نداء الإسلاممقالات

علي عبد المنعم عبد الحميد

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد 32 – غرة شعبان 1387 ه – 3 نوفمبر 1967 م – (ص8 – 11).

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو علم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» (رواه البخاري وغيره».

1 - الإسلام هو الدين عند الله، أراده باقيا خالدا ما بقي الكون وخلد وأرسی أسسه على قواعد ثابتة عجيبة، لا تقبل النقض، ولا يتطرق إليها الخلل تنهض بالبشرية وتسعد الإنسانية، سهلة هينة يسيرة، تعالج المشكلات، المستعصية، بوسائل غاية في اليسر، ونهاية في اللطف. قاطعة للداء، وجالبة، للشفاء.

تأمل قليلا: قول سيد الخلق: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول) قال الشارحون السابقون والفضل للسابق على أي حال لو يدري المسلمون ما في الاذان من الفضيلة والأجر العظيم والثواب الجزيل. وانتهوا إلى هذا الحد.. وهذا شرح وقول لا غبار عليهما. ولكن: أتساءل! لماذا استحق الاذان والصف الاول الهروع اليهما؛ ولأي شيء كان أجر المؤذن المحتسب، والواقف في الصف الذي يلي الامام كبيرا؟ ألأن المؤذن يجمع الناس للصلاة وحسب، ولأن الوجود في الصف الاول يعنى المبادرة إلى الاستجابة لداعي الله وكفى؟

 الجواب: قد يكون الأمر كذلك! ولكن الدراسة الواعية للآذان والفهم العميق للمبادرة إلى الصف الاول، يعطى معنا دقيقا رائعا، لو أن النـاس فهموه لتكاملت انسانيتهم، ولعمروا الدنيا كما يريد رب کل شيء ذلك : ان الفاظ الاذان، تحمل في طياتها دعوة صريحة واضحة جلية إلى التحرر من كل عبودية عدا الله، واللجوء إلى الواحد الأحد وحده، فالله أكبر ؛ تهز القلوب المؤمنة هزا عنيفا لتصرفها عن بهيمية عمياء، وتفزع بها إلى تحسس وجودها، ومكانها من هذا الوجود، فالله أكبر ولا كبير غيره، لا تلجأ إلى سواه، ولا تلذ بحمي من دونه، وبالتالي كن عبدا مخلصا خالصا له، تنطق بالحق، وتتحامى الكذب، لا يغرنك ما جمع فلان من مال، فالله أکبر، وان من شيء الا عندنا خزائنه، فالواهب هو ولا معطي غيره، وقد يميل بك المال عن طريق الحق

لو أعطيته ( بضم الهمزة ) أن من عبادي من لو أغنيته لفسد حاله، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء )، ولا يهولنك عدد او عديد فالله أكبر له الغلبة وان راقك علم عالم فالله أكبر ولا يحيط بشيء من علمه الا بما شاء (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) فهو واهب العلم ومن اتقى الله علمه، فالله اكبر اليه مرجع كل شيء وهو على كل شيء قدير، تفكر فيما خلق وابدع  بل في بعض ما اوجد لا على مثال سبق - فانك لن تستوعب الوجود بعقلك الحادث وقدرتك الضعيفة الواهية الواهنة الا بمدد من الله، تامل : هذه الارض تجسد ما حوت قد تعدد أشكالا  وتباين الوانا، فهذا ماء عذب، وذاك ملح أجاج وتلك صحارى ورمال، وهاد ونجاد، وأخرى تنبت الحب الحصير ليطعم الناس ويعيش الحيوان، وسل البحار عما حوت، وتحدث إلى خبراء طبقات الارض عما اشتملت، نسمع العجب العجاب مما علموه. فكيف بهم لو أدركوا ما لم يدركوا مما غاب عنهم. مم استأثر الله بعلمه، وما سيفتح به على الآتين من بعدهم لوقفوا حيارى مشدوهين. وما استطاعوا جوابا، ولا أدركوا انهم لم يدركوا شيئا، وما أوتيتم من العلم الا قليلا.

بعد هذا يتناهى إلى من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد - بتناهي اليه ان لا إله الا الله، فلا بشر ولا حجر، ولا شجر ولا مدر، ولا شمس ولا قمر، ولا تمثال ولا صنم، ولا مال ولا ولد، وانما هو إله واحد يعبد، وفي ظل وحانيته تتوحد القلوب ويأتلف الناس، ويتداعى بعضهم إلى نصرة البعض ويعيشون اخوة متحابين، فلا خصام ولا جدال. ولا شقاق ولا نزاع، ولا شك ولا اتهام، وهكذا تمضي الفاظ الاذان التي تتكرر كل يوم خمس مرات، بل ان رمت الحق عشر مرات. تجذب القلوب المستعدة إلى واجب الوجود، الذي أرسل محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، ما تعالى، ولا قال إني ملك أو ملك (بفتح اللام في الاولى وكسرها في الثانية أو العكس، ولا طغى ولا استكبر. وانما هي رسالة هادية هادفة موجهة إلى الخير إلى السلام إلى الامن إلى الطمأنينة إلى الاخوة العالمية إلى الاستقرار النفسي والعملي إلى الركون إلى الديان، لا منهجية فيها ولا التواء ولا غش ولا خداع، ولا كذب ولا نفاق. ولا تجبر ولا ادعاء. سبحانك ربي برأت محمدا على غرار اسلاف له سبقوه: ابراهيم وموسى ونوح وعيسى، وسائر اضرابهم الذين رددوا دائما، قل لا اسألكم عليه من اجر ان أجرى الا عل الذي فطرني، ولم يدعوا إلى عصبية. ولم يرضوا بجهالة جاهلية. وإنما وضحو السبيل إلى الله وسبيل الله خير دائم في الدنيا ونعيم مقيم في الآخرة.

2 - حي على الصلاة حي على الفلاح: أقبلوا، تعالوا، هلموا إلى صلاة جامعة لتتلاقوا في رحاب الله لتفلحوا في مسالككم الدنيوية. وتجنوا ثمارهـا طيبة دانية القطوف فلاح ونجاح. وسعادة ورضى وهدى ورحمة ومودة، وتعاطف واخاء ومحبة، فيها تزكية للنفوس، وتطهير للقلوب، وقد أفلح من زكاها، وطهرها وسما بها عن سفاسف الأمور وحقارات الأهواء، ونظر بعين البصيرة إلى أفق الوجود الممتد عبر الماضي، والسائر في طريق الغد دون توقف، فلك دائر، وبشر حائر، ولكن هنا الفلاح، وهنا سفينة النجاة، ربانها ربها، وداعيها هادیها، باسم الله تجرى وباسمه ترسو.

يعجب كثيرا عالم عالمي عظيم القدر في الدنيا قديمها وحديثها (۱)، أفنى عمره في التجوال الهادف واتخذ من علم الاجتماع مرفقاته. فهو أستاذه في ارقى جامعات الدنيا : لقيته وتحدثت اليه او تحدث هو الي طويلا، وفي الواقع كانت مناجاة لرسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وازكى السلام : وليس حديثا كما يعرف الناس الحديث، قال الرجل العلامة : اني اعجب لماذا صار الأمر إلى ما اليه صار، وما الداعي لمـا دعى اليه الداعي القفل الذي أوصد باب قلبه وحاول نفس الشيء مع قومه ـ أهله وعشيرته آه لو تأمل السلمون نداء الإسلام للصلاة، ودرسوه وفلسفوه، ولقنوه الابناء نورا، وهدى وتجاوبا مع الخير لو فعلو"" لانقادت اليهم تلك القطعان الضالة في دروب الحياة، ولغدوا حديث اليوم والغد في المفاخر وحسن المآثر ولكن.. وهنا يستولى على الجميع صمت رهيب يعلم الله ما وراءه لأن كشف الحجاب عنده وحده.. وما يعلم الغيب الا الله.[1]

3 - والصف الأول : يستحق الاستهام لأنه نتيجة عملية ـ رائعة لفهم النداء، وهروع في هرولة وخشوع، واستجابة للداعي ولياذ بجناب الله، ولجوء إلى حماه، فالفاعل إلى الفضل سباق، وإلى الخير نزاع عظم ثوابه وتضخم اجره، صار قدوة عملية، وصورة واقعية محسة لمـا يجب أن يكون عليه المطيع للخالق المطاع، يحمل قلبا عامرا بالأيمان، مليئا بالثقة بالرحمن فمن احب استجاب ومن استجاب لبى ومن لبى بادر، قالوا : من لا يأتي في المؤخرة وانما يتصدر دائما في كل مسلك يوصل إلى الله، ويبادر إلى تلقى رحمته في سكينة وادب، ووقار واعتزاز.

 والنداء والصف الأول جديران بالاهتمام مستحقان للاستباق، فمالكهما قد ملك ناصية الخير، وفاقدهما فهما وادراكا وتحصيلا وفعلا قد ظلم نفسه - وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

4 ـ والإسلام يبنى أمة، ويقيم دولا، والرخاوة والميوعة واتباع الهوى تهدم المجد التليد وتودي بالقوى إلى الحضيض فليس مؤمنا من تراخي وتواني لأن التراخي والتواني ينجمان عن ضعف وخور، يعقبان انحطاطا واسفافا، ومن اضرته الهاجرة عن الاستباق إلى الخير، أو عاقته العتمة عن تلبية الداعي فهو من الهوان على الله بمكان لا يضبط عليه لأنه اضعف الروح وانمى الجسد، والروح بقاء، والجسد فناء، ومع قليل من حرية الكلمة تستطيع أن تلوي اعناق القوم إلى ملاحظة التاريخ حيث يجدون انـاسـا قد نسوا أو تناسوا قوة الروح وعظمتها. وركنوا إلى ما مآله العفن والاندثار، فجعلوا ارواء حيوانيتهم حياة لهم، فانهاروا ومضوا تتابعهم اللعنات، وستلاحقهم إلى حيث دلفوا تحت الصفائح والجنادل، فمن تغلب على النفس الخوارة وحاول شد ازرها، سما بها إلى النفس الواعية للحقيقة المدركة لمـا يفيد في العاجل والآجل، فلا يستوي قاعد قابع خائف من حر الهاجرة، أو من أقضته رهبة الظلام عن الهرولة إلى المساجد لصلاة جامعة مع آخر رأى سعادته في طاعة الله فأرهق الجسد، وأربي الروح - ورثت حبال مودته مع الفاني لتتجدد مع الباقي. ووراء ظاهر القول الشريف على جماله غيب أجمل واقوى اشعاعا أدركه العاقلون المحبون لله، العالمون به، العارفون لسلطانه، فجاهدو الهوى: ولم يركنوا إلى الراحة والدعة فما اهمتهم أنفسهم، وانما همهم رضا الله فساروا في القيلولة إلى بيوت الله، طائعين

راضين آملين في رحمته سبحانه ورضوانه، وهؤلاء إذا حزبهم امر او جابهتهم نازلة ـ وما أكثر نوازل الايام استعانوا بقيوم السماوات والارض، صاحب الحول والطول، ومضوا يخوضون المعامع، وينازلون في الحلبات، ويتقدمون

الصفوف، لا ينكصون ويتألمون ولا يتداعون (۱) امام الهول مهما كان، ففوق كل قوة، قوة الله، ودون سلطانه كل سلطان ينصر بالتأييد أكثر مما ينصر بالعديد، ويوهن كيد المعتدين بما لا يرى ولا يشاهد حسيا، أقوى وأشد مما يدافعهم بالجحافل، والقنا والقنابل.

 فالإسلام قواعده وتوجيهاته اشاراته وتعبيراته في أصوله الثابتة، دعوة صريحة جلية لبناء الإنسانية الحقة الواعية المنبعثة من روح الله، المدركة لفعاليتها مع الوجود الذي يجب أن نعمره بالخير والفضائل، حتى لا يخشى انسان حيوانية الآخر ة ولا برهبه رهبة تمحو شخصيته، وتعفي آثار مروره بدروب الحياة القيمة الاصيلة، وانما يشد ازره، ويكون عضدا له يسانده ويقويه، وتتكامل الاجزاء في كتـل تتراص، وتتجمع اتحقق ما اعتقده الخوارون مستحيلا أو قريبـا من المستحيل، ونظرة أخرى إلى فحوى هـذا التوجيـه النبوي الكريم تبدي للناظر الفاقه المتدبر أن عابد الفناء المستجيب للدعة لا يستحق الرضي من الله، ولا يلتفت اليه لأنه آثر غير ذي أثير ( 2 ) وأحب من يستحق البغض، بل وضع يده في يد خصم عنيف عنيد لدود ليأكل روحه، ويفني فضائله ويلاشيه كما تلاشى ذكاء الجليد.. وفي موضعي- حيث أنا الآن – رأیت وأمي عمل، وصنوی (۳) مسلك.

بدا ( 4 ) احدهما للرائي شبحا هزيلا يسير إلى جوار من امتص منه الحياة، ثم ها هو ذا يمضى عنه إلى فريسة أخرى، ويتركه هملا نادما ولاتحين مندم، وأما الآخر الصنو في الفسيلة والاصل فقد بهر الرائي لآلاء روحه، وشموخ أنفه، وارتفاع هامته، لأنه جافى مسلك صاحبه، وكان نداء الفناء عند دبر ( 5 ) أذنه، اذ أدرك ـ قبل الوقوع ـ أنه فناء وواصل حتى وصل إلى هدفه، وسيصبح غدا من قادة الفكر وسادة العقل في الدنيا مع رصيد ضخم ضخم من الحيوية الروحية الفعالة والخلق الهادئ الرصين، والعلم الراسخ الأكيد المستمد في جوهره من صلته الوثيقة بالباقي الدائم، وبمثل هذا وأضرابه تعتز الإنسانية، وتبنى المجتمعات الفاضلة، وتنتصر الأمة وتتصدي للقيادة والسيادة في كل ميدان اصلاحي هادف.  واحسبني قد قطعت من الزمن كثيرا في فكر، ومضى بي صاحبي رفیقا ولن استقل رفقه فيما لا يجدي على الإنسانية الجداء المفيد، وانما استأذنه في العودة مرة أخرى قبل أن يطول الحديث ويتشعب، وافارقه إلى موعد لقـاء بعون الله تعالى وكلامته - وقد وعيت تماما انه لا حول ولا قوة الا بالله، وان من أرضى الفناء فني معه، ومن لاذ بالباقي بقي وصمد وخلد كما يشاء الله، والكل يسعى لصيد فخائب يحمل في جعبته (سربانا) (6) وموفق يقود في معيته غزلانا.. والكل ماض في طريق.. وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر.. وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

 

(1) من التداعي بمعنى الانهيار والانحلال (من قولهم تداعي البناء اذ آل إلى السقوط).

(2) اي اهتم بما لا يستحق الاهتمام.

(3) بفتح الميم وما قبلها في الاولى وفتح الواو واسكان ما قبلها في الثانية.

(4) بدا بمعنى ظهر.

(5) بسكون الباء وفتح ما قبلها.

(6) سربانت: كلمة أعجمية مدلولها المطابقة في اللغة العربية الثعبان الفتاك (le sek pent)، ومعنى العجمة هنا أنها غير عربية وكفى.

 

[1]  القديم غير امريكا والحديث هي، والمراد بالحداثة او الحدوث هنا الاكتشاف في العالم (بفتح اللام) عالمان قديم وجديد وهكذا مسيرة الحياة وإرادة رب الحياة.

0 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً