتين تسربوا منها إلى بيوت المسلمين وقلوبهم..

هاتان الثغرتان هما تخلف المسلمين الاقتصادي وتخلفهم العلمي، وأما التخلف الاقتصادي فأمر ينتظم العالم الإسلامي كله والفقر المدقع عامل مشترك بين أبناء الأمة الإسلامية التي تتربع على منابع الثروات العالمية، والتخلف الاقتصادي في الحقيقة نتيجة طبيعية للتخلف العلمي الذي يعاني منه المسلمون في كل ميدان من ميادين الحياة.

إن المسلمين بحاجة إلى الكثير من فقه المادة إن صح هذا التعبير ليعرفوا كيف يستغلون هذه الثروات الطبيعية الهائلة التي يجثمون فوقها والتي يسرقها أعداؤهم على مرأى منهم ومسمع. والإنعاش الاقتصادي ليس في الحقيقة إلا جزءًا من إنعاش عام يشمل جميع جوانب الحياة في الأمة، فما لم يعرف المسلمون كيف يحسنون الاستفادة من الكنوز التي يملكون مفاتيحها سيبقون في حاجة دائمة لعدوهم الذي يجود عليهم بمالهم مقابل الخروج عن دينهم والتنكر لتراثهم.

وقد قيل قديمًا: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك، وهذا يبين السبب الذي يبيع به ضعاف الإيمان من المسلمين دينهم برغيف يبقي لهم حياتهم، والسبب هم جهلهم بدينهم وبأساليب الحياة الحديثة وبمبتكرات الحركة العلمية التي وضع أسلافهم أصولها باعتراف أعدائهم.

وأما جهلهم بدينهم فقد سمع للمبشرين بأن يدسوا على الإسلام ما شاؤوا من مفتريات وأباطيل وبأن يشوهوا جمال الإسلام في نفوس أهله ويزعزعوا مكانة ذلك الدين في قلوب أبنائه مما يضعف روح المقاومة عندهم ويوجد لديهم قابلية الانهزام والتبعية والذوبان مما يمهد الطريق أمام المبشرين لسلخهم عن دينهم.

وأما عدم الأخذ بأسباب الحياة العلمية الحديثة فقد جعل المسلمين يعجبون بما لدى أعدائهم من تقدم علمي هائل يتصاغر أمامه الإنسان الجاهل، ويفتن بما يرى ويكبر في نفسه وفي عينه من تحققت تلك المعجزات على يديه ومن جلبها إلى بلاده وبالتالي وكنتيجة طبيعية يزدري ما عنده وهنا يصل المبشرون إلى الغاية المنشودة حيث تسقط عزة المسلم الجاهل أمام بريق الحضارة الخداع فيزداد تضاؤلًا في نفسه وتعظيمًا لغيره حريصًا كل الحرص على تقليد من شاد هذه الحضارة ورفع منارتها مستعدًا لبذل ما لديه من دين وخلق في سبيل التشبه بهم.

هاتان هما الثغرتان الكبيرتان في واقع المسلمين نفذ منهما المبشرون وأسيادهم المستعمرون إلى نفوس المسلمين وبلدانهم واستطاعوا أن يوقعوا في شباكهم فريقين من الناس:

فريق جائع محتاج ساوموه على حياته واشتروه، وفريق جاهل غرروا به وضللوه وأما أن يكسبوا لدينهم مسلمًا واحدًا عن إيمان وقناعة فلا سبيل إليه أبدًا، لأن دينًا لا يفهمه الداعون إليه أجدر ألا يفهمه المدعون وهذان الفريقان من ضحايا المبشرين لا يؤبه لهما في الحقيقة إزاء ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في مجال آخر بقي على ولائه الأسمى للإسلام ولكن جوهره قد تدنس بكل أباطيل المبشرين وخبائثهم، هذا المجال هو مجال المثقفين المسلمين. إن كان المبشرون قد استطاعوا أن يشتروا بعض المعوزين ويظللوا بعض الجاهلين فإنهم استطاعوا أن يشككوا الجمهور الأعظم من المثقفين ويزعزعوا إيمانهم ويهزوا يقينهم ويخدروا شعورهم الديني بحيث يكون الباقي منهم على دينه، مشلولًا مخدرًا قلق نهبًا للصراع النفسي العنيف بين عقيدته والشبهات التي ألقيت حول هذه العقيدة وكثيرًا ما انتهى هذا الأمر بهذا الصنف من المثقفين إلى الارتداد العلمي عن الإسلام وإن لم يصحب بذلك تصريح بإعلان الارتداد.

وما هذه الموجة العارمة من الارتداد والتي تجتاح المثقفين المسلمين إلا حصاد طبيعي لما زرعه المبشرون من بذور التشكيك في قلوبهم ومجال التشكيك والتظليل هو أهم ما يستهدفه المبشرون ويقنعون بذلك أمام صلابة العقيدة الإسلامية وقوتها.

وقد خطط المبشرون وأولياء أمورهم من المستعمرين لمن وقع في حبائلهم من المثقفين ووضعوا مقدرات الأمة الإسلامية في أيديهم وجعلوا الكثيرين منهم في مراكز الحكم والتوجيه وذلك إما ليستمروا في أداء مهمتهم التخريبية وظل هذا النوع من المسؤولين الذين ربوهم على أعينهم ونشؤوهم في حضانتهم ورعايتهم وإما لكي ينوب هذا النوع من المسؤولين في القيام بمهمة المبشرين في بلاد المسلمين من حرب لدينهم وصرف لهم عن تراثهم وتاريخهم وحمل لهم على الانسلاخ عن قيمهم في القلب والقالب.

وقد استطاع هذا النوع الجديد من المبشرين المحليين أن يخرجوا بشكل أعظم من المبشرين الأباعد، وذلك مستترين بالغلالة الرقيقة من الأسماء الإسلامية التي تنم عما تحتها من المخازي والفضائح.

إن المسلمين يجابهون بقوى لا طاقة لهم بها وهم على وضعهم الحالي، فهناك المبشرون المفسدون في المجال الفكري، ومن خلفهم المستعمرون في المجال الفكري، ومن خلفهم المستعمرون المفسدون في جميع المجالات ومعهم عملاؤهم في الداخل من أبناء المسلمين المخدوعين بهم، ووراء كل ذلك اليهودية العالمية بأساليبها الماكرة التي توجه السياسة العالمية، ومع هذا الجيش الهائل من الأعداء فإن عزيمة الشباب المؤمن (ذخيرة هذه الأمة) لا تلين ولا تضعف وهي تثق بنصر الله وتأييده ولن يزيدها تكالب الأعداء وتألبهم على دينه وأمته إلا مضاعفة النشاط والجهاد والتصميم على النصر حتى النهاية.

وبعد فهذه معلومات أولية وأساسية في هذا الموضوع وكل فقرة منه تصلح أن تكون مقالة مستقلة والفكرة ككل لا يتسع لها كتاب ولكن إن هي إلا محاولة عاجلة وعابرة مع علمي بأن المسيحية أضعف عدو يمكن أن يجابه الإسلام، وأن التيارات الملحدة التي تكتسح الشباب في العالم الإسلامي هي الخطر الحقيقي والأكيد على الإسلام، ولكن نظرًا لأن دعوات التبشير وإرسالياته تمد تلك التيارات الملحدة بهذا الشباب المرتد بما تتسبب به من تشكيك في الإسلام وصرف عنه وحرب له فتكون بذلك بمثابة المورد بالخامات لتلك التيارات، أقتضى التنويه على أصل الخطر مع عدم الغفلة عن الفرع.