حضارة الإسلام في القرم (أوكرانيا) (1)مقالات


• تبوَّأ السلطان المغولي "أوزبك خان" حكم "القبيلة الذهبية" بين عامي 1313 م و1340 م، وشهد عهده تأصيلًا للوجود الإسلامي الحنفي المذهب في نفوس تتار القرم.

• شهدت شبه جزيرة القرم موجات من التأثير الإسلامي الآتي من مصر المملوكية في عهد حكامها المغول.

• زار الرحالة الشهير "ابن بطوطة" شبه جزيرة القرم في عهد السلطان "أوزبك خان"، وتحدَّث عن مدن "الكفا" و"القرم" وغيرها من مدن القرم، واعتبر سلطانها المسلم من أعظم ملوك الدنيا وقتذاك.

• كانت شبه جزيرة القرم مركزًا تجاريًّا هامًّا مع مصر المملوكية من خلال وسطاء بيزنطيين، كما ازدهرت أيضًا التجارة مع المستعمرات الجنوبية في شبه الجزيرة ومع الأناضول وأوروبا الوسطى وصولًا إلى "لفوف" (أوكرانيا) و"برسلاو" (بولندا).

• كانت شبه جزيرة القرم مخزنًا لبضائع التجار السلاجقة والمصريين والجنويين؛ مما ولَّد تفاعلًا حضاريًّا مع تلك الشعوب، تجلى في العمارة الإسلامية وصناعة الآنية الخزفية.

• كانت خانيَّة القرم في عهد "أسرة كيراي" المسلمة تضمُّ أجزاءً واسعةً من أراضي أوكرانيا الحاليَّة، ولا تقتصر على جزيرة القرم بحدِّ ذاتها.

• رعى الخان "صاحب غيراي" (1501-1551م) تدوين أول حوليات تاريخية للتتار عُرِفت باسم "تاريخ الخان صاحب غيراي".

• طوَّر الخان "صاحب غيراي" مرفأ مدينة "غوزليف" Gozlev ليستقل قدر الإمكان عن نفوذ "الجنويين" في مرفأ مدينة "كفا".

• طُبِّقت الشريعة الإسلامية في مجالات القانون والأحوال الشخصية وجباية الضرائب بالقرم، كما تطوَّر وضع المرأة وأصبحت تشارك أكثر في الحياة العامة والسياسية وحتى الحملات العسكرية.

• مع بداية القرن السابع عشر بدأ تأثير الثقافة التركية العثمانية يتجلى في مجتمع تتار القرم وخاصة في مجال اللغة والتعليم، حيث أرسل عدد كبير من الحكام أبناءهم لتلقي علومهم ودراستهم في إستانبول.

• في نهاية القرن التاسع عشر ظهر جيل إصلاحي ليبرالي تجديدي بالقرم كان نتاج تكتلات سياسية متعددة تقدمية أو ثورية.

• شارك القرميون في الحياة العامة بعد الاستقلال عن الروس، وعادوا لممارسة شعائر دينهم ونشطوا في إعمار مساجدهم.

• أحيا الاحتلال الروسي من جديد للقرم مخاوف مسلميها من حملة اضطهاد جديدة.

 

حضارة زاهرة:

عرف تتار القرم المسلمون الاستقرار في شبه جزيرة القرم منذ القرن الثالث عشر الميلادي؛ حيث أسسوا دولة منذ القرن الخامس عشر الميلادي، امتد حكمها حتى عام 1783 م، حيث سقطت تلك الإمارة الإسلامية في يد الروس، وقد كان حكام هذه "الخانية" رعاةَ الأدب والفنون في تلك المنطقة، كما اشتهروا بنشرهم الإسلام في المناطق المجاورة، ومحاربة "كفار" الخزر والروس، كما أقاموا عددًا من العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع "المماليك" في مصر، ومع حكام "الدولة العثمانية" في "إسطنبول"، ووازنوا بين السياسة الداخلية والخارجية لخانيتهم؛ لكن تطوُّر الأحداث الدولية وكثرة الصراعات حول تلك المنطقة الهامَّة عجَّلَ بتكالب القوى المتناحرة على "القرم" المسلم، والقضاء على حضارته الزاهرة.

 

ابن بطوطة يتحدث عن القرم أثناء حكم السلطان "محمد أوزبك":

تبوَّأ السلطان المغولي "أوزبك خان" حكم "القبيلة الذهبية" بين عامي 1313م و1340م، وشهد عهده تأصيلًا للوجود الإسلامي الحنفي المذهب في نفوس التتار بمن فيهم تتار شبه جزيرة القرم التي شهدت موجات من التأثير الإسلامي الآتي من مصر المملوكية[1].

وقد زار الرحَّالة الشهير "ابن بطوطة" شبه جزيرة القرم في عهد ذلك السلطان، وتحدَّث عن حكمه وعدله فقال: "واسمه "محمد أوزبك" ومعنى "خان" عندهم السلطان، وهذا السلطان عظيم المملكة، شديد القوة، كبير الشأن، رفيع المكان، قاهر لأعداء الله أهل القسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم، وبلادهم متسعة ومدنه عظيمة، منها "الكفا"[2] و"القرم"[3]... وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها، وهم: مولانا أمير المؤمنين، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد ترکستان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين"[4].

وفي وصفه لمدن شبه جزيرة القرم يقول: "... وصلنا إلى مدينة "الكفا" وهي مدينة عظيمة مستطيلة، على ضفة البحر، يسكنها النصارى وأكثرهم الجنوبيون... ونزلنا منها بمسجد المسلمين، ولما نزلنا بهذا المسجد أقمنا به ساعة... وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة إلا الأسواق، وكلهم كفار، ونزلنا إلى مرساها فرأينا مَرْسًى عجيبًا به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري صغيرًا وكبيرًا، وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا [أي: استأجرنا] عجلة وسافرنا إلى مدينة "القرم" وهي مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم "محمد أوزبك خان"، وعليها أمير من قبله اسمه "تلكتمور"... ولقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم "شمس الدين السائل" قاضي الحنفية، ولقيت بها قاضي الشافعية وهو يسمى "بخضر"، والشيخ الحكيم الصالح "مظفر الدين" وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه..."[5].

ومن خلال هذا التوثيق نعرف ازدهار المدن الإسلامية في القرم، وعِظَم سلطان حاكمها حتى إنه يعد - في نظر ابن بطوطة - من أعظم حكَّام العالم في وقته.

 

مركز تجاري في عهد حكام القبيلة الذهبية:

كانت شبه جزيرة القرم مركزًا تجاريًّا هامًّا مع مصر المملوكية من خلال وسطاء بيزنطيين، فكانت العطور والأقمشة تأتي من وادي النيل، ثم تُرسَل إلى مناطق مجرى نهر "الفولغا" Volga، كما ازدهرت أيضًا التجارة مع المستعمرات الجنوبية في شبه الجزيرة ومع الأناضول وأوروبا الوسطى وصولًا إلى "لفوف" Lvov (التابعة لأوكرانيا الآن) و"برسلاو" Wroclaw) Breslau) (التابعة اليوم لبولندا)، وقد ساعدت هذه الصلات التجارية في جعل شبه جزيرة القرم مخزنًا لبضائع التجار السلاجقة والمصريين والجنويين مما ولَّد تفاعلًا حضاريًّا مع تلك الشعوب، تجلَّى في العمارة الإسلامية وصناعة الآنية الخزفية[6].

وبالإضافة إلى التجارة، اشتغل تتار القرم في تلك الحقبة بالدباغة واستخراج الملح والعسل وزراعة العنب وتربية الخيول[7].

 

أسرة "كيراي".. ونهضة القرم:

نشأت "خانيَّة القرم" على يد "الحاج كيراي أو غيراي" في عام 1441م، وهو من سلالة "القبيلة الذهبيَّة" حيث استقل عنها بعد الخلافات بين أمراء "القبيلة الذهبية" على أملاكها في مجرى نهر الفولجا فانقسمت "إمبراطورية القبيلة الذهبية" إلى عدة دويلات عُرِفت باسم الخانيات، وقد استمرت سلالة "حاجي كيراي" في الحكم حتى سقطت هذه الدولة أمام الروس عام 1197 هـ (1783 م) عندما استولت القيصرة "كاترين الثانية" عليها[8].

ونجد أن خانيَّة القرم في عهدهم كانت تضمُّ أجزاءً واسعةً من أراضي أوكرانيا الحاليَّة، ولا تقتصر على جزيرة القرم بحدِّ ذاتها.

وفي عهد الخان (السلطان) "صاحب غيراي" (1501-1551م) أدخل عدة إصلاحات في دولته، فحَدَّ من سلطة الطبقة الأرستقراطية، وقوَّى نفوذ الدولة المركزية التي كانت تحت إدارته مباشرة بالتعاون مع فرق المشاة الموجودة في الجيش.

أما على الصعيد الثقافي فقد رعى الخان تدوين أول حوليات تاريخية للتتار عُرِفت باسم "تاريخ الخان صاحب غيراي"، كما انتعش في عهده الشعر وبنى العديد من المساجد والحمَّامات، وفي المجال الاقتصادي طوَّر مرفأ مدينة "غوزليف"  Gozlev ليستقل قدر الإمكان عن نفوذ "الجنويين" في مرفأ مدينة "كفا"[9].

وفي عهد خلفائه حينما بدأ خانات القرم في الخضوع للخلافة العثمانية، وعدم الدخول في صدامات تسر في المقام الأول الروس المتربصين بتلك الخانية الإسلامية الزاهرة، نجد أنه مقابل هذا الخضوع للعثمانيين ظهرت أمور إيجابية عديدة على الصعيد الداخلي استفاد منها تتار القرم، فقد ظلت شبه الجزيرة في تلك الحقبة بمنأى عن الهجمات والغارات المعادية فعَمَّ الأمن والنظام، وطبقت الشريعة الإسلامية في مجالات القانون والأحوال الشخصية وجباية الضرائب، كما وضعت تجارتي الخيل والعملات الأجنبية تحت إشراف السلطة، ومن جهة أخرى تطوَّر وضع المرأة وأصبحت تشارك أكثر في الحياة العامة والسياسية وحتى الحملات العسكرية، كما اهتمَّ عدد من النساء بالأدب والشعر، ومع بداية القرن السابع عشر بدأ تأثير الثقافة التركية العثمانية يتجلى في مجتمع تتار القرم وخاصة في مجال اللغة والتعليم؛ حيث أرسل عدد كبير من الحُكَّام أبناءهم لتلقي علومهم ودراستهم في إستانبول[10].

كما عرفت شبه جزيرة القرم ازدهارًا بان في شَقِّ الأقنية والطرق المائية، وانتشرت العلوم الدينية بين القرميين، وساهم العلماء بدور كبير في توجيه الحركة السياسية للخانات التتار.

بل نجد أنه عندما تولى الحكم في شبه جزيرة القرم خان يُدعى "مراد غيراي" في عام 1678 م وحاول استبدال الشريعة الإسلامية بقانون دنيوي وضعه "جنكيز خان"، أثار غضب رجال الدين المسلمين وكان ذلك أحد أسباب خلعه ونفيه إلى بلغاريا[11].

 

[1] أقليات إسلامية منسية: المسلمون في تتارستان (روسيا)، القرم (أوكرانيا)، مقدونيا، اليونان، سعيد إبراهيم كريديه، دار جداول، 1430 هـ - 2009 م، صـ74.

[2] الكفا تسمى الآن "فيودوسيا" Feodosiya بشبه جزيرة القرم.

[3] القرم الآن مدينة "إسكي قرم" Eski Qırım كما تُعرف باسم "ليفكوبوليس".

[4] رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ابن بطوطة (ت 779هـ)، ط أكاديمية المملكة المغربية، 1417 هـ، (2/ 228).

[5] رحلة ابن بطوطة، ط أكاديمية المملكة المغربية (2/ 217).

[6] أقليات إسلامية منسية: المسلمون في تتارستان (روسيا)، القرم (أوكرانيا)، مقدونيا، اليونان، سعيد إبراهيم كريديه، صـ76.

[7] Spuler, B. “Kirim”. Encyclopedia of Islam. Leiden: E. J. Brill, 1986. pp. 136-137.

[8] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1983م، صـ117-86.

[9] أقليات إسلامية منسية: المسلمون في تتارستان (روسيا)، القرم (أوكرانيا)، مقدونيا، اليونان، سعيد إبراهيم كريديه، صـ84.

[10] Spuler, v.5, p. 139.

[11] أقليات إسلامية منسية: المسلمون في تتارستان (روسيا)، القرم (أوكرانيا)، مقدونيا، اليونان، سعيد إبراهيم كريديه، صـ92