المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 15، السنة الثانية، ربيع الأول 1386هـ
لقد شاء الله العلي القدير أن يختار جزيرة العرب عاصمة للإسلام، ومعقلًا لقوته، ومركزًا لانطلاق رسالته واشعاع نوره وخيره على الخافقين -مشرق الأرض ومغربها- وذلك لما امتازت به هذه البقعة من احتلال مكانة وسطى في الكرة الأرضية، وأهمية استراتيجية كبرى كجسر للاتصال بين الشرق والغرب، مع ما تمتاز به من تكوين جغرافي، ومناخ جيد صحي، ويجاورها بحار ذات اعتبار حساس في نقل متطلبات وحاجيات التجارة الخارجية والداخلية والعالمية.
ولهذا لما قضى الإسلام على مخازي الشرك والوثنية في الجزيرة العربية، طالب الرسول الكريم بتطهريها من لوثات العقائد الفاسدة، وأمر بإخراج اليهود والنصارى منها، وأوصى في مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وقد صرح الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه ((الأم)) بأن ثغور الحجاز البحرية وما يوجد في بحره من الجزائر لهما حكم أرضه وبلاده، فلا يجوز لإمام المسلمين وسلطانهم أن يمكن أحدًا من غير المسلمين بالإقامة فيها لتجارة ولا لغيرها.
وهذا ما يحقق حماية عاصمة الإسلام ويمنع عنها كل عدوان وهو الأساس الذي ترتكز عليه سياسة الدول الحديثة في حماية حدودها الطبيعية والجغرافية من غوائل أعدائها.
وكذلك شاءت قدرة الحكيم الخبير أن يحمل العرب أمانة نشر رسالة الإسلام في الماضي وفي الحاضر، وذلك لا بسبب أفضلية جنسية أو عنصرية أو قومية يتمتع بها العرب دون سواهم، وإنما يرجع سبب ذلك الاصطفاء والاختيار لمزايا خلقية واجتماعية، وعوامل فطرية واكتسابية وبيئية، استطاع بها العرب نقل رسالة الإسلام إلى أمم الأرض بكل جدارة أمانة واطمئنان.
ويمكنني الآن أن أشير إلى أهم هذه العوامل:
- أولًا: أن لطبيعة بلاد العرب الصحراوية أثرًا كبيرًا في نقل العقائد والمعارف والقيم والأفكار إلى غير العرب، لأن الجو الصحراوي يمتاز بالانفتاح والانبساط، فلا يلتزم العربي بالاستقرار والسكنى في أماكن معينة، وإنما كان ينتجع مواطن الكلأ والمرعى والماء، لتأمين حاجياته في أي مكان، فكان هذا مهيئًا للعرب للانطلاق والانتشار في الأرض دون تمسك برقعة خاصة يألفونها، أو بمأوى يكنون فيه. ولقد جاء القرآن الكريم متجاوبًا مع هذه الطبيعة، نابذًا فكرة التزام الوطن الضيق محببًا للناس النزوح في البلدان والتماس الخيرات، منددًا بأولئك المستضعفين في الأرض الذين لا يتمكنون من الجهر بدعوتهم، وممارسة شعائرهم الدينية، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
- ثانيًا: يتميز العرب باستعداد فطري خاص في حفظ العلوم، وقصص التاريخ والأشعار والأنساب، فكان الواحد منهم يمتاز بقدرة عجيبة مذهلة في الاستذكار والحفظ وسرد الأحوال، فإذا انطلق أحدهم يحدث عن التاريخ أو النسب أو الشعر، فكأنه يغترف من بحر، وكأن ذاكرته أشد التقاطًا، وأقوى استمساكًا من آلات التسجيل الحديثة، والتاريخ يحكي لنا أعاجيب الأحاديث عن الأفذاذ المشاهير من العرب في كل علم من العلوم، ولا سيما في نقل القصائد والشعر، ولهذا كانت وسيلة الإسلام الأساسية في الحفاظ على القرآن الكريم والسنة النبوية هي الحفظ في الذاكرة، والتلقي بالمشافهة جيلًا عن جيل، نظرًا لأن الكتابة كانت قليلة وقد يعتورها الضياع والتحريف والتبديل، ومن هنا كان الإسلام في صناديق قلوب المسلمين تتفتح بالخير والفضل في البقاع المفتوحة، فيتلقى الناس الإسلام عن قادة الفتح الإسلامي وجنوده من ينابيع صافية، وألسنة صادقة، وقلوب مؤمنة، دون حاجة إلى الرجوع إلى قرطاس أو قمطر.
- ثالثًا: يمتاز العرب -بغض النظر عن جاهليتهم القديمة والحديثة- بمحافظتهم على بعض المثل العليا والأخلاق الكريمة التي تمكنهم من الالتقاء مع أهداف الإسلام، وتحقيق غايته في هذه الحياة. فهم كرام النفس يتفانون في سبيل الضيافة، ويقدمون أعز ما يملكون لحماية الفضيلة، وهذا المعنى قد حوله الإسلام إلى بذل المال في اعتبارات إنسانية سامية كإعانة الفقراء والمحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وتزويد الجيوش وإمدادها بالمؤن والذخائر للدفاع عن كيان الأمة وسيادتها، وفي سبيل تحرير الأمم والشعوب مما تئن به من الظلم والطغيان والفجور وفوضى العقائد. والعرب يتطلعون إلى تحقيق الأمجاد والبطولات، ويتحلون بالشجاعة النادرة، والنجدة الفائقة والحمية الخارقة، فاستطاع الإسلام أن يستغل هذه المعاني لتحقيق ما يرضي الله ورسوله، ولنشر الديانة الجديدة في أصقاع المعمورة، والعرب يحامون عن العرض والمروءة والشرف، ويتفاخرون بالعفة والطهارة والنبل، فجاء الإسلام منظمًا لقضايا الأسرة، وما تتطلبه من هذه الفضائل، ليصان المجتمع عن شيوع الرذائل، لتقوى الأمة أمام عدوها، بسبب قوة أفرادها، واحترام بعضهم لحقوق الآخرين وكرامتهم. والعرب شم الأنوف، يأبون الذل والعار والمسكينة والضعة، بدافع العصبية القبلية والدفاع عن العشيرة، فأمكن ذلك للإسلام أن يؤصل فيهم حب العزة والسيادة، والحفاظ على شخصية الأمة واستقلالها على أساس من الحق والعدل والرحمة، لا على أساس الظلم والطغيان والاستبداد والتسلط {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
- رابعًا: يمتاز العرب بصفاء نفوسهم، وصراحتهم في مواجهة الأمور، وبساطة معتقداتهم، حتى أنهم لم يكونوا يعبدون الأوثان والأصنام لذاتها، وإنما من أجل أنها -في زعمهم- تقربهم إلى الله القادر {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وبساطة هذه العقيدة التي جاء بها الإسلام وعدم تعقيدها تيسر للناس قبولها، لأن العقائد المركبة والفلسفات الواهنة يصعب على النفس قبولها، فلذلك لم تستطع العقيدة الوثنية أن تقف أمام عقيدة الحق والبرهان، فكانت تتهاوى أمام عقيدة التوحيد المتماسكة القوية الرصينة، سواء في فهمها وتعلقها أم في حقيقتها ومغزاها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وأما الشرك فهو وكر الخرافات والأباطيل، وباعث الظلم والاستبداد، والمؤمن يعتقد أنه أسوأ ما يصاب به الإنسان في روحه وعقله ومصيره، ولذلك لم يقبل من العرب في مبدأ الإسلام إلا الإسلام أو القتال، تضييقًا عليهم حتى يقبلوا الإسلام الذين هم أهله ورعاته وحماته، فيؤدوا واجبهم الأكبر في إصلاح المجتمع الإنساني، وصيانة الحياة البشرية من عوامل الخراب والفساد، واقتلاع جذور الوثنية المنافية لكرامة الإنسان، وأهليته لهذه الحياة. وقد تم للإسلام مقصده، فكان العرب روح الإسلام ورجاله الأبرار، وكانت الأمة العربية أقدر الأمم على تبليغ رسالة السماء الأخيرة، مضطلعة بها ماديًّا وأدبيًّا، جسمًا وروحًا ومعنى.
- خامسًا: أن القوة التي تقوم عليها رابطة الدم والقبيلة العربية مع المحافظة عليها، والذود عنها كانت خير نقطة ارتكاز لتحل محلها رابطة الأخوة في الدين، وإقامة نظام دولة الإسلام في المدينة المنورة فتحولت الحمية للقبيلة إلى نصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم، وحماية الحرمات، وقد بدأ اتجاه العرب نحو هذه المعاني في حلف الفضول الذي عقدته قريش وقبائل العرب في دار عبدالله بن جدعان في الجاهلية، وحضره الرسول صلى الله عليه وسلم شابًا قبل بعثته، حتى أنه قال عنه بعد البعثة النبوية: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت)).
- سادسًا: أن طبيعة اللغة العربية وخصائصها في حروفها وأصواتها وسعة أفقها، وتوزع مخارجها وثبات كلماتها، وأصوات الحروف فيها، وتناسب ألفاظها ومعانيها، وامتيازها على سائر اللغات بميزات معروفة، يجعل هذه اللغة أقدر اللغات على حمل الأفكار والعقائد ونقل المفاهيم إلى الأمم الأخرى، ولتحقيق وجه المعجزة الخالدة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانت لغة القرآن هي لغة العرب، لإظهار وجوه اعجاز القرآن الكريم على ممر الدهور والأعوام، ولتحدي العرب الذين كانوا أمة البيان وفرسان اللغة وأرباب الفصاحة، ولا يمكن تحديهم بغير لغتهم، لأنه لم تكن لغة أخرى تقع في نفوسهم موقع اللغة العربية، وكانوا يميلون بفطرتهم إلى المحافظة على ما لا موجب لتغييره في حياتهم، فكان ثبات أصوات الحروف العربية كما نلفظها الآن في لغتنا الفصحى، وكما جاء بها القرآن عاملًا من عوامل توثيق الصلة وحفظها بين أجيال الأمة العربية مهما تباعد الزمن، وذلك مما اعتبر مدعاة للحفاظ على الأمة الإسلامية بواسطة اللغة العربية -لغة الدين والتشريع والحكم- إذ أنه يجب على المؤمنين تعلم اللغة العربية كما قرر ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته التي فيها أصول علم الفقه، وقد جرى العمل على ذلك في عهود الإسلام إلى أواخر عصر العباسيين حيث كثر الأعاجم، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه في العبادات.
- سابعًا: أن الحالة المعيشية الوسطى التي كان العرب يعيشونها، وتقشف الأعراب بالذات، دون إخلاد إلى الرفاهية والنعومة، كانت مجالًا مناسبًا لتقلب العرب في أرض الله، فكانوا أقدر من غيرهم على الكفاح والصبر وتحمل المشاق والجلد في الأسفار، أما الاطمئنان إلى الراحة والنعيم والاسترخاء الذي كان سائدًا بين الأمم الأخرى فلا يشجع على تحميلهم مسؤولية جديدة لنشر رسالة، فضلًا عن أن انتشار مثل هذه النعومات يكون عاملًا من عوامل تمزيق الأمة والإسراع في تفتيتها وضياع كيانها.
- ثامنًا: كان العرب أمة أمية لم تعرف شيئًا من فلسفات الأمم القديمة، ولم تطلع على حضارات الأوائل إلا ما عند النفر القليل منهم، ولم يتعرفوا بالقراءة والكتابة على ما يتناقله الناس من كتب الديانات السابقة إلا النذر اليسير {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. فكان هذا الفراغ ادعى إلى ملئه وشغله بديانة سامية، خالية من الترهات والأباطيل، لأن الأفكار البدائية والسطحية النظرة إلى الحياة، سرعان ما تقبل الأفكار الناضجة، وتنجذب نحو الفكرة المدعومة بالمنطق والحجة والبيان الجلي، لأن غزو العقول بالمعقول أقرب من حشوه بالأوهام والخرافات.
- تاسعًا: أن الأمم غير العربية -وأخصها دولتا الفرس والرومان- وإن كان لها من الملك ونفوذ السلطان، ووفرة الثراء ما جعلها مضرب الأمثال في الأبهة والعظمة، فإن هذا في الواقع كان أمرًا ظاهريًا فقط، فقد فشا فيهم الخلود والراحة، والتنعم بالحياة، واستبداد الملوك والحكام والخلافات الدينية في أوساطهم، وناء الشعب بكثرة التكاليف والأعباء المالية، حتى كرهوا الحكام وسئموا الحياة، فكانت هذه الأمراض الاجتماعية مؤثرة في بنيان الأمة، ومضعضعة لكيانها، والشأن في أمة مريضة كهذه لا أمل في إصلاحها من داخلها، فكانت صيحة الإسلام، منبهة لعقول الغافلين، ومثيرة الدعوات إلى الإصلاح، فكان العرب رسل هذه الدعوة وحماتها.
والخلاصة أن العرب كانوا بحق خير دعاة لدين الإسلام، وكان الإسلام شرفًا عظيمًا لهم، وكانوا يتمتعون بخصال طيبة وميول سامية، وحيوية فائقة، ولكن ينقصها التنظيم والعقيدة الصحيحة، فكان الإسلام أمل العرب، وطريق النور والهداية والإنقاذ من الضلال والانحراف، وكان العرب حملة مشعل الهداية والقرآن والمدنية والحضارة، ورسل الحق والخير والعدل، فنجحوا في أداء رسالتهم، ووفوا بواجب الأمانة المحملة في أعناقهم، فارتفع ذكرهم، وعلت كلمتهم، وطأطأت هامات الدنيا لسيادتهم وسلطانهم بعد إصلاح الإسلام لهم إصلاحًا جذريًا وصدق الله فيهم حيث يقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.