مالي بلد الجمال المنسيمقالات

مجلة الكوثر

المصدر: مجلة الكوثر، العدد 16، السنة الثانية، ذو القعدة - ذو الحجة 1421هـ.

 

في الساعة السابعة صباحًا تستيقظ باماكو عاصمة مالي بينما لا تزال الشوارع هادئة، في مقهى محطة القطار الرئيسية، يدفع باعة المشروبات عرباتهم المليئة بأنواع المشروبات المختلفة والآيس كريم، وقد كان هذا المقهى أحد مراكز الحياة الاجتماعية في باماكو أيام الاستعمار الفرنسي.. غير أن دخوله كان محظورًا على المواطنين المحليين، وطوال ساعتين، كانت محطة القطار خلية نحل، السماسرة كانوا يملؤون المكان يعرضون خدماتهم على الركاب، أحدهم يعرض عليك شراء تذكرة القطار وآخر يساعدك في حمل حقائبك وإرشادك إلى مقعدك، وطوال المائة عام الماضية، كان زورق الأرض المعدني هو الاسم الذي يطلقه أبناء مالي على القطار، يقطع كل يوم مسافة الثلاثمائة كيلو متر التي تفصل بين باماكو العاصمة وكايس العاصمة القديمة للسودان الفرنسي (وهو الاسم الذي كان يطلق على مالي إبان الاستعمار الفرنسي).

طبيعة قاسية:

وتبدو مالي على الخارطة كفراشة منبسطة غير متساوية الجانبين، وهي تغطي مساحة أكبر من جنوب إفريقيا (تحديدًا 1240192 كيلو مترًا مربعًا)، غير أن تعداد سكانها يتجاوز بالكاد العشرة ملايين نسمة، وتعتبر مالي من أفقر بلدان كوكبنا، ولا يعود هذا إلى المعضلة الإفريقية النمطية المتمثلة في عدم الاستقرار وسوء الإدارة، بل ببساطة لأن أرضها مكان يصعب جدًا العيش فيه. فهي بلد مقفل، أي لا يطل على بحار أو محيطات والطبيعة فيها شديدة القسوة، حيث تعاني معظم أجزاء العام من الجفاف وارتفاع درجة الحرارة، ومن المعروف أن 65 في المائة من أرضها صحراء أو شبه صحراء.

والطريف أن أبناء مالي على العكس تمامًا من طبيعة أرضهم القاسية الجرداء التي تذروها الرياح، هم من أكثر شعوب الأرض احتفاء بالألوان، وعمارتهم التقليدية تظهر اهتمامًا بالجماليات بشكل يندر في إفريقيا المعاصرة.

وربما تبدو مالي اليوم مستكينة في عالم النسيان، فجاذبيتها شديدة الخصوصية على نحو لا يفهمه كثيرون، وبالتالي لا يداعب خيال القطاع الأكبر من صناعة السياحة العالمية، وسياستها لا تنطوي على ذلك النوع من الدراما الذي يمكن أن يدفع بها إلى احتلال صدارة نشرات الأخبار العالمية.

تاريخ عريق:

ومع ذلك فإن مالي الحالية كانت بين القرنين الخامس والخامس عشر جزءًا من إمبراطوريات محلية قوية متعاقبة، إمبراطوريات الأوجادو، وغانا القديمة، ومالي القديمة والسونغاي، وقد ازدهرت كل هذه الإمبراطوريات على حساب التجارة عبر الصحراء في الذهب، والعاج، وجوزة الكولا والعبيد، وقد وصلت إلى ذروة قوتها في القرن الرابع عشر، حيث لعبت دورًا أساسيًّا في انتشار الإسلام في غربي إفريقيا ويشكل المسلمون أغلبية السكان في مالي اليوم.

على مفترق طريق القوافل إلى موانئ البحر المتوسط وعلى مجرى طريق التجارة النهري عبر نهر النيجر، وبالتالي على محور طرق التجارة القديمة، تقع مدينة تمبكتو الأسطورية، وهر مركز شهير للعلوم الإسلامية وعرفت في الماضي بثرواتها الهائلة.

الطوارق:

يشكل الطوارق 10 في المائة من سكان مالي، ويعتقد على نطاق واسع هنا أنهم من أحفاد البربر وقد عملوا على مدى قرون عديدة، في قيادة القوافل بين تمبكتو وموانئ البحر المتوسط، ومن اليسير جدًّا التعرف على أبناء مالي من الطوارق من اللون الحنطي لبشرتهم وملامحهم العربية البربرية وعباءاتهم الزرقاء المميزة، ويستقر الكثير من الطوارق الآن على حافة الصحراء قرب تمبكتو وكيدال، حيث يعيشون في بيوت أكواخ مصنوعة من الأعشاب الجافة ومفتوحة من أحد الجوانب، حيث طبيعتها المؤقتة تشهد على جذور أصحابها البدوية.

ولقد حرص الطوارق على تعلم العلوم الشرعية وتعليمها، لدرجة أن من بينهم عددًا هم من فحول شعراء العربية، وقد وصلوا إلى درجة أنهم يناقشون أمورهم اليومية بشعر عربي مقفى أحيانًا، أذكر أن أحدهم قبل حوالي خمسين عامًا سئل عن حكم الحج بالطائرة، فأجاب في قصيدة طويلة، وقد رد عليه عدد من الشعراء الآخرين بقصائد أخرى بنفس الوزن والقافية، بل واستمر الشعراء في تناول هذا الموضوع لسنوات طويلة.

وكانت بلدة السوق مركزًا علميًّا مهمًا تخرج منه آلاف العلماء، إلا أنها دمرت مع الأسف إبان الحرب الأهلية التي أسهمت الحكومات السابقة في تأجيجها بين الطوارق والعرب من جانب وبين القبائل الإفريقية من جانب آخر، ومن ثم أهملت المنطقة إهمالًا تامًا، وأصبحت بلا مدارس أو مستشفيات ولا آبار ولا غيرها من مشاريع تنموية، ولقد استغلت المنظمات التنصيرية هذا الوضع في تأجيج الروح القومية بينهم معتمدة في ذلك على طوارق جنوب الجزائر.

ويفخر كثير من الطوارق بانتسابهم إلى آل البيت أو إلى قبائل العرب الكبيرة مما يجعل اعتزازهم وتمسكهم بالإسلام قويًّا في وجه حملات التنصير وإثارة النعرات القبلية.

تراث معماري مميز:

والواقع أن التراث الثقافي المعماري للإمبراطوريات الكبيرة هو الذي جعل من مالي مكانًا ساحرًا، خاصة مساجدها الكثيرة المبنية بالطوب اللبِن والتي تبدو وكأنها نحتت من الأرض ذاتها التي تنتصب عليها.

والعديد من البلدات الصغيرة في مالي يحتوي على نماذج رائعة الجمال من المباني المشيدة بالطوب اللبن، لكن النمط المعماري يصل إلى ذروة روعته في مدينة جنة المسورة، التي تقع على جزيرة صغيرة في أحد روافد نهر النيجر. وقد أعلنت اليونسكو جنة مؤخرًا موقعًا تراثيًّا إنسانيًّا، وهي تزهو بمستوى مذهل من التكامل والانسجام المعماري، فطرقها الضيقة تنتصب على جانبيها بيوت متعددة الطوابق بنيت بأكملها من الخشب والطمي باستخدام تقنيات ورت في القرن الخامس عشر.

ولا يمكن لأي صور أو كلمات أن تعبر بصدق عن التأثير الذي يتركه في النفس مشهد مسجد كونبورو في جنة التي اشتهر أهلها بالتدين ويقوم الأهالي بتجديد طلائه، وهو بناء جميل التداوير، ذو هيكل لا مثيل له في العالم، يتوهج سطحه الخارجي المائل إلى اللون البني تحت شمس الصحراء الحارقة، ويسجل التاريخ أن هذا المسجد الساحر هو أكبر بناء مصنوع من الطوب اللبن في العالم.

وكدليل على أهمية مالي بالنسبة للحضارة الإنسانية، لنا أن نعرف أن اليونسكو لم تكتف فقط بإعلان جنة موقعًا تراثيًّا عالميًّا، بل أضافت إليها موقعين آخرين هما تمبكتو وجرف باندياجارا (أرض الدوغون).