فنون مخاطبة الآخرين في الدعوةمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إذا كان الفَنُّ مهارةً يَحكُمُها الذَّوْقُ والمواهب، فإن الدعوة بوصفها فنًّا تحتاج إلى دعاة أصحاب مهارة ومواهبَ وذَوق رفيع؛ فإذا كان الماهرون والحذَّاق يُتقنون في الإبداع والبناء والصناعة وغيرها، فإن الدعاة يبنون الحياة، يبنون الإنسان؛ ليعيش في هذه الحياة - التي يتكدَّر فيها الجميع إلا من رحم ربي – هانئًا مطمئنًّا، راضيًا بالله وعن الله، يحيا له وبه.

ذلك الداعية الماهر الموهوب لابد أن يكون مخلصًا لله – أولاً وقبل كل شيء – مدركًا هدفَه وأفضل الطرق المؤدِّية إليه، ممتثلاً لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

إذن؛ من الآية ترتكز الدعوة إلى الله تعالى على قواعدَ ثلاثٍ، هي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وربما كانت الحكمة تجمع القواعد الثلاث.

فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، والداعية الحكيم يعلم دَوْرَه وهدفه جيِّدًا؛ "ابتعثَنا اللهُ لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" كما قال رِبْعيُّ بنُ عامرٍ رضي الله عنه لرستم قائد الفرس[1].

والداعية الحكيم يُدرك أحوال المدعوِّين والفروق الفردية بينهم، وأنه يتعامل مع نفوس بشرية، لكلٍّ منها مَدْخَلٌ ومِفتاح لو مَلَكه الداعية، لاستطاع جذب المدعوِّ إلى طريق الخير والطاعة، فيخاطب الناس على قدر عقولهم وتباينهم فيها، بين عاقل وضعيف العقل، ومثقَّف وضعيف الثقافة، ومتعلِّم وطالب علم، ومدنيٍّ وقَرويٍّ وبَدويٍّ، ومن بيئة تحبُّ الدين ومن ليس كذلك... إلخ.

فالحكمة تقتضي أن يكون الداعية مُقدِّرًا كلَّ هذه الظروف والأحوال والشخصيات، يستطيع بحكمته وببصيرة المؤمن أن يراعيَ مشاعرَهم وحاجاتِهم، فيتمكَّن من الوصول إلى قلوبهم ودعوة كل فئة بما يؤثِّر فيها ولا تُنكره، فيخاطبهم بما يتناسب مع بيئتهم، ويراعي ميولهم وأحوالهم واهتماماتهم وطبائعهم ونفسياتهم؛ لتستجيب فتسارع إلى الخير.

 ومن حكمة الداعية أن يُنزل الناس منازلهم، مهما تفاوتوا في السن والمنزلة والقدر والعلم والحكمة والخير والإيمان، وهلمَّ على هذا الجَرِّ، فلا بد أن يعرف معادن الناس واضعًا نُصْبَ عينيه دائمًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا)).[2]

ومن حكمة الداعية أن يلتزم بالشرع، فلا تحمله الحَمِيَّة والحماس للدعوة على تعظيم جانب الحسنات والسيئات بأكثر مما هي عليه بالشريعة، فلا يتجاوز ويلجأ إلى الأحاديث الواهنة والموضوعة ليحضَّ الناسَ على الخير، ويحذِّرهم من الشَّر، وعليه أن يكون على قَدْرٍ من الثقافة، فيكون لديه علم ومعرفة وإدراك بشتَّى أمور الحياة والواقع؛ حتى يتمكَّن من الولوج للمدعوِّ من الجانب الذي يحبُّه، وليَحذَر أن يُفتيَ في دين الله بغير علم، فيُضِلَّ الناس بدلاً من هدايتهم!

وليحرص الداعية أن يوصل إلى المدعوِّين صغار مسائل العلم قبل كِبارها، وليبتعد عن الشُّبهات التي تقسِّي القلوب، والمسائل التي لا يستوعبها المدعوُّون ولو كانت حقًّا، وليتأسَّ في ذلك بما رواه عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَها: ((يَا عَائِشَةُ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ، فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ، بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ".[3]

ومن حكمته أن يتأسَّى بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيكون هيِّنًا ليِّنًا شَفوقًا في نُصح المدعوِّين باشًّا دائم التبسُّم، فيمتثل قول الله تعالى لنبيِّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فعليه أن يراعيَ جوانبَ الضعف البشريِّ من الشهوات والأخطاء، ولا يَقْسُ على المخطئ؛ بل يُشفق عليه ويأخذ بيديه برفقٍ وحُنُوٍّ، ويَدعَم جوانب الجِدِّ والاجتهاد في المدعوِّين، فيراعي نفسيَّات المدعوين، ويخاطب كُلًّا منهم حسب طبيعته؛ تلميحًا أو تصريحًا أو غير ذلك.. المهمُّ أن يكون الأسلوب مُحَبَبًا إلى نَفْس المدعوِّ.

 ومن حكمته أن يكون حَسَنَ الْمَظهَر والعبادة والأخلاق، ويبدو منه خُلُقُ التواضع في الحديث والعمل.

ومن حكمة الداعية أن يَدَعَ الناس يَرَوْنَ أخلاقه ودعوته حَيَّةً ماثلة أمامهم، ولا يتحدَّث عن نفسه البتَّةَ، ولا يزكِّي نفسه، ولابد أن يعلم أنه بسيره في طريق الدعوة سيصير قدوةً للناس، يُجلُّونه ويعظِّمونه، فيصير في أعينهم كالثوب الأبيض أو كاللبن، أقلُّ شائبة تبدو جليَّة، فخطؤه سيصير عظيمًا في أعين الناس، فقليلٌ منهم من يعي أن كلَّ ابن آدمَ خطَّاء، فتعظيم الداعية يجعل خطأه في أعين الناس عظيمًا لا يُغتفر! فليتَّقِ اللهَ كلُّ داعية، ولا يكوننَّ فتنةً للناس، يفتح لهم أبواب جهنم بدلاً من أبواب الجنان، فيحمل أوزارهم ووزر ضلالهم بفتنتهم فيه!

ومن الحكمة في الدعوة أن يكون الداعية اجتماعيًّا أو إلفًا متآلفًا مع الناس، يسعى في مصالحهم وحل مشكلاتهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، يشاركهم في الفرح والترح، فليست مَهمَّة الداعية فقط حسنَ الحديث والكلام؛ بل هو ساعٍ بالخير في كل سبيل، أينما حل نفع، يتأسَّى بصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرتها خديجة رضي الله عنها: ((وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ))[4].


[1] انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير، طبعة هجر (9/ 622).

[2] متفق عليه.

[3] متفق عليه.

[4] متفق عليه.