المانحون: سماحة وسخاء
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف
في كلّ مجتمع يوجد طبقات وإن لم تكن هذه الطبقية متغولة أو ذات شرور دومًا. وتشمل الطبقات مجالات عديدة علمية وعملية واجتماعية ومالية ومهنية، وهي شأن طبيعي ما لم تأخذ حيزًا أكبر من حجمها، أو تؤدي إلى فئوية ظالمة، أو تقديم وتأخير فيهما بغي أو عدوان. ومن الغبطة لأيّ بقعة أن ترتقي طبقتها الأعلى بالأدنى إن في التوجيه الفكري، أو الإخلاص العملي، أو التداول المالي، وأن تكون طبقتها الثانية خير رديف للأولى إذ تساند ولا ترهق أو تخذل أو ترجف، وإنما التوفيق والتوافق والاتفاق نعمة من الجليل اللطيف الودود يهبها لمن شاء.
وحين يكون أصحاب المال والثراء من أهل السماحة والسخاء فسوف ينال مجتمعهم السعادة والسكينة والتكافل الحقيقي والنماء الذي لا يتوقف، ذلك أن زكاتهم إذا أُخرجت كما أراد الله فلن تترك فقيرًا يمشي على أرضهم في الغالب، وصدقاتهم تكمل ذلك فيما لا تسعه الزكاة المحددة شرعًا، إضافة إلى أنها تقيم المشروعات الخيرية والتنموية في التعليم والتطبيب والتأهيل لسوق العمل والتطوير بأنواعه، إلى قائمة لا تنتهي من الأعمال المباركة والحسنة التي تنفع ولا تضر، وتسر دون أن تشين، وأما خاتمة إنفاقهم المالي ففيما أوقفوه حتى يبقى وإن رحل الموقِف، وما أعظم التخطيط لمستقبل آت ولا مفر منه، والله يرزق الجميع القبول وعظيم الأجور.
أما إذا أردنا استجلاء أبرز ملامح هؤلاء المنفقين الأسخياء عبر أوقافهم ومؤسساتهم المانحة وإدارات المسؤولية المجتمعية في شركاتهم وغيرها، فيمكن لنا تسجيل ما يلي دون أن يكون للترتيب معنى مقصودًا، وليس بالضرورة توافرها جميعها في كلّ واحد منهم، وإنما هي سمات ظاهرة استبانت بالقراءة والسماع والمجالسة والتحليل:
1/ جلّهم من الكادحين العصاميين الذي نشأوا في فقر وحاجة ثمّ فتح الله عليهم، ومن كان منهم وارثًا فهو شريك في سنوات العناء والبناء غالبًا.
2/ ابتعادهم في تجاراتهم عمّا حرم الله أو ما يدخل الريبة إلى النفس، فهجروا المتاجرة بما فيه ربا أو شبهة ربا، وتركوا وكالات أجهزة يُستخدم جزء منها لعرض ما لا يرضي الله، فعوضهم الله بركة في المال وخيرية في صرفه، وبالمقابل اشتهر عن ثري مبادرته المبكرة جدًا لأخذ وكالات الخمور حتى تصير له حصرية، ولم يُعرف عنه إنفاق كبير في وجوه الخير، ومثله الذين يتاجرون بالمخدرات والبغاء والحروب الذين نُزعت منهم الخيرية في الكسب وفي الصرف!
3/ الإنفاق المبكر منذ أول دخولهم إلى عالم المال حتى قبل أن تتعاظم ثرواتهم، فمنهم من أعطى الريال والريالين قبل سبعين سنة، وتصدق بالمليون وأكثر فيما بعد، وأوقف أضعافًا مضاعفة.
4/ الابتداء بالمنح المنظم والإنفاق المؤسس وهم أحياء دون تأخير ترتيباته إلى وارث أو وصي قد لا يسير به كما أراد صاحب المال.
5/ التوثيق الشرعي والرسمي للقسم المحدد صرف ريعه من الثروة على الأعمال الصالحة منعًا لأيّ اجتهاد قد لا يصيب، وهي إجراءات واضحة وسيغدو من الحصافة تيسيرها وإسباغ صفة القوة النظامية عليها كما جعل لها الشارع قوّة يعرفها الناظر في الفقه وأحكام الوقف، ومما يُروى عن ثري كبير راحل اختلاف اثنين من أولاده على شيء فحسمه القضاء بنصُّ وقفه وشرطه المثبت شرعًا ونظامًا.
6/ الفصل الواضح قدر المستطاع بين الأعمال التجارية والأعمال الخيرية في المكان والإدارة ونظم العمل منعًا لأي تداخل بين طرفين يختلفان كثيرًا، ومن طريف ما سمعته أن المدير المالي لشركة رجل ذي وقف وإنفاق كبير قال لمدير مؤسسة الثري الخيرية: نحن نجمع المال وأنتم تفرقونه! وكان الكلام على مسمع من التاجر فوفق الله مدير العمل الخيري للقول: إنفاقنا يجلب البركة لعملكم!
7/ إشراك الأبناء والذرية والقرابة في الإفادة من ريع الوقف وتقديمهم لأنهم أحقّ الناس به إن احتاجوا، وشمول خيرهم مجالات ضرورية في التعليم والتأهيل والتطبيب، وانتشار أثرها في مواضع عديدة.
8/ إضافة آخرين من الأعيان والخبراء للإشراف على العمل مع وجود بعض الأبناء بيد أنهم غير مستفردين بالقرار وإن كانوا من أحرص الناس على آثار أبيهم.
9/ سعي الأثرياء في إقناع غيرهم من طبقتهم ليبادروا إلى الوقف، وهو سعي مباشر، أو غير مباشر بنشر التجربة، وهذا من الفقه لينال الواحد منهم أجر الدلالة واقتداء الآخرين به.
10/ تعميم أجر الأعمال التي تقوم على أموالهم لتشمل القرابة والأصدقاء والعاملين فيها وإن نالوا أجورهم الدنيوية.
11 / أصبح بعضهم قدوة في أسرته لرجال ونساء من إخوة وأبناء وأزواج وقرابة، حتى صار لبعض الأسر المباركة عدة أوقاف ومؤسسات، واختار آخرون اسم العائلة لمؤسسته كي يشعر الجميع بالانتماء لها، ويظلّ العطاء والإحسان في الذرية.
12/ رأى كثير منهم ثمرات صدقته بنماء ماله، وصلاح عياله، واستقرار أعماله، ولعلّ ما عند الله لهم أن يكون خيرًا من الأولى.
13/ الابتعاد عن المظاهر الدنيوية من الإسراف والتباهي عبر وسائل الإعلام، فلم يظهروا إلّا في سياق نقل التجربة، وتحفيز الأجيال، والتذكير بالماضي.
14/ يتسامى بعضهم فيرى أن الفضل لمن يساعده على فعل المعروف وجمع الحسنات من العاملين في المجالات الخيرية والمجتمعية وليس له مع أنه دفع المال الكثير، وسمعت من هذا القبيل أقوالًا مباشرة.
15/ الحب الكبير الذي حظي به سادات المنفقين ورؤوسهم من المجتمع الرسمي والشعبي، حتى عرف لهم أهل التقدير سبقهم وصدقهم -نحسبهم- وصاروا حجة على آخرين من أثرياء وكيانات لم يُعهد عنهم إنفاق مع عظيم أرباحهم، وندرة منافسيهم.
16/ أنهم حين أنفقوا لم يكونوا ممن يرجون جزاءً أو شكورًا-فيما نحسبهم- وإنما استولى عليهم خوف يوم عبوس قمطرير، ورغبة في الحسنة والتطهير والبراءة، والله يقيهم شرّ ذلك اليوم ويلقيهم فيه نضرة وسرورًا.
إن وجود أمثال هؤلاء الكرماء النبلاء لنعمة من الله على المجتمع والدولة، فالبخل بلاء ماحق على الإنسان ومن حوله، وشرٌّ من البخل أخذ المال بغير وجه حقّ، وإنفاقه في السوء والضرر، وخلوه من أيّ منفعة عاجلة أو آجلة تتجاوز جوف صاحبه. وكم هو سعيد أي مجتمع بانتشار ثقافة السخاء والسماحة بين أثريائه، وكم هو سعيد بتعميم ثقافة صنائع المعروف والعدل والإحسان والإخلاص والإنصاف بين أهله كافة حسب استطاعتهم وما وهبهم الله، والله يديم فينا هذه الصفات البهية، وتلك الأصناف البشرية العلية، ويعيذنا من همزات شياطين الجن ونزغاتهم، وغدرات شياطين الإنس وإفكهم وما يفترون.
(مصدر المقال: موقع مجلس المؤسسات الأهلية).
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.