المصدر: قراءات إفريقية - 15/ 4/ 2014م.
أقدم تعليم عرفته إريتريا هو التعليم في «الخلاوي القرآنية»، وتُعد «الخلاوي القرآنية» مَعْـلَماً من معالم التراث الإسلامي في كل المدن الإريترية ذات الوجود الإسلامي المؤثر، فهي إرث ثقافي عريق، ونمط تعليمي تليد، ما زال المسلمون الإريتريون يتوارثونه أباً عن جد، وخلفاً عن سلف، ويلتزمونه أينما حلّوا واستقروا، تعبيراً عن اهتمامهم بالقرآن الكريم، وتعميقاً لانتمائهم الثقافي، وتثبيتاً لهويتهم الإسلامية؛ لذا لا غرابة أن تجعل كل المدن الإريترية من «الخلاوي القرآنية» أول محاضن التنشئة الإسلامية، وأولى خطوات التربية الصحيحة في الاهتمام بالأبناء وتربيتهم على القيم النبيلة، فقد عرفت - صانها الله - عديداً من «الخلاوي القرآنية» التي أشرف عليها وجهاؤها من أهل الفضل والإحسان، وقام بالتعليم فيها مشايخ كرام، مَـنَّ الله عليهم بحفظ كتابه، والسهر على تعليمه وتلقينه، فحازوا بذلك رضوان الله، ثم تقدير المجتمع، وتكريمه إياهم، وذكرهم بخير في حياتهم وبعد مماتهم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
ما من شاب مسلم وُلد في إريتريا ونشأ فيها وإلا وكانت الخلوة أول مكان جلس فيه بين يدي الشيخ، يكتب بأصبعه السبابة على الأرض الحروف الهجائية (أ ب ت ث...)، ثم على اللوح بقلم مَـبْـرِيٍّ من القصب، يغمسه في مداد أسود، يُعرف بالدواة، يُصنع من نفاية دخان الأثافي العالق بـظهر قدور الطبخ، أو بمسحوق أسود يُستخرج من داخل حجر المذياع (بطارية الراديو)، يُخلط معه مقدار من الصمغ العربي، وقطع صغيرة من القماش المهترئ، في وعاء معدني صغير الحجم، أو قنينة حبر، أو ما شاكل ذلك وشابهه.
وأجود أنواع (المداد) وأحسنه ما أبرز الحروف، وحَـسَّـنَ الخطوط، وجمّل السطور، يخط به القارئ ما يمليه عليه الشيخ من آيات الذكر الحكيم على لوحه الخشبي ليحفظها صباحاً، ثم يعرضها على الشيخ من حفظه مساءً، ليأذن له بمحوها غسلاً، والانتقال منها إلى مقطع آخر، وإلا أعاده وألزمه بإتقان حفظها، وهكذا تمضي أيامه حتى يكمل سورة بعد سورة، وجزءاً بعد آخر، إلى أن يختم القرآن الكريم كلّه، ويقيم بذلك حفل ختام، تُسر به الأسرة وتفخر، ويُكرّم فيه الابن والشيخ معاً.
معنى الخلوة:
الخلوة في الأصل من الاختلاء، أي الانفراد في مكان لا مخالطة فيه، ثم صار مصطلحاً يُطلق على المكان الذي يختلي فيه معلم القرآن مع الصبيان بعيداً عن الضوضاء؛ ليعلمهم نطق القرآن وكيفية حفظه على رواية من الروايات المتداولة، في تلقينه وتعليمه، كما هو معروف في السودان، وبعض مناطق إريتريا، ولا سيما مناطق المنخفضات التي هي شديدة التأثر بالأجواء الثقافية في السودان؛ لكون كثير من المشايخ الذين تولوا تعليم القرآن فيها تلقوا تعليمهم القرآني في خلاوي السودان، في شماله وشرقه، من هذه الخلاوي التي قصدها الإريتريون في السودان على سبيل المثال خلوة «أم ضبان» سابقاً، التي حملت لاحقاً اسم «أم ضواً بان» ، وخلوة «أسوت» بشرق السودان، وغالب «الخلاوي القرآنية» في إريتريا عموماً إن لم يكن كلها تُعلّم القرآن على رواية حفص.
نشأة الخلاوي وتطورها:
دخل الإسلام إريتريا منذ هجرة الصحابة رضي الله عنهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة في عام 614م، ثم أخذ الإسلام ينتشر في مختلف الأقاليم، وكانت إريتريا أول موضع تطؤه أقدام الصحابة خارج الجزيرة العربية. أما بعد رجوع الصحابة فلم ينته النزوح من مكة والمدينة، فقد قدم إلى إريتريا بعض الدعاة المسلمين وتزاوجوا مع الإريتريين وتناسلوا وتكاثروا وساهموا في نشر الإسلام، وأقاموا «الخلاوي القرآنية»، وقاموا بدور في نشر اللغة العربية والفقه الإسلامي.
وبعد ذلك كان انتشار الإسلام بواسطة التجار ثم العلماء من أهل البلاد، خصوصاً في العهود التي ساد فيها الجهل وعمّت الأميّة، فكانوا يقيمون الخلاوي لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الدينية وتعليم الناس مبادئ الإسلام.
وبجانب القرآن الكريم كان يتم تعليم اللغة العربية والنحو (ألفية بن مالك) والفقه والحساب، وغير ذلك من العلوم في أمور الدين، في الخلاوي (الكتاتيب) في شرق إريتريا وغربها، وغيرها من المناطق التي يقطنها المسلمون، ثم يشدون الرحال إلى خلاوي شرق السودان مثل خلاوي (الشيخ القرشي)، وشمال السودان والجزيرة في معاهد وخلاوي أم درمان وأم ضواً بان وبربر.. إلخ، وبعد ذلك يسافرون إلى مصر للاستزادة من التعليم في الأزهر الشريف وغيره من مراكز اللغة العربية والدين الإسلامي.
المصطلح الشائع استعماله في إريتريا:
مع أن مصطلح «الخلوة» هو الاسم الغالب إطلاقه على مكان تعليم القرآن في السودان، كما أشرت، إلا أن كلمة «قرآن» هي الكلمة الشائع استعمالها بين أهالي إريتريا في الإشارة إلى الخلاوي القرآنية، وتسمية الإريتريين الخلوة بهذا الاسم «قرآن»؛ لكونها مكاناً لتعلّم قراءة القرآن وحفظه ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: 1 - 2]؛ فاسم المكان جاء من اسم القرآن نفسه.
ولكل قوم مصطلحهم في الإشارة إلى مكان تعلّم القرآن، والمهم في الأمر أن (القرآن) جزء أصيل من ثقافة المجتمع الإريتري المسلم، مثلهم في ذلك مثل بقية الشعوب الإسلامية في العالم من عرب وعجم، الذين اهتموا بالقرآن وتدارسوه وحفظوه عن ظهر قلب، بالرغم من أن بعضهم أعاجم ولكنهم يرتلونه أحسن ترتيل، وإن كان كثير منهم لا يعرف معناه، ومسلمو الحبشة بشكل عام هم من هذه الشعوب التي اهتمت بتعليم أبنائها القرآن؛ على الرغم من قساوة الظروف وتعصّب ملوك الحبشة ضد الإسلام وأهله.
وقد رأى فيهم الحيمي، الذي زار الحبشة في القرن السابع عشر الميلادي مبعوثاً من إمام اليمن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1645م - 1675م) إلى الملك فاسيلداس ملك الحبشة حينها، هذه السيرة الحسنة فدوّنها في كتابه (سيرة الحبشة)، حيث قال: «وصلنا قرية قريبة من مدينة الملك، أهلها كلهم مسلمون، وفيها مسجد، ومكتب لتعليم صبيانهم القرآن، فاستأنسنا بذلك غاية الأنس».
وينادي الإريتريون شيخ الخلوة بـ «سيدنا» أو «شيخنا» أو «أبو شيخنا» إذا ما كان طلاب الخلوة من أبناء الجبرتة، و «أبو» هنا للتعظيم، وإذا كان من تًُعلّم الطلاب امرأة دعوها «شيخايت»، وهو عُرف درج عليه الآباء والأبناء في مخاطبة شيخ الخلوة احتراماً وتقديراً له؛ لكونه حاملاً لكتاب الله ومعلماً إياه، فهو سيد بتسويد القرآن له، أما الطلبة فيسمونهم «درسة» أي الدارسون.
الأب عندما يصطحب ابنه إلى القرآن:
يصطحب الأب ابنه إلى القرآن (الخلاوي) وهو يحمل هموم تربيته على القيم الإسلامية، فـ«القرآن» في حـس الآباء ليس هو محل لتعلُّم القراءة والكتابة فحسب، وإنما هو فوق ذلك بيئة مناسبة لتشكيل سلوك الأبناء وتوجيههم وجهة حسنة، تحفظ حياتهم من الانزلاق في الانحرافات الأخلاقية.
من هنا يطلب الأب أول ما يطلب من الابن حين يأتي به إلى «القرآن» تقبيل يد الشيخ دليلاً على الاحترام والتوقير لمكانة الشيخ، ثم يأخذ الابن مكانه ليبدأ كتابة الحروف الهجائية بأصبعه السبابة على الأرض الرملية، تحت إشراف الشيخ، أو من يوكله الشيخ من كبار طلابه، إن كان هذا الطالب لا علم له بالحروف الهجائية، أو يمسك بلوحه الخشبي ليجلس أمام الشيخ على هيئة جلسة التشهد في الصلاة، وقدّامه دواته، وبيده قلمه، ليكتب ما يُمليه عليه الشيخ من حفظه أو من المصحف.
وليس لحضور «القرآن» لباس رسمي يرتديه طلابه، ولكن المعتاد أن يخيط الأب لابنه قميصاً يُدعى «عراقي» و «سروال» من قماش يُسمى «أبو جديد» لرخصه أولاً، ثم لتحمله تبعات الجلوس على الأرض، وما يتناثر عليه من قطرات الدواة.
وربما قليل من يعرف أن تعلم القرآن قبل الستينيات كان حكراً على الذكور، ثم أصبح بعد الستينيات حقاً مشاعاً للذكور والإناث معاً، وهكذا بدأت الفتاة الإريترية تأخذ مكانها في الخلوة القرآنية أسوة بشقيقها، لكن مع الفصل التام بين الذكور والإناث.
العقوبة في «الخلاوي القرآنية»:
يُعطي الأب لشيخ القرآن كامل الصلاحية في تهذيب ابنه وتأديبه من أول يوم يسلمه فيه، حتى لو اقتضى الأمر ضربه، قائلاً له: «لنا العظم، ولك اللحم»، وبقدر ما تُعطي هذه المقولة الشيخ صلاحية ضرب الابن؛ تضع حداً لهذا الضرب وتقيده، بحيث لا يبلغ ضرره إلى القدر الذي يكسر العظم، وبهذا يدرك الشيخ حدود سوطه أو عصاه فلا يتعداها، فهي مثل عقد تربوي بينه وبين الأب في معاقبة الابن إذا ما عصا.
ولعل استخدام غالب المشايخ السوط في الضرب بدل العصا نابع من الانضباط بمقيدات هذه المقولة المأثورة، ومراعاتها عند اللجوء إلى هذه الوسيلة في التربية القرآنية.
لا يوقع الشيخ عقوبة الضرب إلا عند عبث الطلاب ساعة الحفظ، وانشغالهم بالمحادثة الجانبية بعضهم مع بعض، أو عند غياب الطالب من غير عذر مقبول أو استئذان مسبق، أو عند إخفاقه في حفظ مقطعه...
نظام الخلاوي التعليمي:
الخلوة تتبع نظام التعليم الفردي، والذي يمثِّل فيه كل طالب وحدة أو فصلاً قائماً بذاته غير مرتبط بالآخرين في مقدار ما يتحصل عليه من حفظ للقرآن الكريم، أي لا توجد فوارق زمنية (فصل أولى، ثانية، ثالثة)، بل كل طالب يسير قدر طاقته في الاستيعاب والحفظ.
الخلوة تستخدم الطريقة الكلية في التعليم، وذلك ببسط الكل قبل تحليل أجزائه، وبعد الإدراك والإحاطة بالمجمل يتم شرح الأجزاء، وهذا يفسر حفظ القرآن الكريم دون شرحه ومعرفة أحكامه في الخلاوي.
كما تأخذ بالاقتصار على تعليم مادة واحدة في الوقت الواحد، وبعد الانتهاء من المادة يتم الانتقال إلى الأخرى.
كما أنَّ الخلوة لا تضع حدّاً لعدد الملتحقين بها، كما لا تحدد عدداً من السنوات للبقاء بها.
وتعتمد الخلوة على نظام المعلم الواحد، فالشيخ يمكن أنْ يشرف على عدد من الطلاب قد يصلون إلى المائة بمعاونة المتقدمين من الطلبة في القراءة له في التدريس، حيث يتم توزيع الطلبة الجدد على الطلبة المتقدمين في الدّراسة ليقوموا بتدريس إخوانهم، كما يُشرف الشيخ على هؤلاء المتقدمين في الدراسة مع مراقبة قراءة إخوانهم، وهذه الطريقة قد أثبتت نجاحها وأعطت ثماراً طيبة في معرفة المسلمين لحفظ القرآن الكريم طوال القرون السابقة.
كذلك فإن اللوح والدواة والقلم القصبي وأصبع الطفل والمصحف (الختمة) كما يسمّونه، والأرض الرملية، كلها أدوات تعلُّم ضرورية وأساسية.
وأول ما يقرأ الطالب في (القرآن) هو الحروف الهجائية (أ، ب، ت، ث...ألخ) حتى يـتـقـن نطقها ورسمها وحفظها على الترتيب الذي وضعت عليه، ويخرجها من مخارجها، وترى الشيخ يدربه على التمييز بين الحروف المتشابهة نطقاً أو كتابة، فيميز في النطق حرف (غ) من حرف (ق)، وحرف (ث) من حرف (س)، وحرف (ص) من حرف (س)، وحرف (ض) من حرف (د) وهكذا يرددها الطالب، والشيخ يصوّبه ويصححه، حتى يتمكن من نطقها نطقاً سليماً قدر استطاعته، ويميز في الرسم بين الحروف المتشابهة، مثل: (ب، ت، ث)، (ج، ح، خ)، (د، ذ) إلخ.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى التدرّب على نطق الحركات (النصبة، الكسرة، الضمة، السكون) وكتابتها على الحروف الهجائية نفسها، فيقول: (أَ) نصبة، (إِ) كسرة، (أُ) ضمة، (بَ) نصبة، (بِ) كسرة، (بُ) ضمة، كما يتدرّب أيضاً على تركيب كلمات منها، فيقول: آن، إين، أون، بان، بين، بون، وهكذا يرتقي حتى يتمكن من القراءة والكتابة، ويكون مؤهلاً لالتقاط ما سيُمليه عليه الشيخ من السور القرآنية وكتابته.
الرمي والعرض:
«الـرمي» و «العـرض» مصطلحان من مصطلحات الثقافة الإسلامية، ذات الصلة الوثيقة بأصول التراث الإسلامي، في عهود توثيق الحديث النبوي وتدوينه، اعتدنا على تداوله وسماعه ونحن طلاب في «القرآن»، الشيخ «يرمي» والطالب «يعرض».
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.