الإسلام والتمييز العنصري (1)مقالات

الشيخ أحمد العجوز

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي – السنة الثالثة – العدد الخامس والثلاثون – غرة ذي القعدة سنة1387 ه – يناير سنة 1968 م – (ص 55 – 59).

 

الشيخ أحمد العجوز — لبنان

 

قرر الإسلام مبدأ المساواة بين الناس، وأعلن أنهم سواسية كأسنـان المشط على اختلاف، ألوانهم وأجناسهم، وقضى على النظام العنصري والأساس الطبقي، وجعل التفاضل بينهم على درجات التقوى، والكفاءات العلمية، وما يقوم به الإنسان من أعمال صالحة، وما يقدمه من خدمات طيبة نافعة. فجميع الناس في نظر الإسلام إخوان على سواء، نشأوا من أصل واحد، من أب واحد، ومن أم واحدة، هما آدم وحواء، فلا تفاضل بينهم في حقيقتهم الإنسانية، فالإنسان الأبيض لا يفضل أخاه الأسمر أو الاسود ببياضـه، ولا يمتاز عنه بعنصره، فلون البشرة ليس من الفوارق بينهما في شيء ما دامت الحقيقة الإنسانية واحدة، فلا تختلف في أفرادها بما يلابسها من أعراض لونية، واصطبا غات اقليمية.

أسباب اختلاف اللون:

ولقد كان اللون واحدا في الأصل في جميع الأفراد، لا يتفاوت الناس فيه، وبانتشار هم في أنحاء الأرض وأرجائها، أثرت فيهم أجواؤها المتباينة، وطبائعها المختلفة من حرارة، وبرودة، وجفاف، و رطوبة وغذاء، وماء، وما يتبع ذلك من صفاء الجو وشفافيتـه، وتلبده بالضباب والغيوم واختلاف الهواء باختلاف المناطق، وتباين الضغط الجوي، ونحو ذلك فكان التفاعل بين هذه العوامل، وبين حساسية  جلد البدن، على تقادم العهد الطويل، ومرور الزمن المديد، فأكسبه اللون الذي يناسب محيط هذه العوامل، ومن ثم اختلفت ألوان البشرة من البياض الناصع إلى الصفرة إلى السمرة، إلى الحمرة إلى السواد. ولئن اختلفت بذلك ألوانهم، فان حقيقتهم لم تختلف، فإنها واحدة ومن طينة واحدة، وذات طبيعة واحدة.

لا تفاضل باللون:

لا تفاضل باللون، ولا تمايز فيه، ففضل الإنسان إنما هو بمفاخره لا بمظاهره، وبأعماله لا بأموالـه وبإحسانه لا بألوانه، لذلك قد يفضل الملون بالسمرة أو السواد كثيرا من إخوانه البيض بصلاح دينه، وكرم خلقه، وحسن علمه، وطيب نشأته وسعة علمه، وصدق خدمته.

وقد يلاقي الإنسان الأبيض من إخوانه البيض تعبا وعناء، واضطهادا وإيذاء، وقد يكون أخوه الأسمر أرحم منهم وأعطف. وأرق قلبا والطف. فذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه أول ظهور الإسلام، لاقوا من قومهم ومن عشائرهم كثيرا من المقاومة والاضطهاد، ومن الظلم والايذاء، ولا ذنب لهم الا أن آمنوا بربهم الذي خلق السنوات والأرض، ولما اشتد بهم الإيذاء قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق. حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه).

فهاجر إليها عشرة رجال وخمس نسوة في السنة الخامسة للنبوة، فأقاموا فيها آمنين على أنفسهم، بعيدين عن أذى قومهم.

والأحباش هم سمر اللون، وقد فضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك لإنسانيتهم، وحسن معاشرتهم، وعدالتهم، وما هم عليه من الإيمان بالله ووحدانية، والخضوع إليه، ولما اتفقت قريش على مقاطعة بني هاشم، وبني المطلب، والتضييق عليهم، ودخل بنو هاشم، وبنو المطلب شعب أبي طالب ما عدا أبا لهب، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جميع المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ليساعد بعضهم بعضا على الاغتراب.

فهاجر أكثرهم، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلا، وثماني عشرة امرأة، ولحق بهم الذين أسلموا من ناحية اليمن. فكان الاحباش السمر خير ملجأ لهم.

وحينما أرسلت قريش وفدا إلى ملك الحبشة، ليرد إليهم هؤلاء المسلمين المهاجرين، رد الوفد على أعقابه عندما عرف صدق إسلامهم، وأبقاهم في حمايته. وأحسن معاشرتهم، وقد وفد على الرسول صلى الله علي وسلم وفد حبشي بعد فتح مكة فقام يخدمه بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك، قال: أنهم كانوا لأصحابي مكرمين وانني أحب أكافئهم “.

 

مقاومة الإسلام للتميز العنصري:

كان التمييز العنصري عند أكثر الامم، وكان أكثر ما يسترقون ويستعبدون من الملونين، فكانوا يعاملونهم أسوأ معاملة ويتخذونهم سلعا تباع وتشرى، وإذا أساء أحدهم عذبوه بالضرب أو بقطع الأذن أو بجعل النار في فمه، أو بالقتل، من غير رأفة ولا رحمة، ولا يؤاخذ المجرم على اجرامه.

فجاء الإسلام بالخير والرحمة، والشفقة والرأفة، والعدالة والمساواة، وأعلن الوحدة الإنسانية وتكافؤ جميع أبنائها، في حقوق الحياة، وأنكر التمييز العنصري، وعده جريمة نكراء، وعامل جميع الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم معاملة واحدة، في التكليف والقضاء، وفي حقوق الحياة، وصان حريتهم وكرامتهم، وراعى حرمتهم، ومواهبهم الفطرية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب).

فوجد أولئك الأرقاء المعذبون أن الإسلام الذي هو دين الحق، هـو سبيل النجاة والسعادة، وهو منطلق الحرية والعدالة، وهو الصراط السوي الذي يلاقى المؤمن به رضاء الله، ويفوز بنعيم الدنيا، وسعادة الآخرة، فطفقوا يدخلون في دين الله، مستلذين التعذيب في سبيله مؤثرين فيه حياة التقشف والخشونة والفقر والقلة على ما كان عليه أسيادهم من نعمة ورخاء ومتعة.

والرسول صلى الله عليه وسلم يحث كل من يملك أرقاء على حسن معاملتهم وعلى عتقهم وتحريرهم ويقول: (إخوانكم خولكـم ) - أي خدمكم -؛ جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس). ويقول: (أيما أمرئ مسلم أعتق امرأً مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار).

ولأبي داود من حديث كعب بن مرة رضي الله عنه: (وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار).

‏وقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمكة، فرأى العبيد وقوفا لا يأكلون مع ساداتهم، فغضب، وقال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟! ثم دعا الخدم، فأكلوا مع السادة في جفان واحدة. وقد بلغ من عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبيد السود، والمحافظة على كرامتهم، واخوتهـم الإنسانية أن كان لعبد الله بن رواحة راعية تتعهد غنمه، وهي عبدة مملوكة له، فعدا الذئب على واحدة منها فأكلها، فجاء عبد الله يبحث الغنم، فلم يجد الشاة، فأخبرت الراعية بأمرها، فلطمها على وجهها، ثم ندم على ما وقع منه وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما فعل بجاريتـه، فاشتد بالرسول صلى الله عليه وسلم الغضب، حتى احمر وجهه، وهاب أصحابه أن يكلموه، ووقف عبد الله واجما لا يتحرك، ثم قال عليه الصلاة والسلام عند ذلك: (وما عسى أن تفعل الصبية بالذئب؟ وما عسى تفعل الصبية بالذئب؟) وما زال يكررها ثم قال: (إن خدمكم اخوانكم جعل الله لكم الولاية عليهم).

فلم يجد عبد الله بن رواحة مخرجا مما وقع فيه إلا بعتق جاريته التي لطمها فأعتقها.

وكان قد اختلف في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أبو ذر الغفاري وبلال، فاحتد عليه أبو ذر وقال له: يا أبن السوداء، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم منه ذلك، فأخذه الغضب الشديد، وقال (طف الصاع، طف الصاع لیس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح) فوضع أبو ذر خده على الأرض، وقال لبلال: قم فطأ عليه.