المصدر: مجلة البعثة – العدد: 1 – 2 - بتاريخ: 1 يناير 1953 – (ص13 – 14).
بقلم: عبد اللطيف الصالح
مهما بلغ الإنسان من نفاذ بصيرة، وسداد في الرأي، واتساع في أفق الثقافة مع امتداد الزمن وتنوع الحضارة ورقيها، فلن يصل في أحكامه ونظمه إلى ما وصل إليه الدين الإسلامي، من أنظمة وقوانين فيها الخير والطمأنينة للبشرية، ومهما حاول بنو الإنسان في هذا العصر من إبداع تشريعات، ووضع أنظمة تكفل الدعة، وتجلب الخير، وتقيم العدالة. فلن يبلغوا شيئاً مما بلغه الدين الإسلامي في إقامة رواق السعادة على أسس من الفضيلة والتشريع المستقيم. سوف يقول بعض من الناس أن هذا رأي بدافع العصبية الدينية، والرجعية والجمود، وجوابي على ذاك، نعم الرجعية التي فيها حفاظ المروءة، وملاك الأخلاق، وحبذا جمود فيه إبقاء على ما يعمر النفس من خلال تسمو بها عن الدنايا والصغائر، وتجعلها تشعر بالعزة والرفعة، حبذا عصبية تعود بنا إلى ما ضيعنا من تراث خلقي، على أساسه قامت تلك الحضارة الزاهية، وأشرقت صفحات ذلك التاريخ، الذي به نفاخر، وبها تتغنى الأجيال.
إن هذه القوانين المدنية، والتي من نتاج حضارة الغرب هي التي جعلتنا نشكو كثيراً من أمراضنا الاجتماعية، وأورثتنا ذلك الضعف الخلقي عند الفرد والأسرة والطبقات، مما جعلنا ننكر أن شريعتنا تحمل إلينا أنظمة فيها صلاح أمرنا وقوام سعادتنا، وقد لقنا ذلك عن كتاب الغرب لظنهم أن الدين الإسلامي دين « لاهوتي » جاء للعبادة فقط، فهو لا يتجاوزها في غاياته ومراميه، ولا يتصل بالحياة ومرافقها، رموه بذلك لجهلهم حقائق الإسلام ومبادئه ولأن معلوماتهم لم تنبع من منابع التشريع واللغة، فهي لا تتصل بجوهر الدين وأسسه السليمة، وقد أدخلوا في قلوب كثير من ناشئتنا مثل هذا، فاختلط عليهم الأمر، وأصبحوا يرون أن العودة إلى الدين معناها الرجوع إلى الجاهلية الأولى، في جهلها وشقاوتها وبعدها عن معالم الحضارة، ولا ريب أن هذا تجن على الحقيقة، وابتعاد عن الصراط السوي، لأن الدين الإسلامي في جميع نظمه وتشريعاته، يهدف إلى خير الإنسانية ورخائها، ويعمل على إسعاد الفرد، ودفعه إلى معترك الحياة مزوداً، بسلاح من الثقة والاعتماد على النفس، وسلاح العلم الصحيح، وهل من دليل على هذا بعد قوله تعالى : « وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله » وقوله تعالى : « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم... » والإعداد الحربي يتطلب معرفة أنواعه وقواعده وطرقه، وفي ذلك دعوة من الإسلام إلى حذق أنواع من العلوم لا حصر لها، تدخل ضمن هذا القول المحكم، في ذلك نداء الأمة الإسلامية حتى تزحف على اختلاف طبقاتها نحو العلم والحضارة النافعة والمدنية الصحيحة، والتي تقوم على الفضائل وسمو الأخلاق والغايات النبيلة. هذه القوانين المدنية التي ولدتها الحضارة الحديثة، وأخذنا بألفاظها المعسولة، أيوجد فيها ما يعالج أخطر الأمراض الاجتماعية، وأفتكها؟ ألا وهو الفقر كما عالجه الإسلام في أنظمته وأساليبه.
نقبوا أيها القراء في مواد القوانين الحديثة، وبين جملها وكلماتها، قديمة كانت أو حديثة، لدى أي أمة، شرقية كانت أو غربية، نقبوا فهل تجدون طرقاً واضحة، وأدوية فيها البرء من هذا الداء الوبيل، كما صنع الإسلام. فإن قلتم من مواد القوانين المدنية، تحديد الملكية، والحيلولة دون تضخم الثروة والضمان الاجتماعي وفي ذلك دواء ووقاية من الفقر، قلت لم تأتوا بشيء من تلكم القوانين الحديثة، لأن تلك النظم ليست بخارجة عن دائرة الإسلام ولا متجاوزة تشريعاته، وإنما أوجدها قبل أن يفكر فيها فلاسفة الغرب وقادته، وعمل بها المسلمون في عصورهم الأولى أيام كانوا يقفون عند حدود الشرع، ويفقهون غاياته ومراميه، ويدركون أسرار التشريع. فقد عالج الإسلام الفقر علاجاً يستأصل جذوره وشأفته من بين الطبقات، وما عمله الإسلام في هذا شبيه بعملية جراحية، تؤدي إلى بتر ما أفسده المرض، واستعصى دواؤه، وبذلك خالف القوانين الحديثة التي تسكن هذا المرض، دون أن تقتل جرثومته، بل تعالجه بما يشبه المخدرات ليستريح الجسم مدة، فلا يلبث حتى يراجعه المرض ثانية بظهور بثوره في جميع أنحاء الجسم. جعل الإسلام علاج الفقر دائماً ومعداً، نظراً لخطورته الاجتماعية، وتعرض الأمة للإصابة بجرثومته بين الفترة والفترة، فأوجب الزكاة في أشياء متعددة من النقدين، وعروض التجارة والأنعام والحبوب، وألزم أرباب هذه الأموال إخراج نصيب للفقراء، وإعطاؤهم ذلك النصيب من أنواع كثيرة يجعل الدواء متواصلا ومستمراً، فلا يكاد ينتهى نوع حتى يكون الآخر وهكذا دواليك، على أن بعض الأئمة يرى أن تكون الزكاة في الحبوب كلها وما تخرجه الأرض من ثمار، وفي ذلك من التوسعة وتدفق الأموال على الفقراء ما فيه غنى وكفاية، وشفاء لما في الصدور. ولو عمل المسلمون بهذا الصوت الإلهي في كل بلد وكل قطر لما وجد فقر ولا فقراء، على أن الإسلام احتاط للأمر وأبعد في تقدير المستقبل وما تخفيه الأيام فأوجد باب الصدقة والإحسان، حيث رغب في ذلك وحث عليه وحبب عمله للنفوس في حالات كثيرة، وأوضاع متنوعة، وصور بهيجة، في القرآن الكريم والسنة النبوية كقوله تعالى : « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة... » فهذا جدول بجانب ذلك التشريع العريض الواسع من أمر الزكاة يمده ويساعده إن ضاق بمجابهة المرض وعجز عن القضاء عليه ولحرص الإسلام على إبادة جرثومة هذا المرض من بين الطبقات في الهيئة الاجتماعية، لم يقف عند تلك التشريعات والاتجاهات، بل أباح لمن يتولى أمر المسلمين، ويقوم على تصريف شئونهم، ويتولى رعايتهم، إن داهمت المسلمين جموع الأعداء أن يجند لتلك الجموع، ويحشد لها من العتاد ما يرد به عاديتها ويكسر شوكتها، وليس العدو المحارب بأشد خطراً من عدو اجتماعي كالفقر والعوز، فيباح للحاكم المسلم أن يأخذ من الأموال « زيادة عن الزكاة » ما يرى ضرورته لهذا العدو المهاجم حتى يقيم في وجهه السدود والقلاع، وينصب في طريقه الشباك، ويبث المتفجرات، وذلك بالمشروعات المتنوعة من صحية وعلمية، وفي هذا القضاء المبرم عليه، وأعني بالتحصينات والقلاع مشروعات الخير والبر بأنواعه وطرقه، أو هو الضمان الاجتماعي في صوره وحالاته المعروفة.
هذه طرق ثلاث أوجدها الإسلام للسير عليها، نحو أقبح مرض اجتماعي تخشاه الأمم في وقتنا الحاضر، بل ثلاثة أنواع من الأسلحة تشهر في وجهه معا إن استعصى علاجه بنوع واحد، على أن الإسلام أوجب على اليد العاملة السعي والعمل وحارب البطالة حتى لا تكون طبقات عاطلة بين المجتمع الإسلامي. فالعيب ليس في حقيقة الإسلام ومبادئه وتشريعاته وعدم صلاحيتها، وإنما العيب في المسلمين الذين يتجاهلون حقائقه، ويتعامون عن نصوصه، وأنت أيها القارئ الكريم مهما حاولت أن تظفر بنظام وقانون في دنيا بني الإنسان، يحارب هذا المرض، فلن تجد أمامك غير قوانين الإسلام وسيلة. ومن أصدق من الله قيلا؟
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.