قادة فتح المغرب العربيمقالات

محمود شيت خطاب

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد الخامس والثلاثون – غرة ذي القعدة سنة1387 ه – يناير سنة 1968 م – (ص 72– 79).

عرض وتلخيص: أ/ سعيد زايد

 

الأستاذ اللواء محمود شيت خطاب عضو المجمع العلمي العراقي، والعضو المراسل لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والوزير السابق في العراق الشقيق. ومؤلف هذا الكتاب، عالم عربي أصيل، ملك عليه إسلامه وعربيته كل زمام نفسه، فأصبح يتغنى بهما في كل محفل. ويظهر آثارهما في كل مجال، وقد أبلى في سبيلهما في ميداني السيف والقلم، فتطوع في حرب فلسطين سـنة 1948 حيث عين ضابط ركن اللواء المرابط في مدينة جنين، وحارب في سبيل الحق المقدس، واشترك في حروب أخرى، دفاعا عن العروبة والإسلام، وله مواقف عسكرية كثيرة تشهد بإخلاصه في ميدان الإسلام، والذود عن الوطن العربي، وإلى جانب ذلك كله أشترك في أربع وعشرين دورة عسكرية، ونشر عدة بحوث في كافة المجالات العسكرية، وألف بعض الكتب في ذلك، مثل كتاب « القضايا الادارية في الميدان »، وكتاب « التدريب الفردي ليلا »، وكتاب « المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم » وهو عمل ضخم صدر منه الجزء الأول، وجزؤه الثاني في سبيله إلى الظهور إن شاء الله. وللأستاذ خطاب غير المؤلفات العسكرية، مؤلفات أخرى جليلة القدر فهي أبحاث علمية تظهر ما للإسلام والمسلمين، وما للعربية والعرب من أثر جليل على الانسانية، وهذه الكتب هي: الرسول القائد، قادة فتح العراق والجزيرة، قادة فتح بلاد فارس، قادة فتح الشام ومصر، الفاروق القائد، المهلب بن أبي، صفرة الأزدي، الاحنف بن قيس التميمي، قتيبة بن مسلم الباهلي، طريق النصر، قادة فتح المغرب العربي في جزئين.

ويقع الجزء الأول من كتاب قادة فتح المغرب العربي في 352 صفحة من القطع الكبير، أهداه مؤلفه إلى ذي النورين عثمان بن عفان، وقدم له بالآية الكريمة «قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشـاء إلى صراط مستقيم» واستهله بفصل كبير عن البلاد والسكان والتاريخ قبل الفتح الإسلامي وفي ايامه، ثم عرض حياة سبعة من القادة، سماهم القادة العامين.

يبدأ الأستاذ خطاب كتابه بالإشادة بحركة التعريب في المغرب العربي، تلك الحركة المباركة التي تهدف إلى اعادة المكانة السامية للغة القرآن الكريم في ربوعه، بعد أن حاول المستعمر فرض لغته، ثم يتحدث عن بلاد المغرب وهي البلاد التي تبدأ من حدود مصر الغربية إلى المحيط الاطلسي، وكان يسكنهـا البربر، وهم أقدم أمة عرفها التاريخ في الشمال الإفريقي، ولم تكن لهم أديان ثابتة قبل الإسلام، فقد كانوا وثنيين تارة، ويهـودا تارة أخرى، واعتنقوا المسيحية في القرون الاولى، ثم نسوها حين استعادوا استقلالهم من الروم.

ولم يعرف تاريخ المغرب إلا من عصر الفينيقيين، أما ما قبل ذلك فلم يعرف منه إلا القليل، ويتحدث المؤلف باختصار عن الفينيقيين، ويذكر أنهم أسسوا مدينة قرطاجنة سنة 840 قبل الميلاد في البقعة التي تسمى الآن بتونس، وقد قضى الرومان على قرطاجنة في ثلاثة حروب، وعاملوا المغاربة معاملة قبيحة: وخسر المغاربة على أيديهم ما كانوا قد اكتسبوه من حضارة في عصر القرطاجنيين. وكانت سياسة الروم في افريقية ـ كما قلنا سابقا - سببا في القضاء على المسيحية التي انتشرت بين أهلها، حيث وقف الاهلون موقف المدو من كل ما يتصل بهم من دين وحضارة، حتى بدأ نور الإسلام ينشر ألويته على ربوع المغرب، بفضل جنوده البواسل وقادته الشجعان.

وقد ذكر الاستاذ اللواء خطاب ثمانية من القادة، تحدث عن سبعة منهم، واحال القارئ على كتابه (قادة فتح الشام ومصر» لمعرفة أخبار القائد الثامن، وهو عمرو بن العام السهمي.

 

عبد الله بن سعد بن أبي سرح:

وأول قائد تحدث عنه بالتفصيل هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، ويكنى أبا يحيى، وهو أخو سيدنا عثمان بن عفان بالرضاعة. وقد أسلم قبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أفتتن وعاد إلى مكة مرتدا، فأنزل الله فيه آيته الكريمة: «ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله». ورجل هذا شأنه كان من الطبيعي أن يكون من النفر الكفار الذين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين بقتلهم أينما وجدوا. ولكن عبد الله فر إلى أخيه عثمان بن عفان، الذي غيبه، ثم أتى به بعد أن اطمأن أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنا، فصمت الرسول صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال: «نعم». وأسلم عبد الله في ذلك اليوم، ولقد كان عبد الله يتوارى من الرسول صلى الله عليه وسلم خجلا كلما رآه. ولما سمع المصطفى عليه الصلاة والسلام بذلك قال: "الإسلام يجب ما كان قبله ".

وقد حارب عبد الله مع جيوش المسلمين في فتح الشام، وكان صـاحب ميمنة عمرو بن العاص في فتوحاته في مصر، وكم بعث به عمرو إلى أطراف افريقية غازيات فكان له النصر دائما. وولى عبد الله صعيد مصر بعد فتحها من قبل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم ولى مصر كلها من قبل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد عزل عمرو بن العاص، ثم ولى المغرب وبعد قليل من ولايته استأذن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في غزو افريقية، وأذن له عثمان بعد استشارة الصحابة وأمده بجيش اشترك فيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، وسمى جيش المبادلة لكثرة من اشترك فيه ممن سموا بعبد الله. وقد لقيه في برقة عقبة بن نافع فاستولوا على طرابلس. ثم سار جيش عبد الله نحو افريقية والتقى بجيش جرجير ويوس في موقعة (عقوبة)، ونشبت بينهما معركة حامية. وأرسل ابن سعد إلى ملك الروم يدعوه إلى الإسلام أو الجزية فأبى واستكبر، فاستأنف القائد العربي القتال: وقوى عضده بوصول مدد عربي بقيادة عبد الله بن الزبير، وتم للمسلمين فتح أفريقية، وعاد ابن سعد إلى مصر بعد أن أمضى بأفريقية سنة وثلاثة أشهر.

ولكنه رجع إليها مرة ثانية حين نقض أهلها العهد فأرجع للإسلام مجده. ثم انتصر المسلمون في غزوة (ذات الصواري) سنة أربع وثلاثين هجرية، وبذلك بعد خطر الروم عن أرض مصر والشام.

وبعد أن عاد عبد الله بن سعد من تلك الغزوة سنة خمس وثلاثين هجرية عاد بالتالي إلى أرض الحجاز ليحضر اجتماع الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بوزرائه وعماله. وما لبث أن عزل من منصبه بعد مقتل عثمان. ولم يبايع ابن سعد لعلى أو معاوية، واعتزل الفتنة. ويظهر انه كره الحياة كرها شديدا فدعا على نفسه ــ ذات ليلة - قائلا: «اللهم اجعل خاتمة حياتي صلاة الصبح». واستجاب الله لدعائه، فقبضت روحه قبل أن يسلم على يساره في صلاة الصبح سنة ست وثلاثين هجرية.

 

معاوية بن حديج:

أما القائد الثاني فهو معاوية بن حديج السكوني. شهد فتح مصر مع عمرو بن العاص، وكان موضع ثقته، فأرسله عمرو إلى الخليفة عمر رضى الله عنه ليبشره بفتح مصر والاسكندرية. وحارب معاوية في بلاد النوبة تحت قيادة عبد الله بن سعد، فأصيب في عينه في إحدى المواقع، وقد غزا ابن حديج أفريقية عدة مرات، كما ذكر المؤرخون، ثلاثا منهـا مهمة هي: غزوة أثناء خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وغزوتين في خلافة معاوية بن أبي سفيان، ويعد ابن حديج أول من غزا جزيرة صقلية سنة ست وثلاثين هجرية.

لقد كان معاوية مجاهدا كبيرا في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وكان يتمثل دائما بأحد الأحاديث الأربعة التي رواها هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يقول: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها».  وولى ابن حديج مصر سنة سبع وأربعين هجرية من قبل معاوية بن أبي سفيان، ثم عزل سنة احدى وخمسين هجرية ومات سنة اثنتين وخمسين هجرية، وكان رحمه الله من التقاة: واسع العلم، حازما مقداما.

ولقد حاول جهده أن يبتعد عن الفتن التي وقعت بين المسلمين منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن نيران الفتنة أصابته بشررها، فحورب واتهم بما ليس فيه مما لا سبيل إلى ذكره الآن.

 

عقبة بن نافع:

والقائد الثالث هو عقبة بن نافع الفهري القرشي. ولد عقبة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بسنة واحدة، ونشأ في بيئة ذات طابع عسكري بحت، وهو آخر من ولى المغرب من الصحابة، وقد تولى عقبة بن نافع منصب القيادة في أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشهد فتح مصر تحت لواء عمرو بن العاص. وقاد جيش العرب المسلمين الذي فتح زويلة وبرقة، فولى قائدا لحامية برقة واشترك مع عبد الله بن سعد في فتوحاته الافريقية، وابلي تحت رايته أعظم البلاء. وإلى جانب هذا كان لعقبة القدح المعلى في غزو الروم بحرا. ظل عقبة حاكما لبرقة إلى ما بعد وفاة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في أيام الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومعاوية بن أبي سفيان، وقد استعمله عمرو بن العاص سنة احدى وأربعين هجرية على أفريقية، فغزا قبيلة لواتة التي كانت من أشهر القبائل البربر، وكانت قد نقضت عهد الصلح ايام معاوية بن ابي سفيان فأبى صلحهم، وفعل نفس الشيء مع قبيلة هوارة، وهي من أشهر قبائل البربر. وسار عقبة في فتوحاته حتى فتح بلاد ودان، وبلاد فزان، وبلاد خاور وبلاد كاوار، ونشر الإسلام في ربوعها.

وقد حدث أن استعمل معاوية بن أبي سفيان مسلمة بن مخلد الأنصاري الخزرجي على مصر وأفريقية، وعزل عقبة عن أفريقية، وكان ذلك سنة خمس وخمسين هجرية. فعين مسلمة مولاه أبا المهاجر دينارا على افريقية، فأساء الأخير عزل عقبة وسجنه، فظل عقبة في السجن حتى أتاه كتاب من معاوية بن أبي سفیان بالإفراج عنه. وعاتب عقبة معاوية فاعتذر له، وقيل إنه وجد معاوية قد توفي. والمهم أنه رجع واليا على افريقية سنة اثنتين وستين هجرية، من قبل معاوية أو من قبل أبنه يزيد. وكانت الخطوة الاولى بعد ذلك هي سيره على رأس عشرة آلاف فارس إلى القيروان، وغزا أبا المهـاجر وقبض عليه واستولى على ماله، ثم جدد بناء القيروان وعمرها.

وتابع عقبة جهاده في سبيل نشر كلمة الله، فخرج مع أصحابه وبكثير من أهل القيروان إلى المغرب، ففتح مدينة (باغاية) ومدينة (تلمسان) ومدينة (أربة) ومدينة (تاهرت) ومدينة (طنجة)، وكاد أن يفتح الاندلس، لولا أنه رأى أن ينشر الهداية بين البربر في بلاد السوس الأدنى والسوس الأقصى.

ورأى عقبة بعد ذلك الرجوع إلى القيروان، واطمان إلى الطريق، حتى انه اذن لأصحابه بأن يتفرقوا فوجا فوجا، فلم يكن يدري أن في عسكره من أضمر له القدر والخيانة، ولكن (كسيلة) الذي كان قد أسلم على يدي أبي المهاجر دينار، وانضم إلى جيش المسلمين، غلبتـه العزة بالإثم، فجمع من الروم من جمع، وغدر بعقبة، ومن كان معه من المسلمين وكانوا حوالي ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين، فاستشهدوا جميعا سنة ثلاثة وستين هجرية، استشهدوا بعد أن أشعلوا ــ وعلى رأسهم عقبة بن نافع ــ جذوة الايمان بين سكان أفريقية.

 

ابو المهاجر:

والقائد الرابع هو أبو المهاجر دينار، وهو مولى الأنصاري مسلمة بن مخلد، وكان من التابعين. وقد ولى ابو المهاجر ـ كما ذكرنا ـ افريقية بعـد عقبة بن نافع سنة خمس وخمسين هجرية، وكان ذلك مكافأة له من مسلمة بن مخلد. وقد سار ابو المهاجر بجيشه إلى قرطاجنة عاصمة الروم في شـمـال أفريقية، فأجبر الروم بعد حصار دام مدة على طلب الصلح. ولكن عبقرية ابي المهاجر الحربية أملت عليه ان يكون الصلح بإخلاء جزيرة (شريك)، وبذا حرم الروم من قاعدة كانت تحتشد فيها جيوشهم لمهاجمة المسلمين، وتم تطهير المنطقة من أعداء الإسلام. وكذلك تجلت عبقرياته الحربية في اختيار مدينة (ميـلة) مقرا له، بعد أن هزم البربر الذين تحصنوا فيها، وذلك لموقعهـا الوسط بين المغربين الأدنى والأوسـط، فكانت بذلك أحسن مكان لمراقبة أحوال البربر والروم. وقد استشهد ابو المهـاجر مع عقبة بن نافع، ونفر كرام من الصحابة والتابعين بلغ عددهم زهاء ثلاثمـائة سنة ثلاث وستين هجرية بأرض الزاب ب (تهوذة)، فخسر المسلمون بفقـده قائدا عظيمـا، وداعية دأب على نشر الإسلام بالسياسة والمنطق والحجة البالغة.

 

زهير بن قيس:

أما القائد الخامس فهو زهير بن قيس البلوى، ولد في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، روى عن بعض الصحابة وروى عنه، وشهد فتح مصر سنة عشرين هجرية تحت لواء عمرو بن العاص. وقد غزا افريقية ووليها، واستخلفه عقبة بن نافع سنة اثنتين وستين هجرية على القيروان. وقد أراد مقاتلة كسيلة سنة ثلاث وستين، ولكن صاحبه حنش الصنعاني انشق عليه عائدا إلى مصر، فاضطر زهير إلى العودة، ولما وصل برقة أقام بها.

وبقي زهير ببرقة حتى استقل عبد الملك بن مروان بالخلافة، فحشد لزهير جيشا عظيما سار به لقاتلة الروم في افريقية سنة تسع وستين هجرية. والتحم جيش المسلمين بجيش الروم والبربر في (ممس)، وأنهزم الاعداء وقتل قائدهم كسيلة، وفتح المسلمون مدينة تونس أيضا. ولقد كانت موقعة (ممس) قصمة لظهر الروم، اذ قضت على كل آمالهم في الاستعانة ببعض قبائل البربر والوقوف بهم في وجه العرب. ولكن الروم لم ييأسوا وسعوا من ناحية البحر، وجهزوا مراكبهم وخرجوا القسطنطينية وجزيرة صقلية، بعد أن بلغهم نبأ عزم زهير في العودة إلى مصر مع جمع من أصحابه. وأراد الله لزهير الشهادة فلقى الروم في برقة، لقيهم بقوة غير متكافئة عددا وجهدا نتيجة سفر طويل شـاق، ولم يتيسر له الوقت لإعداد خطة عسكرية، أو لتلقى الامدادات من المشرق، ولكنه لم يجبن، واندفع هو ورجاله في أتون المعركة، فخسروا أرواحهم، ونالوا شرف الجهاد، وعزة الاستشهاد سنة احدى وسبعين هجرية.

 

حسان بن النعمان:

والقائد السادس هو حسان بن النعمان الأزدي الفساني. ينسب إلى الفساسنة وهم ملوك الشام الذين والوا الامبراطورية البيزنطية قبل الفتح الإسلامي، ولقد كان حسان من التابعين، وحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله، عنه، وكان مرموقا عند بني أمية وغيرهم من المسلمين، وقد أطلق عليه لقب الشيخ الامين، أمره الخليفة عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين هجرية بالذهاب إلى افريقية. ورأى حسان أن يجهز جيشه في مصر، فجهز أربعين الفا من المقاتلين وسار بهم سنة ست وسبعين هجرية ففتح قرطاجنة وبرقة وطرابلس الغرب. ثم انتصر على الروم أيضا في مدينتي صطفورة وبتزرت. وبذلك تم للعرب تطهير أفريقية من الروم وبعض حلفائهم من البربر في تلك المنطقة. ولكن المسلمين هزموا أمام البرير بقيادة الكاهنة في موقعة نيني وارتد حسان وجيشه إلى القيروان، وظل حسان يضمد جراحه، ويبعث في جيشه العزم ويبث في جنوده روح النصر إلى أن أذن الله بأن ترفع راية المسلمين ثانية على أرض إفريقية.

 

موسى بن نصير:

أما القائد السابع والأخير فهو موسى بن نصير اللخمي، ولد سنة تسع عشرة هجرية في خلافة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ونشأ في بيت يتصل اتصالا مباشرا بالجندية، تحت رعاية أبيه نصير اللخمي الذي امتـاز بالجرأة والصراحة والورع. وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان تولی موسى بن نصير البحر، فغزا قبرص، وبنى فيها بعض الحصون، وحكمها نائبا عن معاوية، وشهد موسى معركة مرج راهط مع الضحاك بن قيس الفهري سنة أربع وستين هجرية، فلما قتل الضحاك وانتصر عليه مروان بن الحكم، لجـأ موسى إلى عبد العزيز بن مروان الذي حماه، وتوطدت بينهما الصلة بعد ذلك، وفي سنة خمس وستين هجرية عاون موسى مروان بن الحكم في تملك مصر، فلما استعمل مروان ابنه عبد العزيز عليها جعل له موسى وزيرا ومشيرا، ثم عينه عبد الملك، ليكون وزيرا ومشيرا لأخيه بشر الذي كان قد ولاه البصرة والكوفة، وكان ذلك سنة احدى وسبعين هجرية. ولما مات بشر سنة خمس وسبعين هجرية عاد موسى بن نصير إلى مصر عند عبد العزيز بن مروان.

وقد تولى موسى بن نصير افريقية والمغرب في اواخر سنة خمس وثمانين هجرية، فكان أول ما فعله أن أكمل استعدادات الجيش، وناقش مطالب الجنود وساوي نفسه بهم. وسار بعد ذلك بجيشه فاستعاد فتح جبل زغوان، وجعل من منطقة القيروان قاعدة أمينة لتنفيذ خططه الحربية في الفتـوحات الإسلامية. ومنها أغار على قبائل البربر امثال هوارة وزناتة وكتامة ليؤدبها، ثم غزا المغرب الاوسط وتبعه بالمغرب الاقصى، وتطلع بعد ذلك إلى ولاية طنجة ففتحها بمساعدة مولاه طارق بن زياد، الذي استخلفه عليها، حين عاد إلى القيروان. وفي طريق عودته فتح مدينة مجانة وكانت قلعة تحصن أهلها مخافة منه. وهكذا خضعت بلاد المغرب جميعها لحكم العرب، ودخل اهلها الإسلام وتعلم البربر القرآن على أيدي العرب، وتفقهوا في الدين على أيديهم ايضا،‏ وخاصة بعد التصالح على تسليم مدينة سبتة مع يوليان. ثم أهتم موسى بن نصير بالبحر، فأصاب صقلية، وفتح احدى مدنها، ثم بعث عياش بن أخيل ففتح مدينة اخرى هي سرقوسة. وفتح بعد ذلك سردانية وجزيرتي ميورقة ومنورقة وتم له بعد ذلك الفتح العظيم للأندلس بمساعدة طارق بن زياد وعبد العزيز بن موسى. وفي سنة ست وثمانين هجرية استدعي الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير إلى دمشق. وعزل موسى قبل وفاة الوليد بأيام قليلـة. ولم يكن سليمان بن عبد الملك الذي خلف أخاه الوليد بأقل من أخيه غضبا على موسى بن نصير، ولذا لم يرده، إلى مكانه في القيادة.

 

وبعد، فهذه حياة سبعة من القادة العامين من قادة العرب المسلمين في إفريقية والمغرب، عرضناها باختصار من خلال الوقائع التاريخية، كما وردت في كتاب الاستاذ اللواء محمود خطاب. وقد عرض الاستاذ اللواء سيرهم بأسلوب مشرق جذاب رصين البناء بليغ التراكيب وضع لنفسه منهجا ثم التزمه بكل دقة، فتناول كل قائد بالحديث عن نسبه ومولده ونشأته، وعن جهاده في سبيل الله لنشر دين الإسلام، وعن حياته كانسان، وما يتخللها من عواطف انسانية واحاسيس بشرية، ثم يضع قيادته في الميزان، فيتعرض لها تعرض خبير بالفنون العسكرية، وأخيرا يضعه تحت مجهر التاريخ وأحكامه الصارمة التي لا تعرف تحيزا أو ميلا مع الاهواء.

وقد تسلح الأستاذ اللواء محمود خطاب امام الروايات التاريخية بسلاح المؤرخ النزيه الواعي، فلم يأخذ كل ما كتب قضية مسلمة، بل قابل الروايات التاريخية، بعضها ببعض، وربط بين الخير وبين البيئة الاجتماعية، وما سرى فيها من ظروف اقتصادية، وبذا استطاع أن يعرض هذه الحقبة من تاريخ الامة الإسلامية عرضا موفقا. وان أخذ عليه شيء فهو بعض التكرار الذي تمثل في اعادة بعض عبارات بأكملها سبق له كتابتها في امكنة أخرى، وأحسب ان الذي حمله على هذا هو التشابك الذي حصل في حياة القادة الذين كتب عنهم ولقد خلصت من قراءة كتاب الاستاذ اللواء بحقيقة هامة جدا، وهي انه من الواجب الا يكتب تاريخ ابطال الحروب الا من ألم بالثقافة العسكرية، وتثقف في تكتيك الحروب ونواحيها الاستراتيجية، فان المناقشات التي أوردها المؤلف لبعض الانباء الحربية، وتصويره الدقيق لما يكتنف المعركة الحربية من الجوانب والامكانيات التي كانت في عهد بطل المعركة، ليؤيد ما نذهب اليه.

وقد اعتمد الأستاذ اللواء في اخراج كتابه على مصادر كثيرة، ولقد كان من الامانة العلمية بحيث لم يترك نبأ تاريخيا عظم أم هزل الا ورده إلى اصوله التاريخية. ولقد بلغ من حبه في الرجوع إلى المصادر التاريخية القديمة أنه اعتمد عليها كلية حين أراد أن يعرف ببعض الأماكن من الناحية الجغرافية، وحبذا لو اضاف إلى هذه التعاريف آراء كتب الجغرافيا الحديثة، فان ذلك يتمم الفائدة المرجوة، خاصة وأن اهتمامه بالجغرافيا ـ وهي مكملة للتاريخ ـ جعله يورد احدى عشرة خريطة لينير السبيل أمام القارئ وقد ذيل الاستاذ كتابه بفهارس تحليلية دقيقة للأعلام والاماكن والقبائل والملل والنحل، تشهد بعظم المجهود الذي بذل في اعدادها، وتيسر السبل أمام القارئ الذي يريد أن يرجع إلى ما كتب عنها ولعلنا ـ أخيرا – نكون قد وفقنا في اعطاء القارئ الكريم نبذة عن كتاب عظيم و أرجو أن يتاح لنا تقديم جزئه الثاني إن شاء الله تعالى.