لماذا هاجر الرسول وأصحابه؟مقالات

عبدالحميد السائح

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 13، السنة الثانية، محرم 1386هـ

 

ليست الهجرة هجرة واحدة، بل هي هجرة النفس لما تأباه، وهجرة القلب لما ينكره، وهجرة العقل لما يفسده، وهجرة الأرواح لما لا ينسجم معها.

هذه نسميها هجرة معنوية، وهناك هجرة مادية، وهي هجرة الجسم من بيئة فاسدة ومجتمع مسمم، انتشر فيه الإلحاد، وظهر فيه الفسوق والعصيان، وتغلبت فيه عناصر الشر والخسران.

ولما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، رفع شعلة الهداية، فأضاءت لها قلوب وانصاعت لها نفوس، وانشرحت لها صدور وابتسمت لها أرواح، وتمكنت فيها قواعد الهداية، ورست فيها أسس الإصلاح، فهجروا ما عليه القوم من عبادة الأوثان، وتقديس الأصنام، إلى توحيد الله عز شأنه، وجل سلطانه، والعمل على مرضاته، واعتبروا أنفسهم دعاة للحق، وجنودًا للرحمن وسعاة للخير، ما خلقوا إلا لهذا، وما وجدوا على ظهر البسيطة، إلا ليؤدوا رسالة، ويحفظوا أمانة، فإذا حالت قوى الظلم والشر والطغيان، دون تبرئة الذمة وتأدية المطلوب، ورفع راية الحق، وإقامة قسطاس العدل، هاجروا بأبدانهم، لبيئة أصلح ومجتمع أكثر استعدادًا للخير، حتى يتمكنوا من تأدية الرسالة.

من أجل هذا هاجر الرسول وأصحابه من مكة المكرمة، للمدينة المنورة، هاجروا من الوطن وهجروه، لا فرارًا من تنكيل وتعذيب، ولا خوفًا من أذى وعدوان، ولا ضعفًا في العزيمة، ولا خورًا في النفوس، ولا تفاديًا من الموت في سبيل الله، ولا طمعًا في مال، ولا سعيًا وراء جاه أو منصب.

وإنما هو الإيمان الذي ملأ نفوسهم وقلوبهم، أبى عليهم أن يقلهم بلد تهدد فيه الدعوة، وتمنع فيه كلمة الحق أن تعلو وتظهر، وعوامل الشر متوافرة، وزبانية الفساد متغلغلة، تحول دون إظهار عزة المؤمنين، وتمنع اعلان رسالة الإصلاح أن تبلغ الأسماع، أو أن تذيع في الأصقاع، خوفًا على باطلهم المزيف أن يفتضح، وقوتهم المصطنعة أن تنهار، وزعامتهم الخادعة أن تتهدم.

أيها القارئ الكريم..

لقد تهيأت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأكرمين أسباب الهجرة إلى المدينة بهجرة نفوسهم أولًا، ونفرة قلوبهم، من كل ما أحاط بهم من أباطيل، واستنكار ما هم عليه من عقائد فاسدة وتقاليد وأعراف لا تمت إلى رسالة الخير والإصلاح بصلة، ورضوا بهجرة الأوطان، لصيانة العقائد والمبادئ، فإذا صانوها استطاعوا أن يصوغوا النفوس المجاهدة، والقلوب المناضلة المكافحة، وأن يبنوا أمة تتحمل التضحيات في سبيل مثلها وحماية ذمارها، وحفظ كرامتها واستعادة أوطانها.

ولهذا فإن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، لما تمكن في المدينة أقام دولة الإسلام العتيدة، لتحمي الإيمان وتشريعاته، وتصون الحقوق وتنصر الضعفاء، وتكون النفوس المكافحة المؤمنة.

ولما اطمأن لقوة العقيدة وسلامتها كون من الأمة جيشًا، كل فرد فيه جندي مخلص، متفان في سبيل عقيدته ومثله، وتنافس القوم في التضحية، وتباروا في الفداء، ولما استشارهم يوم بدر، قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

ثم قال سعد بن معاذ صاحب راية الأنصار: لد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا ان ما جئت به هو الحق وأعطيناك مع ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أمرت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد.

أيها القارئ الكريم..

حينما بدأ المسلمون بالهجرة إلى المدينة فطنت قريش لنتائج الهجرة آثارها البعيدة، فبذلت كل ما تستطيع من جهد في سبيل صرف المسلمين عنها، واستعملت كل وسائل التنكيل والتعذيب والحبس والتشريد، حتى فصلت الزوجة عن زوجها إذا كانت قرشية.

ولما أراد صهيب الرومي أن يهاجر، وكان صاحب مال وفير، وقف له صناديد قريش، وقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ فقالوا نعم، فقال جعلت لكم مالي، فتركوه حتى قدم على رسول الله، فقال له: ربح بيعك.

فتلك النفوس السامية تعلقت بمثلها العليا وأهدافها الكبيرة، واستهانت في سبيل ذلك بالمال وغير المال.

لذلك يجب علينا حينما نذكر الهجرة أن نذكر ما كان فيها من تضحيات بعيدة المدى، تخلى الواحد منهم عن ماله، وعن زوجته وعن أهله، وأخيرًا تخلى عن وطنه، ولكن لماذا هذا كله؟ ليحمي إيمانه وعقيدته، وإذا سلم ذلك استطاع أن يصنع الأعاجيب، ويسترد الأوطان، وينقذ الكرامة ويحفظ الشخصية، ويؤمن الحرية.

وحينما نذكر الهجرة نذكر أن الرسول وأصحابه ما هاجروا من وطنهم ليعبدوا ربهم في سرهم وما هاجروا ليقبعوا في مسجدهم يرددون آيات الله، وما هاجروا لينطووا على أنفسهم، وإنما هاجروا ليعلنوا دعوة ربهم، ويرفعوا راية الإصلاح في شتى الميادين.

ولهذا فإن الرسول لما أذن لأصحابه في الهجرة للحبشة، وهاجر من هاجر منهم، أراد أبو بكر أن يلحقهم، فخرج من مكة حتى بلغ موضعًا يسمى برك الغماد، على خمسة أميال من مكة، لقيه ابن الدغنة، وكان سيد جماعته، فقال له أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أخرجني قومي، وأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال له ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك مجير أمنع من يؤذيك، فارجع واعبد ربك في بلدك، وأعلم ابن الدغنة أشراف قريش بما أجار، فوافقوا على أن يعبد ربه في داره، لأنهم خافوا أن يفتن نساءهم وأبناءهم حين يطلعون على حقيقة الإسلام، وبنى أبو بكر مسجدًا صغيرًا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيجتمع عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويتزاحمون مصغين لقراءة أبي بكر، فأفزع ذلك أشراف قريش، وأرسلوا إلى ابن الدغنة يطلبون منه أن يتقيد أبو بكر بعبادة ربه في داخل داره، أو يسترد أمانه، فلم يقبل أبو بكر هذا الشرط، ورد عليه أمانه، وقال: أرضى بجوار الله وحمايته، وكان هذا من أسباب الهجرة إلى المدينة.

إذًا إنما هاجر الرسول لغير عقائد كانت فاسدة، ويبدل تقاليد كانت ضارة بالية، فأقام الدولة الإسلامية تتكفل بالتشريع في جميع نواحي الحياة، من أحوال شخصية ومدنية وغيرها وعلاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بغيره، وعلاقة الدولة بغيرها من الدول.

وأقام تلك الدولة على مبادئ الأخوة في الله، والتضامن الإنساني العام، وإقامة الحرية ومحاربة الظلم والطغيان، ورفع راية العدل في جميع أفراد الأمة، وكان من مبادئها وقواعدها: الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.

ولذلك فإن التفكير في فصل الدين عن الدولة أو الدولة عن الدين هو من مستوردات الغرب ومصادم للإسلام، فالتشريع جزء من الإسلام، الذي هو دين ودولة وعقيدة وعمل، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

أيها السادة..

بعد أن استقر حكم الإسلام في المدينة جاء مجالد بن مسعود يبايع الرسول صلوات الله عليه على الهجرة فقال الرسول: لا، نبايع على السمع والطاعة والجهاد، وسئلت السيدة عائشة عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه، أما اليوم فقد اظهر الله الإسلام، ولكن جهاد ونية.

وفي أحاديث أخرى لا هجرة بعد الفتح والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وأعظم الهجرة هجر ما حرم الله.

وإن كانت الهجرة المادية قد منعت باستقرار الإسلام وتمكنه، فإن هجرة القلوب لما أنكرت، وهجرة النفوس للمحرمات، والعمل على إصلاح المجتمع، وتنقيته من الأدران، وتوافقه مع أحكام الإسلام، لا يزال كل ذلك واجبًا محتمًا، والتسامح في ذلك يعرض للفساد والدمار والمسؤولية العظمى أمام الله.

وإذا كنا نحتفي بذكرى الهجرة فعلينا أن نذكر ما عليه كثير من المجتمعات في العالم الإسلامي من بعد عن الإسلام، وتنكر لأحكامه واستخفاف بتراثه الفكري، وكنوزه التشريعية وإعراض عن الاستفادة منها والرجوع إليها.

أذكر حينما كنت قاضيًا في القدس منذ عشرين سنة، عرضت علي حادثة، طالبت فيها مطلقة مطلقها بخمسمائة ليرة عثمانية ذهبًا، مؤجل صداقها، وقد كان التعامل بالذهب ممنوعًا، واختلف الفريقان فيما يجب على المطلق أن يدفع، هل قيمة الليرة يوم العقد، أو قيمتها يوم الاستحقاق أو قيمتها يوم الخصومة، وراجعت في المراجع الفقهية الإسلامية فوجدت أنهم استعرضوا الاحتمالات الثلاثة، ورجحوا اعتبار يوم الاستحقاق، وأبرز إلى حينئذ حكم صادر من مجلس الملك في لندن في حادثة حقوقية مماثلة وقعت في محاكم فلسطين، وقد استعرض مجلس الملك آراء الفقهاء الإسلاميين، وغيرهم من الفقهاء ورجح ما رجحه فقهاء الإسلام.

وأذكر هذه الحادثة الجزئية للدلالة على أن الغربيين كانوا ولا يزالون يستفيدون من كنوزنا ويستقصون ما فيها من تراث عظيم، نحن أجدر بجعله أساسنا في التشريع، وملاذنا في الاتجاه وعمدتنا في التقنين.

وإذا لم يحرص المسلمون والعرب على مصادر اعتزازهم، مدار فخارهم ومقومات شخصيتهم، فإنهم يندمجون في غيرهم، ويذوب وجودهم، ويبقون في كل شيء عالة على غيرهم.

ولئن ساغ للبلاد العربية الإسلامية أن يعتمدوا في التشريع على القوانين الغربية والمصادر الأجنبية في عصور كان للانتداب والاستعمار والميوعة والانحلال الأثر الكبير فيها، فلا يجوز أن يكون في عصور الاستقلال واليقظة، والانطلاق من قيود الأجنبي.

وإني أتساءل هنا عن القومية العربية، التي دعت أو تدعو إليها جميع الدول العربية، هلا تعني الاحتفاظ بشخصيتنا كأمة ذات تشريع خالد، وثروة فكرية عظيمة، ساهم في الاحتفاظ بها وشرحها المسيحيون المخلصون لعروبتهم، كما ساهم فيها المسلمون، باعتبارها ثروة قومية ترفع من شأن العرب وتضعهم في ذروة القمة في الأمجاد.

أيها القارئ الكريم..

لعله يتراءى لك أني بعدت عن الهجرة وما يتعلق بها، ولكني أقول أنه يجب أن نهجر كل ما يتنافى مع شرائعنا وتقاليدنا كأمة عربية مجيدة، ونجدد العزم على هذا في حديثنا عن الهجرة، فلا فائدة من الأحاديث والحفلات والخطابات إذا لم تمس مشاعر الناس في عصرهم، وتربط بين حاضرهم وماضيهم، وتجعل من الماضي المجيد مشعلًا يهدينا في حاضرنا وحافزًا يدعونا إلى العمل الجدي المثمر.

وإني في حديثي عن الهجرة أهيب بالعرب والمسلمين في سائر الأقطار أن يعملوا جادين على غسل العار، والأخذ بالثأر، وإنقاذ الكرامة، واستعادة ما غصب من فلسطين الحبيبة، ولا سبيل لذلك إلا التضامن والإعداد والقوة، وأن نستفيد من ماضٍ لنا حافل بالأمجاد وأسباب العزة والمنعة.

وليس القصد أن نتغنى بتلك الأمجاد ونستعيد تلك المفاخر، وإنما القصد أن نسير سير البطولات، ونتمثل في أعمالنا بحقيقة التضحيات، ونتخلى عن الارتماء في أحضان الغير، ونتخلص من مركب النقص في نفوسنا، ونشعر في فخر بعزة المؤمنين، وحينئذ تكون بحق خير أمة خرجت للناس.