خطوات لمعرفة طبيعة المدعوينمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن الدعوة فَنٌّ ومهارةٌ تحتاج إلى حكمة من الداعية تُجاهَ المدعوِّين وأساليب الدعوة، ومن أهم أسس الحكمة أن يُدرك الداعية أحوال المدعوِّين والفروق الفردية بينهم واختلاف طبائعهم، وأنه يتعامل مع نفوس بشرية، ونفوس الخلائق عجيبة، ومداخلها كثيرة ومعقَّدة، ولكلٍّ منها مَدْخَلٌ ومِفتاح لو مَلَكه الداعية، لاستطاع جذب المدعوِّ إلى طريق الخير والطاعة، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى اختلاف طبائع الناس بقوله: ((النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا)).[1]

- وطبائع النفوس غريبة ومختلفة الأهواء، منها ما جُبلت على حب الكرامة والميل إلى التعظيم، ومنها ما جبلت على حب الفخر، ومنها حب الظهور والرياء والشهرة، وغير ذلك، والداعية كالطبيب يعلم الداء والدواء، فيقدّم لهم ما يناسبهم، وما يُصلح أحوالهم.

والدعوة واقعية تحتاج إلى خطوات منظَّمة بعيدًا عن الارتجالية والعشوائية، فتحتاج إلى:

- أن يكون الداعية عالِمًا بالمكان الذي يبلِّغ فيه الدعوة، وواقعيًّا في تعامله مع المدعوين، يعلم واقعهم وبيئتهم وأحوالهم وظروفهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية، ويعرف عاداتهم وطبيعة مشكلاتهم والاختلافات والطبائع والشخصيات، فيستطيع بحكمته وببصيرة المؤمن أن يراعيَ مشاعرَهم وحاجاتِهم وميولهم وأحوالهم واهتماماتهم وطبائعهم ونفسياتهم، فيتمكَّن من الوصول إلى قلوبهم ودعوة كل فئة بما يؤثِّر فيها ولا تُنكره، وينتقي من الأساليب الدعوية ما يتناسب مع طبائعهم وأحوالهم، ويخاطبهم بما يتناسب مع بيئتهم وعقولهم وتباينهم فيها؛ لتستجيب فتسارع إلى الخير؛ فمَثَلُه كالطبيب عند معالجة المريض؛ فعليه أن ينتقي أفضل الأساليب من التلطف واللين والرفق الذي يخفف أثره وحلاوته من مرارة الحق على النفوس.

- لقد فطر الله الخلق على قبول الحق؛ فكل إنسان يولد على الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ))[2].

فالإنسان مهيَّأ بطبعه لاستقبال رسالة الإسلام والحق، والاستجابة لها؛ ولكن تختلف درجات الاستجابة بحسب درجة انتكاسة فطرته أو استمراره عليها، بين من يستجيب مباشرة للحقِّ، ومن يحتاج إلى تفكير وتأمُّل فيتأخر في استجابته، ومن يُعرض عن الحق، ومن يعاند ويكابر.

وحتى هذا المعاند والمكابر مهيَّأ للاقتناع والاستجابة، وترى ذلك عندما يتعرَّض لبلاء يعلم أنه لا ينجِّيه منه إلا الله تعالى؛ قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

  • ولو نظرنا إلى طبيعة المدعوين وتقسيماتهم من أكثر من جهة، فسنجدهم أصنافًا شتَّى وطبائع مختلفة؛ فلو نظرت من حيث الإيمانُ والكفرُ؛ فمنهم المؤمن والمنافق والكافر، ولو نظرت إلى المؤمنين، لوجدتهم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].
  • أما من حيث قبولُهم للهدى والعلم: فمنهم من يَقبَل من العلم بقدر ما يعمل به ولم يَبلُغ درجة الإفادة، ومنهم من يقبل ويبلِّغ، ومنهم من لا يقبل؛ كما روى أَبو مُوسَى، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ))[3].

قَالَ النَّوَوِيّ: "معنى هَذَا التَّمْثِيل أَن الأَرْض ثَلَاثَة أَنْوَاع، فَكَذَلِك النَّاس، فالنوع الأول من الأَرْض: ينْتَفع بالمطر فتحيا بعد أَن كَانَت ميتَةً، وتُنبت الكَلَأ فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَابُّ. وَالنَّوْع الأول من النَّاس: يبلغهُ الْهدى وَالْعِلم فيحفظه ويُحيي قلبَه وَيعْمل بِهِ ويعلِّمه غَيره فينتفع وينفع. وَالنَّوْع الثَّانِي من الأَرْض: مَا لَا يقبل الِانْتِفَاع فِي نَفسها؛ لَكِن فِيهَا فَائِدَة، وَهِي إمْسَاك المَاء لغَيْرهَا، فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَابُّ. وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي من النَّاس: لَهُم قُلُوب حافظة؛ لَكِن لَيست لَهُم أذهان ثاقبة، وَلَا رسوخ لَهُم فِي الْعلم يستنبطون بِهِ الْمعَانِيَ وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ لَهُم اجْتِهَاد فِي الْعَمَل بِهِ، فهم يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَجِيء أهل الْعلم للنفع وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخذهُ مِنْهُم فينتفع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نفعوا بِمَا بَلغهُمْ. وَالثَّالِث من الأَرْض: هُوَ السباخ الَّتِي لَا تنْبت، فَهِيَ لَا تنْتَفع بِالْمَاءِ وَلَا تُمسكه لينْتَفع بِهِ غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِث من النَّاس: لَيست لَهُم قُلُوب حافظة، وَلَا أفهام وَاعِيَة، فَإِذا سمعُوا الْعلم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لنفع غَيرهم. الأول: المنتفع النافع، وَالثَّانِي: النافع غير المنتفع. وَالثَّالِث: غير النافع وَغير المنتفع. فَالْأول: إِشَارَة إِلَى الْعلمَاء. وَالثَّانِي إِلَى النقلَة. وَالثَّالِث: إِلَى من لَا علم لَهُ وَلَا عقل"[4].

-وهناك نظرة مهمة إلى طبائع المدعوين بحكم أوضاعهم الاجتماعية والفكرية، ومستوياتهم الثقافية والعلمية، ومكانتهم في المجتمع من حيث السلطة، أو الجاه، أو المال، أو مدى استجابتهم لدعوة الحق، فهم أنواع كالتالي:

- الملأ كما أطلق عليهم القرآن: وهم رؤوس القوم والقادة والأعيان وسادة المجتمع، أصحاب النفوذ والسلطة والجاه في البلاد، ومن الصفات الغالبة فيهم التكبُّر وحبُّ الجاه والرئاسة، والتهافت على متع الدنيا، والغفلة عن الدار الآخرة، وغالبًا ما يعارضون الدعوة خوفًا من تأثيرها على مكانتهم، أو بسبب الجهل والعناد، وعلى الداعية أن يتَّبع في المعاملة مع هذا النوع من الناس مناهج الرسل الكرام، مستنيرًا بقصصهم الواردة في القرآن الكريم.

- ومنهم المنافقون والمداهنون: الذين يتظاهرون بقبول الدعوة رغبة في التقرُّب إلى الصالحين؛ للاحتفاظ ببعض المصالح الذاتية، وفي الوقت نفسه يُظهرون الولاء للسادة الذين يضمرون العداء للدعوة، ويتودَّدون إليهم خوفًا من ضياع قربتهم إلى هؤلاء السادة، واستصغارًا لشأن متَّبعي دعوة الحق والإصلاح، وهم أشبه بمن قال الله تعالى في شأنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].

- أهل المعاصي: وهم أكثر الناس، ويحتاجون لأساليب الدعوة من الرفق واللين والشفقة، وغيرها من الوسائل لاستمالتهم إلى طريق الهدى.

- الزنادقةُ الملحدون: يحتاجون إلى داعية يمتلك أدواته من العلم والفطنة واستخدام الأدلة العقلية والحسية والبَدَهيات، واستثارة الفطرة الكامنة في النفوس.

- الأهلُ والأقارب: فدعوة الأقربين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأولى الواجبات، ولهم حقوق كثيرة، من أهمها نصحهم ودعوتهم للهدى.

- أشراف الناس: ينزلون منازلهم، ويخاطبهم على قدر مكانتهم ومنازلهم.

وأخيرًا، ومع كل ما سبق، فالدعوة ليست مجرد تخطيط وأساليب بمجرد سلوكها ينجح الداعية؛ فمع أهمية التخطيط والتجربة والممارسة واستخدام الأساليب الصحيحة؛ فهناك توفيق من الله؛ فقد يهتدي الإنسان بكلمة عابرة لا تُلقي لها بالاً، مع أنك وعظته كثيرا بمواعظ بليغة تظن أنها تهدي وتحرك الحجر لا القلب القاسي فقط، وكما قال الشاعر: (لهوى النفوس سريرة لا تعلم)، فعلى الداعية العمل والأخذ بالأسباب والتوفيق من الله تعالى.


[1] متفق عليه.

[2] متفق عليه.

[3] متفق عليه.

[4] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 79).