المسلمون في جمهورية داهوميمقالات

طلعت غنام

المصدر: مجلة الوعي – السنة الثالثة – العدد 34 – غرة شوال سنة 1387 ه – أول يناير 1968 م – (ص58 – 61).

 

طلعت غنام

 

جمهورية الداهومي مـن الدول المستقلة حديثا في غرب إفريقيا بعد أن استعمرتها فرنسا مدة طويلة - وهي تطل مثل التوجو على المحيط الأطلنطي الذي يحدها شرقا ـ ومن الغرب تحيط بها جمهوريتا فولتا العليا والنيجر. أما في الشمال فتقع جمهورية نيجيريا ويحـدها جنوبا جمهورية التوجو.

ويرجع تسمية هذه الجمهورية إلى أسطورة قديمة يتناقلها الناس الآن ويؤكدون صحتها، وذلك سنة 1610 م كان لمنطقة فون (Fon) ملك اسمه دان (Dan) وكان للمنطقة المجاورة لها واسمها الدا (Alda) أمير اسمه آبو (Agbo) ويقال إن هذا الثاني نزل ضيفا على الأول «دان» وبحكم الصداقة أخذ منزلا خاصا ليقيم فيه مدة ضيافته، ولكن الضيافة طال وقتها وأخذ (آبو) يستحضر بعض أتباعه شيئا فشيئا ويستولي على بعض أراضي دان فضاق هذا به ذرعا، وذات يوم قابله وقال له ساخرا: ألا تريد بناء منزل على بطني؟ بعد أن استوليت على كثير من أراضي مملكتي - فاستشاط (آبو) غضبا، وأقسم أن يجعل هذا الكلام حقيقة وذات يوم استحضر قواته، وباغت بها جيوش دان فانتصر عليها وقتل دان نفسه أثناء المعركة، فوضعه في أرض فسيحة، وبنى على بطنه أول قصر في هذه البلاد، التي عرفت باسم «داهومي» والتي حرفت عن كلمة دان هومي ومعناها (بطن دان) كما أن معنى دان «الثعبان» أي أن معناها «بطن الثعبان».

ويبلغ عدد سكان هذه الجمهورية حوالي المليونين والنصف تقريبا وعاصمتها «برتنوفو» ولكن العاصمة الفعلية التي بهـا دور الحكومة والسفارات الأجنبية ومركز التجارة هي «كوتونو» كما أنه يوجـد كثير من المدن الشهيرة مثل «آبومي، يدا، باركو، ساتیتی» ولكن الشيء الذي يثير الانتباه في الدول الأفريقية، هو كثرة اللغات واللهجات وتعددها، وقد تجد لكل مدينة بل لكل قبيلة لغة خاصة بها. وهذا نشأ من تشجيع الاستعمار ليمكن تفريقهم والظفر بهم.

 واللغة الأولى هنا المستعملة في دور الحكومة، ودور التعليم هي الفرنسية، وبعدها لغة فون Fons ثم لغة اليوربا التي يتكلمها المسلمون اليوربا والذين يرجعون أصلهم إلى العروبة من قبيلة يعرب، والتي حرفت بتداول اللغات وقد يطلقون عليها أناجو» كما يوجد أيضا لغة اجا وبربر والغلانية ولغة زونبا. هذا كما قلت بخلاف اللهجات واللغات الداخلية لكل قبيلة.

 

عدد المسلمين:

ويبلغ عدد المسلمين الحقيقي في داهومي حوالي 50 ٪ من عدد السكان، وهم متمسكون بالدين الإسلامي، بالرغم مما يدخلونه فيه من الجهالات والعادات الضـارة ويوجد في العاصمة برتنوفو كثير من الجمعيات الإسلامية أشهرها: جمعيات أنصار الإسلام وأنوار الدين، ويتمثل نشاطها في بنـــاء المدارس العربية، التي يدرس بها مدرسون من نفس البلاد، لم تصل إليهم بعد الطرق العصرية والنطق الصحيح.

 وأشهر هذه المدارس وأقدمها مدرسة الحاج مجدد التي تخرج فيها طلاب كثيرون يختار الممتازين منهم لمساعدته في المدرسة، وتوجد مدرسة أخرى عربية فرنسية تعرف باسم «کولج آراب فرنسية» لها مصاريف، خاصة، والغرض من تدريس الفرنسية مع العربية فيها هو فتح باب عيش للخريجين منها، حيث لا تعترف الدولة ولا تعطى عملا الا لمن يجيد الفرنسية، فضلا، عن ربطه بالمجتمع الذي يعيش فيه.

 

لا كيان لهم!!

والمسلمون هنا ليس لهم أي کیان سیاسي معترف به في الدولة، من ناحية المساعدة المادية لبناء مدارس أو مساجد، إلا ما يستطيعون جمعه من التبرعات والاشتراكات في الجمعيات السالفة، بخلاف الفئات الأخرى، فإن الحكومة تتكفل بـكل احتياجتهم، بالرغم مـن أن المسلمين کما قلت يمثلون نصف الدولة!! وحتى استدعاء الأساتذة لهم من الخارج لا يراد أن يكون بطريق رسمي. وذلك يرجع لعدم وجود القيادات القوية، وربما الصراع الداخلي على الزعامة فيما بينهم - هذا بالرغم من وجود مسلمين في مراكز هامة في الدولة مثل السكرتير العام لرئاسة الجمهورية، ومثل رئيس مجلس الأمة قبل الانقلاب الأخير. ولهذا السبب ربما يرجع عدم وجود أي تلاميذ لهم مبعوثين للعالم العربي والأزهر الشريف، لتعلم اللغة العربية والدين وتكاد تكون داهومي هي الجمهورية الأفريقية الوحيدة في هذا المجال - وبعد الانقلاب اتفق المسلمون على إنشاء اتحاد يضم كل الجمعيات برئاسة الزعيم عبد الوهاب.

ويتناقل مؤرخوهم المسلمون أن الإسلام دخل إلى داهومي في القرن الحادي عشر الميلادي، عندما جاء إلى غرب أفريقيا من الجهات الساحلية حتى بلغ نيجيريا إلى حدود الكونغو على يد الصحابي الجليل عقبة بن نافع رضي الله عنه. كما يقال إن من أتى بالإسلام إلى داهومي هو أبو بكر بن عمر على أصح الأقوال.

 

حاصلاتها:

وأما حاصلات هذه البلاد فكثيرة وإن كانت الاستفادة الاقتصادية معدومة، ذلك أن الاستعمار كعادته، ينظر إلى المستعمرات على أنها مزارع لأخذ المواد الخام منها، وأسواق لتصدير المنتجات اليها بأضعاف أثمانها. ومن أهم المحصولات هنا: البن والكاكاو والزيتون وجوز الهند، وتوجد هذه الزراعة بشكل هائل وبأرخص الأثمان، حيث لا يصدر منها الا ما يحتاج اليه المستعمرون والبـاقي يتداوله المواطنون، ثم يلقون بالباقي في المزارع حتى يشاء الله.

كما يوجد في داهومي القطن والفول والسوداني ونبات المنيوك وطعمه ((كالبطاطس وحجمه ضخم جدا)) وتوجد الذرة والبقول ويلاحظ في هذه البلاد أن المسلمين يتمركزون في العاصمة ((برتنوفو)) وفي كوتونو وزوجو وأيضا في الشمال.

 

من عادات المسلمين:

ويستلفت النظر ما لهم عادات تستحق التأمل، من ذلك مثلا أن كل حاج قبل أن يسافر إلى البلاد المقدسة يدعو العلماء وكبار القوم، يطعمهم ويسقيهم، ثم يطلب دعواتهم له أن يعود بسلامة الله وقبيل سفره يقدمون له ما يستطيعون من الهدايا، ويودعونه بالبـكاء والحزن، كأنه اللقاء الأخير. وعند عودة الحجاج ترى جموعا حاشدة في استقبالهم يرقصون، ويدقون الطبول، وهم يرتدون فاخر الثياب، بينما الحجاج أيضا في أفخر الثيـــــــاب الحريرية اللامعة وقلنسواتهم الخاصة التي يسمونها ((الميكية» نسبة إلى مكة المكرمة وينسجون حولها الكثير من الحكايات الخيالية، ويدعون أن من يرتديها من غير الحجاج يموت بمرض في رأسه.

وفي كل مسجد تجد للحجاج الصفوف الأولى والكلمة المسموعة، وعند اقامة احتفالات الاستقبال لهم يحضرها كبار مسؤولي الدولة ورئيس الجمهورية بنفسه، احتراما وطلبا لدعواتهم المستجابة. ولهم اجتماعات مقفلة لا يحضرها غير الحجاج فقط، حيث يكون الجميع في ملابس موحدة، متفق عليها من الحرير المزركش اللامع، وقلنسوات خاصة بهم. ومثل هذه الامور هي التي تشعر الكثيرين بالرهبة والخضوع الديني، وتحبب الكثير في زيارة بيت الله، كما أنها تجذب مثيرا من غير المسلمين للدخول في الإسلام. ولهم جمعيات خاصة بهم تقيمها طائفة اليوربا «يعرب» كما يقولون لا يقبل فيها غير الحاج - وويل لمن ينسى او يخطئ لينادي حاجا مجردا من لقبه، فانه يعطى درســا بالغا في احترام الحاج وقلنسوة الحاج التي فوق رأسه !!وفي الاحتفالات بمولد النبي الكريم يذبحون الأبقار والطيور ويوزعونها مع الحلوى على الفقراء والمساكين.  ويقرعون سيرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ويروى لي أحد المعلمين اليـوربا واسمه عبد العزيز أقوش وهو ممن يهتمون باللغة العربية «أن من العادة عند دفن الميت أن يشترى كل من له صلة نسب به ثيابا جديدة يلبسونها وهم يشيعونه إلى مثواه الأخير، بينما أولاده من حوله في أفخر الثياب وأحلاها. وعادات الخطوبة والزواج عندهم لا تقل غرابة عن هذا، حيث يطلقون على طالب الزواج «الرنا» أي الدليل أو الهـادي وعندما تعجبه أحد الفتيات، يخاطبها مباشرة، ودائما ترد عليه بأنها ستفكر في الأمر وتذهب للمشـاورة مع أمها التي تنصحها بالكتمان، ثم يأتي الخطيب بنفسه إلى دارها، ويطلبها من امها التي ترده أكثر مـن ثلاث مرات بينما هو مستمر في كل مرة في تقديم الهدايا.

ثم يقولون له: سوف نسأل عن نسبك وحسبك. فإذا ما رأوا بعد البحث الطويل أن ليس هناك عداء بين العائلتين، او ليس في نسبه مشرك او فاسق، وافق اهل العروس، وعملوا احتفال ضخما بيوم العرس يحضره أقارب الاسرتين، ومعهم الوعاظ، لبيان امور الزواج لهم والطلاق، وبعد ذلك تضرب الدفوف، وتوزع الحلوى حتى الصباح.

 

مكانة الأئمة:

ومن الجدير بالتنويه به تلك المكانة الكبيرة التي يحتلها الإمام في نفوس المسلمين من التقديس والاحترام. ومن عادته في كل عام أن يقوم بجولة في الريف، يعظ فيها الناس عموما، ويدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وفي نهاية الجولة يعود بحصيلة ضخمة من عبدة الأوثان، أو النصاری صغارا وكبارا. فهناك بعض الطاعنين في السن الذين لا يستطيعون الذهاب معه، فيعطونه أبناءهم ليعلمهم الإسلام واللغة العربية- كما حدث أثناء زيارتنا لأحدهم، وشرحنا لهم بعضا من مبادئ الإسلام فقد قام أحدهم ليعلن أنه قد تبرع لأعضاء البعثة العربية بولدين لتعلمهم الإسلام واللغة العربية اقتناعا منه بالدعوة، وأن العجب ليأخذ المرء كل مأخذ عندما يدخل بيت الإمام فیری منزله مكتظا بهؤلاء الأطفال الذين أحضرهم، وكلهم في زي واحد، وعمل لهم مدرسة واحدة، يطعمهم ويكسوهم من نفقته الخاصة وبعض تبرعات أهل الخير - وأن منظرهم ليشرح الصدر وهم في صلاتهم يركعون، ويسجدون لله، وهم في هذا الزي الواحد، يناجون الله الواحد. وفي الصباح ينتظمون في طابور المدرسة كأنهم ابناء رجل واحد. وبالرغم مما رايته ولم يعجبني فقد حمدت الله وشكرته على أن الإسلام مازال بخير يحميه الله ويرعاه - ينتشر من تلقاء نفسه ويقيض الله له من يرعاه، ولو في مجاهل البلاد، من غير دعاية او امكانيات تبشير ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) صدق الله العظيم.