المسلمون في بيروت على مر العصورمقالات

محمد طه الولي

المصدر:مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد 30 – بتاريخ غرة جمادى الآخرة 1387 ه – 5 سبتمبر 1967م. – (ص76 – 82).


للأستاذ/ محمد طه الولي

 

سنة 16 هجرية، دخلت القوات العسكرية الإسلامية مدينة بيروت، وكان على رأس هذه القوات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من قبل أخيه يزيد بن أبي سفيان الذي كان معيناً من قبل أمير الجيوش العربية المعقودة اللواء لأبي عبيدة بن الجراح فاتح الشام مع خالد بن الوليد رضى الله عنهما.

 ولم تكن بيروت في ذلك الحين أكثر من ((بليدة على ساحل بحر الروم)) كما قال ياقوت في معجم البلدان، تتناثر بيوتهـــا المتواضعة بين بقايا الأنقاض التي تخلفت عن الزلزال المروع الذي دمرها عن آخرهـا سنة 556 للميلاد.

 وعندما دخل المسلمون الفاتحون إلى المدينة، كان سكانها القلائل مزيجا من أبناء البلاد المحليين، وجنود الروم الأغراب الذين يشغلونها وعائلاتهم لأغراض عسكرية وإدارية.

 وجميع هؤلاء وأولئك كانوا من النصارى الملكيين الذين يرجعون بشئونهم الدينية إلى السلطات الروحية البيزنطية. ثم (صـار المسلمون يتكاثرون فيها والروم تقل منها وقتا بعد وقت حتى صار أكثر أهلها مسلمين) كما يقول صالح ابن يحيي في كتابه تاريخ بيروت (ص 15)، وما لبثت هذه المدينة طويلا حتى غمرتها الموجة الإسلامية، وتقلص عنها ظل النصرانية بسبب فراغها من قوات الاحتلال الرومية الذين انسحبوا منها، وفي أثرهم غالبية الذين هم على ملتهم من السكان البيروتيين الأصليين.

 وما أن استقر الأمر للأمويين في دست الخلافة بدمشق، حتى أصبحت بيروت مدينة إسلامية صرفه بسكانها من العرب، وغيرهم من الفرس الذين جلبهم معاوية من بلادهم، وأسكنهم بعض المدن السورية، ليتخذ منهم قوة تذود عن البلاد محاولات العودة التي كان يقوم بها الروم بين الحين والآخر، طمعا في استرداد الملك الذي فقدوه في هذه المنطقة.

 وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات قد أدركت غايتها في بعض الأحيان لمدة بسيطة، فإن المدينة لم تفقد طابعها الإسلامي الجديد، وبقيت محتفظة بهذا الطابع بلا انقطاع حتى أوائل القرن السادس للهجرة، وهو الزمن الذي خضعت فيه للسيطرة الصليبية (503 هـ -.۱۱۱ م).

كان الاحتلال الصليبي يستهدف إزالة التراث الإسلامي، وإزالة معالمه من جميع المناطق التي تفشى فيها، وعلى هذا فلقد أصاب بيروت ما أصاب غيرها من القطاعات الصليبية، وانحسر عنها سكانها المسلمون، غير أفراد قلائل قصرت بهم ظروف حياتهم المعاشية وإمكاناتهم المادية دون النزوح من البلد، فلم يجدوا بدا من البقاء تحت ربقة عدوهم الذي حرمهم من الاحتفاظ بمساجدهم.

 فلقد أزال الصليبيون حتى مقامات أوليائهم ونساكهم، ولم يعفوا إلا عن مقام الإمام الأوزاعي بشفاعة من أبناء دينهم نصاری جبل لبنان الذين ذكروا له شفاعته بهم عندما نقضوا عهد الأمان أيام العباسيين.

وحينما استعاد المسلمون بلادهم على يد صلاح الدين الأيوبي لم يعثروا في بيروت على العدد اللازم من أبناء المدينة المسلمين بما يكمل العدد الشرعي لصلاة الجمعة (أقصاه أربعون عند الشافعي) فضلا عن أنهم لم يجدوا المسجد الجامع لأداء هذه الصلاة، مما اضطر السلطان صلاح الدين إلى اتخـاذ كنيسة مار يوحنا التي حولها الصليبيون خلال دفاعهم عن المدينة إلى قلعة عسكرية، وجمع الناس للصلاة فيهـا، واتخذها من حينه مسجدا جامعًا للصلاة. وفي عهد الصليبيين كانت جمهرة السكان في بيروت من النصارى الأوروبيين، ومن والاهم من نصاری جبـل لبنان، الذين انحدروا من قراهم ودساكرهم إلى المدينة، طلبا للعمل في المؤسسات الصليبية من مدنية وعسكرية وانتجاعا للرزق على موائد المحتلين.

 ومع الزمن المتطاول، تكونت من هؤلاء النصارى المحليين والوافدين، مجموعة سكنية اكتسحت المدينة بطابعها الديني المميز. وبعد حوالي تسعين سنة أي عام (583 ه – ۱۱۸۷ م) دار الدهر دورته واستأنف الإسلام وجوده في بيروت، إذ عاد اليها المسلمون متقاطرين من الديار الإسلامية المجاورة بالإضافة إلى الجيوش والحشود التي جاءتها فاتحة بقيادة صلاح الدين الايوبي.

ولقد أدى وجود هذا السلطان المسلم إلى تغيير الوضع الديني في المدينة حتى بين النصارى أنفسهم الذين وجدوا في مروءته وإنسانيته ما حملهم على اعتناق دينه، والانضواء إلى جماعته تحت رايته، ولقد بادر صلاح الدين إلى انتهــاج خطة تهدف إلى المحافظة على مكاسبه العسكرية، وذلك بإنزال عدد كبير من أبناء جنسه الأكراد في مناطق حكمه، ومنها بيروت، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة عدد المسلمين في هذه المدينة، وما يزال عدد من هؤلاء موجودا في أنحاء متفرقة من بلادنا حتى اليوم، لا سيما في قضاء الكورة من شمال لبنان ويعرفون بالأكـراد الأيوبية.

 على أن هذا الوجود الإسلامي في بيروت لم يقيض له الاستمرار طويلا، إذ أنه تلاشى مرة ثانية بعد أن تركز حوالي عشر سنوات، وذلك بسبب استرجاع الصليبيين للمدينة على أثر وفاة صلاح الدين، هذه الوفاة التي كانت كارثة بما أعقبهـا من اضطراب السلطة الإسلامية في البلاد، لتنافس خلفاء هـذا السلطان المجاهد على الحكم، واجتماع كلمة الصليبيين على انتهاز الفرصة، والوثوب على القواعد الإسلامية واسترجاعها واحدة بعـد أخرى من يد حكامها المسلمين المتفرقين. وفي هذه المرة نزل بمسلمي بيروت ما سبق أن نزل بهم من قبل، فلووا أعناق مطاياهم تاركين مدينتهم إلى غيرها من المدن التي توسلوا العيش فيها محافظين على مصالحهم ودينهم وطمأنينتهم.

بيد أن الخسائر العسكرية التي مني بها الصليبيون على يد صـــلاح الدين وقواد المسلمين الذين جاءوا من بعده تركت فيهم وهنا وضعفا، بحيث لم يتمكنوا من الاستقرار والتمتع بمـزايا الانتصارات العسكرية التي أصابوها، فبقيت قبضتهم على البلاد التي استعادوها بالقوة والقهــر، مشوبة بالاضطراب والقلق. وقد دامت هذه الفترة الصليبية الثانية مع الوجود النصراني ببيروت من سنة 593هـ – 1197 م إلى سنة 690 هـ - 1291 م ففي هذه السنة سلمت بيروت صلحا إلى سـنجر الشجاعي الذي فتحهـا باسم السلطان الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاوون الألفي.

 وبعودة بيروت إلى حوزة الجيوش الإسلامية تحت راية المماليك الذهبية أعاد التاريخ نفسه إذ تنفس المسلمون البيروتيين الصعداء بينما تراجع الوجود النصراني عنهـا مع هزيمة الصليبيين الذين «جهزهم سنجر الشجاعي» إلى دمشق ومنها أنفذهم إلى مصر بأجمعهم.. ولما وصلوا إلى مصر أطلقهم السلطان وقال لهم: «أماني باق عليكم» وخيرهم بين العودة إلى بيروت أو التوجه إلى قبرص، فتوجهوا إلى قبرص بأجمعهم (تاريخ بيروت لصالح ابن يحي ص ۲۸).

 وكان في جملة من تركوا بيروت يومها العديد من النصارى المحليين الذين آثروا مشاركة الصليبيين مصيرهم في قبرص تحت حراسة العمارة الإسلامية التي أقلتهم قطعها البحرية إلى هذه الجزيرة حيث للصليبيين مملكة مستقلة بإمارة اللوزينيان قوامهـا بقايا الأوروبيين الذين خسروا سلطانهم في بلاد الشام.

وما يزال في جزيرة قبرص حتى اليوم طائفة منحدرة من الموارنة الذين أفرد لهم الحـكم الحالي فيها مقعدا نيابيا يشغله واحد منهم في هذه الايام.

وفي أيام المماليك غدت بيروت مدينـة إسلامية من بابها إلى محرابها – كما يقول المثل السائر - وأصبح أهاليها جميعا تقريبا من المسلمين، بينما انصرف عنهـا النصارى الذين لم يرافقوا الصليبيين إلى قبرص وآثروا الإقامة في الجبال المطلة عليها وتكتل هؤلاء في جـــرود كسروان التي تقع إلى الشمال من المدينة، على أن السلطات المملوكية اضطرت فيما بعد إلى مطاردتهم في هذه الجرود، وبناء على فتوى من شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني قام نائب الشام تنكز والقائد جمال أقوش الأفرم بإجلائهم كذلك عن هذه المناطق بسبب كثرة تعدياتهم على الأملاك العامة، وقطعهم السابلة، وفتكهم بمن ينفردون به في بلادهم من عساكر السلطان وعامة المسلمين.

وقد عرفت بيروت في أيام المماليك غزارة ملحوظة من السكان المسلمين، الذين تكاثروا بمن شاركهم في سكناها من العناصر الإسلامية غير العربية، أمثال التركمان، والأكراد والشركس. ذلك بأن الولاة الذين كان ينيبهم السلطان المملوكي بمصر عنه في حكم بـلاد الشام، لاحظوا أن مدينة بيروت ما زالت تستهوي مطامع الصليبيين الذين ذاقوا حلاوة احتلالها قرابة القرنين من الزمان، ووجـد الولاة المذكورون أن سادة المدينة السابقين من الإفرنج لا يفتؤون يتطلعون إلى معاودة النزول فيها من جديد بالتعاون مع أبناء دينهم المحليين لا سيما سكان جبل لبنان المطل عليها، فعملوا على حشد أكبر عدد من المسلمين في أرجائها وفي الأرياف المحيطة بها واختاروا لهذا الغرض عشائر شبه بدوية امتازت بقوة الشكيمة والتقاليد الحربية المتوارثة.

 وهكذا عرفت بيروت - ذلك الوقت - كثرة إسلامية ساحقة من السكان الأصليين، وممن توافد عليهم من هذه العشائر حتى أصبح من المستحيل على الصليبين الإفادة من مغامرات قراصنتهم في البحر، أو نشاط عملائهم في البر. وقد نتج عن الأعمال الاستفزازية التي قام بها هؤلاء وأولئك أن عمدت السلطات الحاكمة إلى تضييق الخناق على من تبقى منهم في بيروت نفسها حتى ضاقوا ذرعا بما آل اليه أمرهم في المدينة، واختاروا أماكن أخرى بعيدة عنها تاركين المجال أمام المسلمين ليبقوا وحدهم سكانا لها.

 والجدير بالذكر أنه ما تزال في ضواحي بيروت إلى جهة الشمال، أمكنة تعرف باسم (الأزواق) أي الأسواق (مثل زوق مكايل)، وزوق مصبح وقد كانت في الأصل معسكرات ينزل فيهـا أفراد تلك العشـائر المسلحة وعائلاتهم. وقد تحولت هذه الأزواق اليوم إلى قرى يسكنها النصارى على المذهب الماروني. وقد اختار الأمير فؤاد شهاب رئيس الجمهورية اللبنانية السابق أحدها مقرا للرئاسة بسبب قربها من جونيه بلدته الأصلية.

 وفي سنة 923 ه – 1545 م عنـدما حل الأتراك العثمانيون محل سلاطين المماليك في الشام ومصر والبلاد العربيـة الأخرى كانت بيروت مدينة إسلامية بمن فيها من السكان والأهالي. ولم ير هؤلاء السادة الجدد بأسا من الاستمرار بالاعتماد على العشائر التـي أنزلها الحكم السابق في المدينة وغيرها من المناطق الاستراتيجية في الساحل، فبقيت بيروت محافظة على مظهرها الإسلامي بصفة عامة إلا أن النصارى كانوا يتسربون إليهـا بأعداد قليلة في أزمان متفاوتة، دون أن يجدوا حرجا من الدولة العثمانية التي كانت تغض الطرف عنهم، رغبة في استصناعهم.

وفي هذه الأثناء أتيح للنصارى أن يشيدوا بعض الكنائس الصغيرة لممارسة طقوسهم الدينيـة لا سيما خارج أسوار المدينة القديمة.

 بيد أن قبضة السلطة العثمانية الإسلامية، كانت تضطر للتراخي في بعض الظروف بسبب متاعبها العسكرية مع الدول الأوروبية، الأمر الذي جعل النصارى في جبل لبنان يتوقون إلى توسيع نطاق نفوذهم في المدينة. فكانوا ينتهزون أي مناسبة عابرة تكون فيها الدولة مضطرة لمسايرة الأوروبيين أو مهـادنتهم ويعملون على توسيع مجـالات سـكناهم في بيروت وإنشـاء مؤسسـاتهم الدينيـة حتى استفحل أمرهم فيها أخيرا وكادوا يصبحون الكثرة الغالبة من سكانها، حتى إذا بـدأ النصف الثاني من القرن الثامن عشر للميلاد وجد البيروتيون أنفسهم وقد أصبحوا تحت حكم الأمير يوسف الشهابي المتنصر الذي اتخذ من بني ملته وجلدته بطانة له وأنصارا لحكمه، وشرع أمامهم أبواب المدينة ليأخذوا بناصية الأمر فيها، ويتحكموا بمقدراتها ويهيمنوا على مصيرها.

وفي هذه الأثناء حدث تحول لم يكن في حسبان أحد، إذ عرفت سورية حاكما بشناقياً عنيدا ظهر في ميدان السياسة المحلية تحت شعار عودة الإسلام والمسلمين إلى بيروت بمختلف الوسائل والأساليب، هذا الحاكم هو أحمد باشا المعروف بالجزار. ومن الطريف أن هذا الحاكم المتحمس لصهر بیروت بالبوتقة الإسلامية عمرانا وسكانا، لم يكن في الأصل إلا غلاما نصرانيا من بلاد البوسنة، هجر بلاده على أثر اختلافه مـع أخيه لأسباب عائلية كي يبيع نفسه رقيقا، لنخاس يهودي من إسطنبول، وهذا نصحه باعتناق الإسلام ليروج سوقه، ويتضاعف ثمنه، وهذا ما حدث بالفعل ثم تطورت الأيام، وإذا بهذا الغلام النصراني عندما بلغ أريكة الحكم على ولاية سورية يصبح أشد نكالا على النصارى من أي حاكم سبقه في أي عهد من العهود.

في أيام هـذا الحاكم عرفت بیروت مدا إسلاميا مركزا، كما عرفت بمقابل ذلك جزرا نصرانيا واضحا وأصبحت هذه المدينة المسورة لا تضم داخل أبوابها المصفحة بالحديد إلا المسلمين تقريبا بينما ارتد عنها النصارى لائذين بأكناف الجبل متربصين للعودة إليها في الوقت المناسب، ولقد بلغ من قلة عدد هؤلاء في المناسب، ولقد بلغ من قلة عدد هؤلاء في المدينة أنهم اشتركوا ـ- كاثوليكا وروما أرثوذكس - في كنيسة واحدة على خلاف ما تسمح به طقوسهم المذهبية المتناقضة في هذا الصدد.

 وبقي الحال كذلك بالنسبة للمسلمين والنصارى في المدينة حتى جاء الوقت المناسب لهؤلاء الأخيرين وذلك حينما حل الحين بالجزار نفسه، فتنفسوا الصعداء وانطلقت قرائـح شعرائهم تردد القول بشماتة لا تخفى منهـا ملامح الحقد الذميم.

 

  لله درك يا منون فقـــــد بدت

                          منك الحيـاة وطاب حكمك واعتدل

فاز الأنـام وأرخـوه بمقصـد

                     هلك الشقي وإلى جهنم قد رحـل

 

وأما أهل بيروت فلقد وقع عليهم موت الجزار كمثل الصاعقة القاتلة، وراح شاعرهم يصور مشاعرهم في هذه المناسبة الأليمـة بقوله

يا أيهـا الجزار أعناق العدى

يا من هـوى السادات والأمجـاد

هم أهـل بيروت الذيـن تزينت

منهم بدر عطائك الاجياد

وملكتهم وودادهم لك صادق

ما أن لهم فيمن سواك وداد

لا نقص فيه ولست فيه مشاركا

بل فيـك دومـا لم يـزل يزداد

ولقد خدمتـك مادحــا بقصيدة

ومديح مثلك في الانـام رشـــاد

وبعد موت الجزار بزمن قليل أخذ الوضع الديني في بيروت يتجه لصالح الوجـود النصراني على حساب الوجود الإسلامي، حتى إذا كانت سنة 1831 تطامنت أسـوار المدينة تحت وطأة فاتحها إبراهيم باشا المصري ابن عزیز مصر محمد على باشا الأرناؤوطي. فقد دخلها إبراهيم بعد أن كسر بقوة جيشه أبوابها المصفحة، ثم بادر فورا إلى إباحة سكناها للنصارى، بتشجيع من الدولة الفرنسية التي كانت وراء حملته على سورية، فتدفق هؤلاء إليها منحدرين من قنن لبنــان وسفوحه بلهفة وشوق دون أي عائق أو مانع، متخذين من حنـا البحري الذي استخلصـه إبراهيم باشا لمشورته مفتاحا لقلب القـائد وقلب المدينة في آن واحد، وما كادت سنوات القرن الثامن عشر تشارف نهايتها وسنوات القرن التاسع عشر تواجه بدايتها حتى أصبح سكان بيروت يتقاسمهم الدينان الإسلامي والنصراني. وعندما أجبر إبراهيم باشا على الجلاء عن المدينة في تراجعه عن سائر فتوحاته بسورية والأناضول، كانت الدول الغربية تمسـك بزمام المبادرة في السياسة العثمانية، وتوجهها وفق وصية القائد الصليبي لويس التاسع الذي لاقا حتفه في تونس خلال آخر حملة صليبية ضد الإسلام والعرب. وكانت وصيته تقضي بإبعاد المسلمين عن الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط الذي حولته الفتوحات الإسلامية إلى (بحر العرب) بعد أن كان يسمى قبلا «بحر الروم». وعلى هذا فإن ظاهرة تهافت النصارى على دخول بیروت وسكناها لم تكن عادية ولا عفوية بل إنها جاءت نتيجة مدروسة لمخطط غربي قديم، تواضع على إعداده وتنفيذه زعمـاء السياسة الأوروبية في حينه، واجتهدوا في افتعال المبررات المحلية لنجاحه على الوجه الذي رسمته لهم من قبل وصية لويس التاسع الذي يلقبونه « بالقديس »، بينما كان ممثلوهم القنصليون في البلاد السورية بدمشق وحلب وبيروت يتعاونون فيما بينهم على تنسيق أعمالهم في هـذا الصدد، وستر أغراضهم الحقيقية بمناورات سياسية، ظاهرها التعاون مع السلطات العثمانية لإقرار الامن وعودة الهدوء إلى البلاد المضطربة بالفتن الطائفية، التي كانوا هم بالفعل من ورائها، وباطنهـا تنظيم هجرة جماعية للعائلات النصرانية من داخل سورية إلى ساحلها المحاذي لجبل لبنان ومن ثم تركيز هذه الهجرة بلباقة وهدوء في بعض قرى الجبل وبصورة خاصة في مدينة بيروت بالذات. وذلك تمهيدا لإقامة كيان من لون طـائفي معين تحكمه بعض العائلات الاقطاعية التي استدرجت بدعايات مختلفة إلى اعتناق هذا اللون، وقد اعتنقت هذه العائلات أو بعضها ما استدرجت اليه بالفعل مما سهل أمام الغربيين تحقيق مراميهم إلى حد كبير. ففي سنة 1840 افتعلت في دمشق فتنة طائفية رعناء بين المسلمين والنصارى بدسائس الانكليز الخبيثة وأدت هذه الفتنة إلى نزوح. كثير من العائلات النصرانية من العاصمة الاموية باتجاه جبل لبنان وبيروت، ثم في سنة 1860 قامت فتنة أخرى أشد نكالا من الاولى، ولكن في جبل لبنان هذه المرة، حيث توزعت الادوار المؤذية بين الانكليز الذين تظاهروا بتأييد الدروز وبين الفرنسيين الذين تظاهروا بتأييد النصارى، وكان من نتيجة هذه الفتنة الثانية أن نفذت المرحلة الثانية من المخططات الغربية القاضية بتهجير الطوائف النصرانية إلى بيروت، ليصبحوا بعد قليل أكثر عددا ونفوذا من أهاليها المسلمين، وذلك تمهيدا لما حصل بعد الحرب العالمية الاولى من قيام دولة لبنان الكبير واتخاذ بيروت عاصمة رسمية لهــذه الدولة. ومنذ ذلك الحين أخذ ميزان القوى السكنية في مدينة بيروت يميل لصالح النصارى الذين كان عددهم يربو يوما بعد يوم، حتى أصبحوا يشكلون غالبية ملحوظة بالنسبة إلى مواطنيهم المسلمين، على أنه بالرغم من أن الغالبية العددية من سكان بيروت كانت نصرانية الا أن هذه المدينة بقيت محتفظة بسماتها الإسلامية على وجه العموم، وكانت كلمة «بيروتي» تعني المسلم البيروتي، وكلمة «جبلي» تعني النصراني اللبناني، ولو أنه من سكان بيروت بالفعل. في تلك الفترة حدثت مضاعفات خارجية كان من شأنها أن تلقى بعض الظلال العارضة على توازن النسبة العددية بين السكان المسلمين و النصارى في المدينة وهذه المضاعفات هي الاحداث العسكرية التي وقعت في شمال أفريقيا وأدت إلى احتلال فرنسا للجزائر سنة 1832 ثم فرضها الحماية على تونس سنة 1881 فلقد أحدث نزول فرنسا المتعاقب في أرض هاتين الدولتين الإسلاميتين موجة من الذعر والاضطراب في نفوس كل من الجزائريين و التونسيين مما حدا بكثير منهم إلى مغادرة وطنهم باتجاه الشرق، ليكونوا في حمى دولة الخلافة الإسلامية التي كان يمثلها آل عثمان في إسطنبول :: ولقد اختار هؤلاء بلاد الشام دار هجرة لهم، فاستقروا بدمشق حول زعيمهم الامير عبد القـادر الجزائري الذي اختارها لمقامه، غير أن عددا منهم أثر البقـاء في بيروت، إلى جانب اخوانهم المسلمين فيها، وكما فعل الجزائريون فعل النــازحون التونسيون من بعدهم، وما تزال أسماء « الجزائري والمغربي » سمة على العديد من أهل بيروت حتى اليوم. الا أن كمية هؤلاء الذين استقروا في بيروت لم تكن بالدرجة التي تؤدي إلى تجاوز عدد مسلمي البلد على نصاراها، اذ أن هؤلاء بقوا محافظين على تفوقهم العددي على مواطنيهم المسلمين وكما حدث في غضون القرن الماضي بالنسبة للجزائر وتونس فان هجرة إسلامية أخـرى.

وصلت موجاتها البشرية إلى بيروت قادمة من بلاد المغرب ( مراكش ) عند سقوطها بيد فرنسا سنة 1912 ومن بلاد طرابلس الغرب عنـد احتلالها من قبل الطليان سنة 1911، وعلى الجملة كان عدد النازحين من شمال أفريقيا العربية إلى بيروت في تزايد مستمر باستمرار الوجود الفرنسي هنالك، وهؤلاء النازحون كانوا يشكلون في أواخر العهد العثماني جالية موفورة العدد ببيروت حتى أن هذه المدينة كانت تحتوى على مقبرة خاصة بهم باسم « مقبرة المغاربة » وكان مكانها في نفس المكان الذي تقوم عليه بناية المقاصد الخيرية الإسلامية التي فيها سينما ريفولي اليوم شمالي ساحة الشهداء. ولقد كان من بين المهاجرين إلى بيروت فضلا عن المغاربة، مسلمون من مختلف البلدان والجنسيات وهؤلاء كانوا يتركون ديارهم التي تقع في أيدي الاجانب في أعقاب تخلى الدولة العثمانية عنها بالحرب أو المساومة كما حصل في جزيرة كريت وكما حصل كذلك في مصر التي منيت بالاحتلال الانكليزي بحجة حماية عرش الخديوي من ثورة أحمد عرابي باشا سنة ۱۸۸۲، وكثيرا ما نجد بين العائلات البيروتية المعاصرة أسماء المصري والفيومي والدمياطي والدسوقي نسبة إلى المدن المصرية التي قدموا منها، منفيين أو طائعين. ولقد ترك لنا أحـد هؤلاء المصريين وهو الشيخ محمد عبد الجواد القابا في مذكراته التي دونها أثناء اقامته في بيروت وذكر فيهـا أن البلد في زمانه كانت تشتمل على نحو ثمانين الفا من النصارى ونحو عشرين ألفـا من المسلمين، ومع ذلك فان معاملة النصـاري لأهل الإسلام كانت معاملة في غاية الادب والتزام التوقير للصغير والكبير لأمرين: الامر الاول وهو الذي عليه المعول، شهامة الطائفة الإسلامية، وشدة غيرتها الدينية مع قلة عددها. والأمر الثاني، مراعاة الحكام للجري على مقتضى القوانين والنظام (نفحة البشام في رحلة الشام ص 26) وفي سنة 1920 أعلن ممثل الاحتلال الفرنسي الجنرال غورو الكيان اللبناني بصفة رسمية تحت اسم دولة لبنان الكبير، وجعلت بیروت عاصمة لهذه الدولة الناشئة. ومن ذلك الوقت انفتحت هذه المدينة عمليا أمام سيل دافق من الهجرات النصرانية تألبت عليها من مختلف الجهات والاجناس، فلقد استقدم الفرنسيون اليها جماعات بشرية كثيفة من السريان والكلدان والاشوريين والارمن الذين تركوا مواطنهم الاصلية تحت وطأة ظروف عسكرية نشأت عن حرب الاستقلال في تركيا، وهيأت لهم سلطات الاحتلال أسباب الاقامة الدائمة، سواء في قلب العاصمة اللبنانية، أو في ضواحيهـا القريبة منها. وبمقابل ذلك، فان الثورة الوطنية التي عمت البلاد السورية ما بين عامي 1934، 1926 ضد الانتداب الفرنسي دفعت عددا من مسلمي دمشق والمدن التي أصابها رشـاش الاضطراب إلى البحث عن أمنهم ومعاشـهم في بيروت، ولكن هؤلاء لم يكونوا من الوفرة بحيث يتأثر بها فريق دون آخر في المدينة، على أن بعض السياسيين اللبنانيين كانوا يعيشون في جو عقدة نفسية بالنسبة للتوازن الطائفي في البلد، ومن هؤلاء الرئيس أميل أده الذي ما أن تسلم رئاسة الجمهورية اللبنانية حتى صرف كل همه لإقناع نصاری جبل لبنان بالتوجه إلى بيروت، والاقامة الدائمة فيها، واتخذ من المركزية الادارية في العاصمة وسيلة غير مباشرة لاستدراجهم إلى تحقيق هذه الغاية التي لم تكن في الواقع الا استمرارا للسياسـة الغربية التي تقضي بجعل بيروت مجموعـة متنافرة من الطوائف والاجناس، کیلا تتحـد كلمة الشعب في رأي عام منسجم ضد أغراضها الاستعمارية التاريخية واذا نحن تابعنا مجرى تطور الاحداث في الشرق العربي خلال بداية النصف الثاني من القرن العشرين للميلاد فانه يتبين لنا أن الاحصاءات الطائفية في مدينة بيروت خضعت لتقلبات تتراوح بين صالح النسبة الإسلامية وبين صالح النسبة النصرانية فعندما وقع الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي في مصر سنة 1952 بادر غالب المصريين الذين تحدروا من أصـل لبناني، ويكادون يكونون جميعا من النصاري، بادر هؤلاء إلى مغادرة مصر إلى بيروت حيث منحتهم السلطات اللبنانية الجنسية اللبنانية على أساس أنهم يستردون جنسيتهم الاصلية، قبل أن يغادر أباؤهم لبنان إلى مصر، للعمل في خدمة الدوائر الانكليزية التي كانت تحتـاج إليهم كتراجمة وموظفين في دوائر الاستعلامات، أو في الدوائر التي لا تطمئن الي وجود أبناء البلد المصريين فيها. وعدد هؤلاء المتمصرين العائدين إلى بيروت يتجاوز عشرات الالوف، وقد أصبحوا عمليا من أهالي بيروت وسكانها، لهم نفس الحقوق التي لهؤلاء، وعليهم نفس الواجبات. ثم أنه عندما انتقل النظام المصري إلى سورية بسبب اندغام البلدين في وحدة سياسية تامة تكررت نفس الظاهرة، ولكنها هذه المرة كانت تحمل في تضاعيفهـا مزيجا إسلاميا نصرانيا من الافراد الذين وجدوا في النظام الاقتصادي اللبنـاني الحر متنفسا لنشاطهم المالي الذي لم يعد يجد له متسعا في البلاد السورية التي وضعتها الوحدة مع مصر في إطار التجربة الاشتراكية للاقتصاد الموجه. وإذا انتهينا إلى واقع بيروت في الوقت الحاضر فإننا نلاحظ بأن السياسات الغربيـة المتلاحقة قد أفلحت إلى حد كبير في ابراز هذه المدينة على النحو الذي يتفق ومخططاتهـا القديمة، اذ أن نسبة سكانها المسلمين إلى مواطنيهم النصارى لا تكاد تتجاوز الثلث وهذا يبدو جليا من خلال توزيع المقاعد النيابية حسب جداول الناخبين البيروتيين. أما من الناحية العملية فان هذه النسبة لا تمثل الواقع العملي، لا سيما بعد الاحداث الفاجعة التي وقعت بفلسطين سنة 1948 هذه الأحداث التي اقتلعت عشرات الالوف من أبناء البلاد المقدسة، وجعلتهم لاجئين في بيروت ينتظرون مصيرهم المجهول داخل مخيمـات البؤس والشقاء المبثوثة في العراء محرومين من كل وسائل الحياة الانسانية الكريمة في المدينة التي تضـاهي ببذخها وترفها أرفـع المستويات الحضارية في العالم أما بعد، فانه أيا ما كانت الارقام التي تمثل عدد المسلمين أو عدد النصارى في بيروت فان هؤلاء وأولئك يعيشون بعضهم الي جانب بعض تحت لواء وارف من الاخوة الوطنيـة الصادقة التي تشدهم في عروة وثقى من حب مدينتهم والاخلاص لرقيها وازدهارها وتطورها.