إن السنة النبوية تعتبر منجمًا يستخرج منه المواد التي تهم الدعاة إلى الله تعالى، إذ فيها من الأحاديث الدالة على الأصول الدعوية القويمة، والطرق الدعوية الناجحة، التي يجدر بالدعاة إلى الله تعالى أن يتأملوها الشيء الكثير، وبين أيدينا واحد من تلك الأحاديث.
فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألَنَا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم. وذكر أشياء أحفظها، أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم). أخرجه البخاري ومسلم.
لقد دل هذا الحديث على رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لحال المدعويين، ودل أيضًا على أهمية استعمال أسلوب الرفق في الدعوة إلى الله تعالى، كما دل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إعداد الدعاة.
من الأصول الدعوية المهمة: مراعاة حال المدعويين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على ذلك، سواء في رعاية طباعهم، أو في رعاية أحوالهم العلمية، أو في رعاية أحوالهم الإيمانية، أو ظروفهم النفسية، أو مراعاة عوائدهم، أو ظروفهم البيئية.
فهؤلاء الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا، ومكثوا عنده عشرين يومًا، كانوا في سن الشباب، وقد تجلت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهم حين لاحظ عليهم اشتيقاهم لأهلهم، فبادر بسؤالهم عنهم، ثم أمرهم بالعودة إليهم وتعليمهم، فأشعرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الموقف بالرأفة والرحمة والرقة، وبإدراكه لمشاعرهم وأحاسيسهم، وما يحتاجونه، ومن المعلوم أن البعد عن الأهل سواء كان المقصود زوجاتهم، أو سائر أهلهم، مما يشتت الفكر، ويفرق الهم، ويبعث مشاعر الحنين والاشتياق، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مدركًا لذلك، بصيرًا به، مراعيًا له، وقد وصل ذلك الإشعار إلى قلوب أولئك الصحابة، وعبر عن ذلك مالك بن الحويرث رضي الله عنه بقوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا).
وحديثنا عن تعبير مالك بن الحويرث رضي الله عنه عن شعوره برفق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا)، يفضي بنا إلى الحديث عن الرفق كمنهج دعوي.
إن الرفق منهج نبوي في الدعوة إلى الله تعالى، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم. وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق، ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) رواه مسلم. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يحرم الرفق، يحرم الخير كله) رواه مسلم. وعنها: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). متفق عليه.
وقال الإمام أحمد: (والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلًا مباينًا معلنًا بالفسق، فيجب عليك نهيه وإعلامه). وقال رحمه الله: (وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلا رحمكم الله!). (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للخلال الأثر رقم (35). وكان يقول: (ما أغضبتَ رجلًا فقبل منك).
ومع ذلك فقد بين العلماء الفرق بين المداهنة والمداراة، وفي ذلك يقول الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله تعالى في (كتاب الغرباء) (ص61) : (فإن قال قائل: افرق لنا بين المداراة والمداهنة ! قيل له: المداراة التي يثاب عليها العاقل، ويكون محمودًا بها عند الله عز وجل، وعند من عقل عن الله تعالى هو الذي يداري جميع الناس الذين لا بد له منهم، ومن معاشرتهم لا يبالي ما نقص من دنياه، وما انتهك به من عرضه بعد أن سلم له دينه، فهذا رجل كريم غريب في زمانه. والمداهنة : فهو الذي لا يبالي ما نقص من دينه إذا سلمت له دنياه، قد هان عليه ذهاب دينه وانتهاك عرضه، بعد أن تسلم له دنياه، فهذا فعل مغرور، فإذا عارضه العاقل فقال: هذا لا يجوز لك فعله ! قال : نداري ! ؛ فيكسو المداهنة المحرمة اسم المداراة، وهذا غلط كبير من قائله).
وقال ابن بطال المالكي: (المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك). نقله ابن حجر في (الفتح) (10/ 528 - 529).
من الفوائد والدلائل التي دل عليها حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أيضا: بذل النبي صلى الله عليه وسلم الجهد في إعداد الشباب للدعوة إلى الله تعالى، حيث مكث هؤلاء الشباب عنده عشرين يوما، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم، ويعدهم للدعوة إلى الله تعالى، وتبليغ الدين.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار الشباب للدعوة، لكثرة علمهم، وقوتهم، ونشاطهم، وقلة تعلقهم بالدنيا، ولم يكن في إعداده لهم يقتصر على اختيارهم وتكليفهم، بل كان يكلفهم بمهام الدعوة، ويرسم لهم منهاجا يسيرون عليه، كما كان يرسلهم قادة على السرايا، وهكذا ورث من بعده صحابته الاهتمام بالشباب، فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إذا رأى الشباب قال: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس، وأن نفقهكم، فأنتم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا). أخرجه الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) (ص22).
ومن الوصايا التي نختم بها: الحرص على إقامة الدورات العلمية المكثفة، التي يقوم عليها أهل العلم والتربية، لتربية الشباب وتعليمهم، وليعودوا إلى أهليهم ناصحين معلمين، حاملين هم الدعوة والرسالة.
المراجع:
1 - حديث مالك بن الحويرث دراسة دعوية: سليمان بن قاسم العيد
2 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: خالد السبت.
3 - منهج الدعوة المعاصرة في ضوء الكتاب والسنة: عدنان العرعور.
4 - المنهاج النبوي في دعوة الشباب: سليمان بن قاسم العيد.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.