حضارة الإسلام في داغستان (2)مقالات


اللغة العربية والثقافة في داغستان:

كانت اللغة العربية هي لغة التواصل الرسمي بين السكان إلى جانب اللغات المحلية العديدة، وكانت تعتبر اللغة الرسمية بين المسلمين في "داغستان" قبيل السيطرة البلشفية الروسية؛ حيث بادر البلاشفة لتجريم التحدُّث والتعامل في المؤسسات الرسمية باللغة العربية، وقد كانت اللغات الداغستانية تُكتَب بحروف عربية، وصدرت بها عدة مجلات في مختلف العلوم، وأضافوا لأحرف الهجاء العربية عدة حروف، ودخلتها كلمات عربية كثيرة، وقد أسس الداغستانيون مطابع عديدة طُبِعت فيها عديدٌ من الكتب الإسلامية، كما صدرت عدة مجلات وجرائد باللغة العربية كـ"جريدة داغستان"، هذا قبل استبدال العربية باللغة الروسية والحرف اللاتيني سنة 1342 هـ - 1923 م.

وبما أن اللغة العربية هي لغة الإسلام فقد كان أكثر أهل الداغستان يعرفونها حتى تلك القبائل التي كانت تتحدَّث باللغات التركية أو اللغات المحلية؛ حيث كانت تحرص على تعليم أطفالها القرآن الكريم واللغة العربية منذ الطفولة المبكرة.

كما كانت العملات الرسمية بالإمارات الإسلامية - وقتذاك - يُكتَب عليها بالعربية شعارات دينية، وتتزيَّن بالرسوم ذات الطابع الإسلامي.

وتعتبر قبائل "اللزكي" أن لغتهم الأساسية هي اللغة العربية كتابةً وخطابةً، ويزعمون أن أصولهم عربية[1].

ونجد أن انتشار اللغة العربية في "داغستان" كان مميَّزًا؛ لأنها لم تكن لغة العلوم الإسلامية التي يتعلَّمها المسلمون بهدف فَهْم ودراسة أحكام الإسلام وتعاليمه من مصادره الرئيسية القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف فحسب؛ بل كانت لغة الأدب المحلي ولغة التخاطب والتفاهم بين شعوب وقوميات "داغستان".

وقد قدم البروفيسور "آي. يو. كراتشكوفسكي" I.U. Krachkovski بحثًا قيمًا عن الأدب العربي في شمال القفقاس، تكلَّم فيه بإعجاب عن انتشار الأدب المحلي باللغة العربية في "داغستان" فيقول: إن كون اللغة العربية منتشرة على نطاق واسع في فترات مختلفة من تاريخها وراء حدود الأقطار العربية ذاتها هو أمر مشهور منذ أمَدٍ بعيد في العالم، غير أن القفقاس الشمالي يتميَّز في هذا الخصوص، ويشير إلى هذا الخصوص بقوله: "وفي الوقت الحاضر فإننا نستطيع بحرية تامَّة، أن نواصل هذه الفكرة، وأن نقول: إنه ليس ثمة أدب محلي، في أي قطر غير عربي، نشأ بالعربية وازدهر بذاته حتى الربع الثاني من القرن العشرين، وقد بهر الداغستانيون العربَ وغيرَهم بطلاقة لغتهم العربية وفصاحتها.

فيذكر مصنف أحد معاجم السير في اليمن في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي عند اجتماعه بعالم من بلاد "داغستان" فيقول عنه: "إني لم أرَ صربيًّا له في إحسان التعبير البليغ وإتقان اللغة الفصحى وتجنب السوقية والابتذال في الحديث والتلفظ الرائع، وعند سماع كلماته تملكتني الغبطة والحبور حتى إن رعدة سَرَتْ في أوصالي".

أما المستشرق الهولندي "سنوك هورغرونيه" C. Snouck Horgronje الذي أقام في مكة المكرمة متنكرًا بصفة عالم مسلم فقد كتب يقول: "ينحدر من "داغستان" بعض من أفضل علماء المدينة المقدسة وقبل وقت قصير من قدومي إلى مكة المكرمة توفي العالم المشهور عبد الحميد الداغستاني، وهو عالم يضع كثيرٌ من الزملاء سعة معارفه واطلاعه في مصافَّ أرقى...".

ومن نماذج الرسائل العربية ينقل المستشرق الروسي "كراتشكوفسكي" رسالة الإمام "شامل" إلى قائد الرُّوس بالعربية، ويعلق عليها بالإعجاب[2].

ويقول الأمير "شكيب أرسلان": "وبلاد الداغستان متعددة اللغات... ولكن لسان العلم في جبال الداغستان هو اللسان العربي، وهو اللسان الذي يتكاتب به أعيان تلك الأمة، وقد صادفتُ سنة 1919 م الوفد الداغستاني الجركسي في "برن" قاعدة سويسرا، ولزمتهم مكاتبات إلى رؤساء بلادهم فكلَّفني "حيدر بك بامات" بتحريرها لهم بالعربية الفصحى، وكثير من علماء الداغستان معدودون من عُلماء العربية"[3].

القوميات العِرْقية وعدد المسلمين:

يعيش على أرض داغستان كثيرٌ من القوميات العِرْقية؛ حيث يزيد عددها عن ثلاثين قومية، من أهمها "الأوار"؛ حيث تُشكِّل ما يقرب من ربع السكان، ثم "الدارغين" 14.5 %، ثم "القوموق"، ثم "الرُّوس"، وبعدهم "الملاك" و"الطبسران" وغيرهم[4].

وكل عرق من تلك الأعراق يتحدَّث لغته الخاصة، وله ثقافته وتراثه وموقعه الجغرافي؛ لهذا كانت إذاعة وتلفاز جمهورية داغستان تبثُّ إذاعتَها بلغاتٍ محليةٍ عدة، كما أن الصحافة المحلية تصدر بلغات محلية عدة، ولم يجمع تلك القوميات جميعًا سوى الإسلام الذي وحَّد وألَّف بين قلوبهم في "داغستان".

ولقد كان النشاط الإلحادي المعادي للإسلام أيام الاحتلال الروسي موجهًا بصورة أشد إلى معاقل الإسلام في مدينة "دربند" والمدن الرئيسة الأخرى، غير أن ذلك لم يؤدِّ إلى القضاء على الإسلام، فقد تحوَّل بعض العلماء وطلاب العلم إلى ممارسة التعليم سِرًّا، لا سيما في الجبال الشمالية والغربية؛ حيث قرى قومية الأوار والدارغين وبعض الشيشان[5].

ونجد أنه بعد أن كان عدد المساجد في عموم داغستان أيام الشيوعيين الرُّوس لا يتجاوز سبعةً وعشرين مسجدًا عام 1406 هـ - 1985 م، إلا أنه منذ عام 1409 هـ - 1988 م، وسقوط الاتحاد السوفيتي شرع المسلمون في بناء أول مسجد جامع في قرية "كيروف آأول" التابعة لمدينة "كيزيليورت"، وبعدها نشطت حركة الدعوة إلى الدين وبناء المساجد حتى بلغ عددها ألفًا ومائتين وسبعين (1270) مسجدًا وذلك في إحصاء عام 1995 م، ألحقت ببعضها ما يربو على ثمانمائة وخمسين (850) مدرسة صغيرة أو مركزًا لتحفيظ القرآن الكريم، ويقوم على شأن تلك المساجد والمراكز ما يزيد عن ألفين ومائتين (2200) من الأئمة والمؤذِّنين والمعلمين[6].

ونجد أن الغالبية العظمى للشعب الداغستاني مسلمون سُنَّة على مذهب الإمام الشافعي، وهناك أقلية شيعيَّة في جنوب البلاد لديهم بضعة مساجد، وإمامة المذهب الشافعي تاريخيًّا وحاضرًا في عموم منطقة القوقاز تنحصر في داغستان[7].

ويُشكِّل المسلمون أغلبية سكان "داغستان"، ويُقدَّر عددُهم بحوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون مسلم، يمثلون 97٪ من عدد السكان[8].

ورغم الوَأْدِ الخفيِّ الذي كانت تمارسه روسيا لإخماد جذوة الدين الإسلامي وحركة الجهاد في "داغستان" في القرنين الماضيين، فإننا نلاحظ انتشارًا واسعًا بين الشباب الداغستاني للعودة إلى رحاب الإسلام من جديد وتعلُّم العلوم الدينية.

ونجد أن هذه العودة المتسارعة للإسلام تؤكد حقيقة فشل الممارسات السوفيتية الصارمة التي استهدفت استئصال شأفة الإسلام، كما تؤكد عمق ارتباط أبناء المنطقة؛ حيث كان للأسرة المسلمة تأثيرها الفاعل في تعليم الأبناء أصولَ دينهم ومبادئ الإسلام.

آفات في جذور المجتمع الداغستاني المسلم:

تمثل الحركات الصوفية آفة متجذِّرة في جسد المجتمع الداغستاني، فالصوفية تحكم توجه الإدارات الدينية في البلاد، وينتشر معتنقو الطرق الصوفية التقليدية بين أبناء داغستان، والتي من أشهرها: الطريقة النقشبندية، والطريقة الشاذلية، والطريقة القادرية، كما تشهد تلك الطرق نشاطًا كبيرًا في التبشير بضلالاتها بين أبناء الشعب الداغستاني، ولوحظ الاهتمام المتزايد بما يُسمَّى "العتبات المقدسة"؛ وهي تلك المزارات والأضرحة المنتشرة، والتي بلغ عددها ثمانمائة وتسعًا وثلاثين (۸۳۹) عتبة، ولاريْبَ أن الإسلام يُحرِّم تحريمًا قاطعًا تعظيم وتقديس تلك الأضرحة واتخاذها عتبات ومزارات ومساجد[9].

كما تمثل التباينات الاجتماعية العرقية في أقطار شمال القوقاز مشكلة أخرى كبيرة؛ فداغستان يعيش على أرضها أكثر من ثلاثين عِرْقًا، والولاء للعِرْق - في الغالب - مُقَدَّمٌ على الولاء للدِّين أو الوطن، وهذا الولاء العرقي يسيطر على مجمل الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية في "داغستان".

إلى جانب التبعية الاسمية حتى وقتنا الحالي لسيطرة روسيا السياسية، وهو ما يؤثر بشكل كبير في توجُّهاتها القومية وتأثيرها الإقليمي في القوقاز المسلم، وتطلُّعاتها الدينية لرفع مستوى مسلميها.

ورغم كل ذلك فإن الأحوال العلمية الدينية تشهد نهضة كبيرة، ومن مظاهرها انتشار المدارس والمعاهد الإسلامية وكثرة المنتسبين إليها، وحركة الترجمة عن اللغة العربية، وبدء الاهتمام بالمتغيرات العالمية للمجتمعات الإسلامية، ومتابعة أحداث وأخبار المسلمين في الأقطار المختلفة وغير ذلك.

 

• منذ أن فتح المسلمون "داغستان" عام 22هـ، ازدهرت بها حضارة إسلامية، كانت حاضرتها الكبرى "دربند" أو "باب الأبواب" هي مركزها.

• كان لسياسة المسلمين المتسامحة مع السكان النصارى في داغستان دورها في انتشار الإسلام بين السكان سريعًا، إلى جانب وقوف الأسر النصرانية الأرمينية والكرجية في صف المسلمين ضد الإمبراطورية البيزنطية.

• أسَّسَ المسلمون عدة حواضر إسلامية في "داغستان" كان لها أبلغ الأثر في إرساء المدِّ الإسلامي بمنطقة القفقاس؛ من أهمها: "دربند" و"محج قلعة" و"قزوين" و"خنزاخ".

• صارت "دربند" أو "باب الأبواب" مركزًا عسكريًّا وإداريًّا للخلافة العربية في "داغستان" بعد فتحها.

• دُفِن بـ"دربند" رُفات 40 صحابيًّا ممن استُشهِدوا على أرضها، وأخرجت المدينة كثيرًا من العلماء والمحدِّثين الذين كانوا ينتسبون إلى مدينة "الباب"، فلُقِّبوا بـ"البابي".

• يُعَدُّ مسجد الجمعة الكبير في العاصمة "محج قلعة" ثاني أكبر مسجد في أوروبا، والذي بُني على طراز المسجد الأزرق في إسطنبول.

• كانت اللغة العربية هي لغة التواصل الرسمي بين سكان "داغستان" إلى جانب اللغات المحلية العديدة، وكان الداغستانيون يصدرون صحفهم ومراسلاتهم باللغة العربية قبل الغزو الروسي.

• تتجذَّر الصوفية في توجُّه الإدارات الدينية الرسمية والشعبية في "داغستان"، إلى جانب تعدُّد أعراق الشعب الداغستاني، وبالرغم من ذلك تشهد "داغستان" نهضة كبيرة في الأحوال العلمية الدينية في السنوات الأخيرة.

 

[1] المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، د. محمد علي البار، صـ158.

[2] بلاد الداغستان، محمد بن ناصر العبودي، صـ12- 13.

[3] حاضر العالم الإسلامي، لوثروب ستودارد، ت: الأمير شكيب أرسلان، المطبعة السلفية بالقاهرة، سنة 1343 هـ - 1925 م، (ج 1 صـ 79 - 83).

[4] المسلمون في الاتحاد السوفيتي - سابقًا - دراسة اجتماعية، اقتصادية، سياسية، د. محمود أبو العلا، مكتبة الأنجلو- القاهرة، 1993 م، صـ102.

[5] "الإسلام في داغستان"، د. سعيدوف عمري، بحث مقدم إلى المؤتمر المنعقد بالسويد في شهر ذي القعدة 1419هـ (مارس ۱۹۹۹م) - مترجم عن الروسية، صـ3.

[6] المصدر السابق، صـ11.

[7] الدعوة الإسلامية في شمال شرق القوقاز في الفترة من 1412 إلى1420 دراسة وصفية تقويمية للدعوة في جمهوريات الداغستان والشيشان والأنغوش، وليد بن إبراهيم العنجري، رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1422 هـ - 2001 م، صـ146.

[8] حوار مع الدكتور "شهاب الدين محمد حبيب حسينوف" نائب مفتي جمهورية داغستان وممثل ووكيل ومندوب سماحة المفتي ومستشار رئيس الجامعة الحكومية للعلوم الإنسانية، قام بالحوار: سالم بن حمدان الحسيني، بتاريخ 17 مايو 2020 م، جريدة عمان.

[9] "الإسلام في داغستان"، د. سعيدوف عمري، صـ11، 12.