النقود في الإسلاممقالات

أحمد الشرباصي

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد 15، السنة الثانية، ربيع الأول 1386هـ

 

النقود[1] هي عصب الاقتصاد، لأنها نقطة الارتكاز التي تدور عليها مجالات كثيرة من نشاط الإنسان وأعماله، فهي وحدة للحساب، وهي الوسيلة التي تتم بها المبادلة، وهي الأداة المهيئة لاختزان القوة الشرائية، ولا يتم فهم الكثير من الأمور الاقتصادية في حياة الدولة إلا إذا فهمنا وسائل التبادل، وأسس القيم للأشياء، وتتمثل هذه الوسائل عادة في النقود، كما أن النقود من الوجهة التاريخية تعتبر وثائق هامة، لما تحمل من تواريخ أو أسماء أو نقوش.

وقد كتب عن النقود في الإسلام كاتبون كثيرون، مثل قدامة بن جعفر، وابن بطوطة، والقلقشندي، كما كتب المؤرخ الإسلامي المشهور المقريزي كتابًا سماه ((شذوذ العقود في ذكر النقود)).

والشريعة الإسلامية تهتم اهتمامًا كبيرًا بالنقود، وتتحدث عنها في مناسبات كثيرة من أبواب الفقه الإسلامي، كالمهور والنفقات وأجر الرضاع والديات والوقف وأنواع الزكاة، وفي الفقه الإسلامي قسم كبير، يسمى قسم البيوع والمعاملات، ويكاد يكون شطر الفقه الثاني المقابل لشطره الأول، وهو شطر (العبادات) والبيوع والمعاملات تقوم في أساسها على النقود.

وقد تحدثت الشريعة الإسلامية عن أنواع النقود وأسماء لها ومنها:

  1. السكة: وهي النقود العربية التي تسك -أي تضرب- في الدور الخاصة بصناعتها، ولذلك تسمى ((مسكوكات)) أي مضروبات، وقد تحتاج كلمة السكة إلى شيء من الإيضاح، وفي مقدمة ابن خلدون عبارة عنها لا بأس من إيرادها لمعرفة الأطوار التي مرت بها هذه الكلمة، وهي:

السكة: وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس، بطابع حديد تنقش فيه صور، أو كلمات مقلوبة، ويضرب بها على الدنانير أو الدراهم، فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس، في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى، وبعد تقدير أشخاص الدنانير والدراهم بوزن معين يصطلح عليه، فيكون التعامل بها عددًا، وإن لم تقدر أشخاصها يكن التعامل بها وزنًا.

ولفظ السكة كان اسمًا للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علمًا عليها في عرف الدول.

وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من البهرج بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها من الغش، يختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة، وكان ملوك العجم يتخذونها، وينقشون فيها تماثيل تكون مخصصة بها، مثل تمثال السلطان لعهدها، أو تمثال حصن، أو حيوان، أو مصنوع، أو غير ذلك، ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم.

وفي لسان العرب أن السكة (بوزن العلة) حديدة قد كتب عليها، يضرب عليها الدراهم، وهي المنقوشة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس، وقد أراد بالسكة الدينار والدرهم المضروبين، سمي كل منهما سكة لأنه طبع بالحديدة المعلمة له.

  1. الدينار: وهو وحدة من وحدات العملة الذهبية، وقد جاء ذكره في القرآن الكريم، حيث يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}.

قيمة الدينار والدرهم:

وقد قدر الباحثين المعاصرين ذلك الدينار بنحو سبعة وعشرين قرشًا، ومنهم من قدره بنحو واحد وخمسين قرشًا، ولكن الأقرب إلى الضبط هو أن الدينار يساوي ستين قرشًا.

  1. الدرهم: وهو اسم لوحدة من وحدات العملة الفضية، ويقال أن قيمته كانت سبعة أعشار الدينار، وهذا قول بعيد، الأرجح أن الدرهم كان عشر الدينار، وعلى هذا الأساس يساوي (الدرهم نحو ستة قروش، ويقول الجاحظ عن الدرهم: الدرهم هو القطب الذي تدور عليه رحى الدنيا) وهو فيما يبدو يريد أن يبين أهمية النقد وأكثرها تداولًا وهو الدرهم في تحريك الحياة الاقتصادية، وكانوا يطلقون كلمة ((النقرة)) على الدراهم الفضية.

ولكن يمكن أن نفهم -إلى جوار هذا- أن الدرهم كان أكثر من غيره استعمالًا، لأن أساس النقد في المجتمع الإسلامي كان في الغالب هو الدرهم والدينار فبهما كان يتم التبادل والتقدير والتعامل في الدولة الإسلامية، وعلى أساسهما تحدد الواجبات الشرعية المتعلقة بالمقادير المالية، كالزكاة والكفارات والضرائب والمهور والنفقات والديات... الخ.

  1. الدانق: وجمعه الدوانيق وهو سدس الدرهم، فتكون قيمته نحو القرش.
  2. القيراط: وهو نصف الدانق، فتكون قيمته نحو نصف القرش.
  3. الفلس: وهو عملة نحاسية قليلة القينة، وهي تساوي جزءًا من ثمانية وأربعين جزءًا من الدرهم.
  4. الورق: (بكسر الراء) وهي النقود الفضية، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم، حيث يقول: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.

وقد أمكن معرفة مقادير هذه الأنواع من العملة والنقود -على وجه التقريب- عن طريق أوزان النقود الأثرية الإسلامية التي لا تزال باقية إلى اليوم، وفي المتحف الإسلامي بالقاهرة كثير منها، وممن عنوا بالكلام عن هذه النقود علمان من رجال الاقتصاد في الإسلام، هما البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) والماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) كما يمكن مراجعة ما يتعلق بهذا الموضوع في كتاب (محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية) للخضري، وكتاب (النظم الإسلامية) لحسن إبراهيم، و(التمدن الإسلامي) لجورجي زيدان، و (الخراج والنظم المالية في الدولة الإسلامية) لضياء الدين الريس.

مناطق:

ولقد كانت الدولة الإسلامية في الماضي منقسمة إلى منطقتين: المنطقة الأولى يكثر فيها التعامل بالدينار، أو يعتبر فيها هو أساس المعاملة، كمصر والشام، والثانية يكثر فيها التعامل بالدرهم، أو يعتبر فيها هو أساس المعاملة، مثل العراق وما جاورها، ويمكن أن نسمي المنطقة الأولى (منطقة الذهب) لأنها كانت تتعامل بالدينار وهو يصنع من الذهب، ويقابله الآن الجنيه عندنا، والمنطقة الأخرى (المنطقة الفضية) لأنها كانت تتعامل بالدرهم وهو مصنوع من الفضة، ويكاد يقابله الآن ربع الريال، قطعة الخمسة القروش الفضية.

ولكن التعامل ع ذلك كان مقبولًا بأحد النقدين في هذه المنطقة أو تلك، ويحول إلى الآخر بحسب النسبة، وهي ما نعبر عنه اليوم بقولنا (سعر الصرف) السائد في السوق، والذي تحدده الأحوال التجارية، دون تدخل من الحكومة.

ويلاحظ - كما ينص على ذلك كتاب الخراج والنظم المالية - أن هذه التقديرات كلها من حيث العملة في ذاتها، ولا يدخل فيها تقدير القوة الشرائية، فالنقود قد تكون هي هي، ولكن تختلف القوة الشرائية بينها اختلافًا كبيرًا أو صغيرًا، وفي العصر الحديث نعرف جيدًا معنى ((التضخم النقدي))، فإذا أردنا أن نقدر ثروات الأيام السابقة وقيم الأجور، ومستويات المعيشة فإننا لا بد أن ندخل في حسابنا مقدار (القوة الشرائية) للنقد في العهد الذي هو موضع الدراسة، بالنسبة إلى قوة شراء العملة المقابلة في العصر الحاضر وينبغي أن نلاحظ أن وزن (الدرهم) وقيمته يختلفان بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة والاصطلاحات، وقد جاء في مقدمة ابن خلدون أن الدرهم كان وزنه في أول الإسلام ستة دوانيق، والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع الدرهم، فكل عشرة دراهم بسبعة مثاقيل، والسبب في ذلك أن الدراهم كانت مختلفة عند الفرس، وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطًا، ومنها اثنا عشر ، ومنها عشرة، فلما احتاج الفقهاء في الإسلام إلى تقدير الدرهم أخذوا الوسط من الثلاثة، وهو أربعة عشر قيراطًا، فكان المثقال درهمًا وثلاثة أسباع درهم.

الدراهم أنواع:

وكذلك كانت للدراهم أنواع فمنها البغلي وهو بثمانية دوانيق، والطبري بأربعة دوانق، والمغربي بثلاثة دوانق، واليمنى بدانق، فلما كان عهد عمر اختار الأغلب في التعامل وهو البغلي واليمنى وهما اثنا عشر دانقًا، فكان الدرهم ستة دوانق، وان زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالًا، وإذا نقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهمًا.

وقد تحدثت المقدمة كذلك عن حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان مقدارهما، وأنهما كانا مختلفين في المقادير والموازين في الآفاق والأمصار، وأن الاجماع مع هذا قد انعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين على أن الدرهم الشرعي هو الذي يزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهمًا، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنتان وسبعون حبة من الشعير الوسط، فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسًا حبة، وهو أيضًا ستة دوانق، وكان هذا التقدير عرفيًا في بادئ الأمر، ولما اتسعت رقعة الدولة اختلف التقدير، وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق من نقودهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية.

والمعروف أن العرب لم يضعوا لأنفسهم نقودًا خاصة بهم قبل الإسلام، بل كانوا يتداولون فيما بينهم نقود الفرس والروم، ولما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته لم يجد الجو صالحًا لتغيير النقود المتداولة لأنه كان مشغولًا من أمور الدعوة الإسلامية بما هو أهم، وكذلك كان عهد أبي بكر، ولما جاء عمر بن الخطاب خطا خطوة نحو استقلال النقد العربي الإسلامي، فسك دراهم على صورة الدراهم الفارسية، ولكنه نقش عليها كلمة (الحمد لله) وكلمة (محمد رسول الله) وكلمة (لا إله إلا الله وحده).

ولما جاء عثمان بن عفان سك نقودًا ونقش عليها كلمة (الله أكبر) وهكذا نرى أن المجتمع الإسلامي قد ربط بين العملة والمبادئ الدينية، وكأنه أراد أن يبث جانبًا من التعاليم الإسلامية عن طريق قطع النقود المتداولة، أو لعله أراد أن يذكر بالمبادئ الدينية عن طريق النقود ليصونها من يستعملها، ولا يسيء التصرف بها، ولما جاء معاوية صنع نقودًا، ونقش عليها صورته وهو متقلد سيفه، فكره المسلمون منه ذلك العمل، وانتقدوه لأنه يدل على حب الذات والميل للشهرة، ويروى أن أحد الجنود قال لمعاوية عند ذلك (إنا وجدنا ضربك للنقود شر ضرب) فهدده معاوية، ومرت الأيام تباعًا، وجاء الحجاج بن يوسف الثقفي في العهد الأموي فكتب اسمه على بعض الدراهم مقلدًا معاوية.

ويروى أن عبدالله بن الزبير هو أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكتب على وجه منها (محمد رسول الله) وعلى الوجه الآخر (أمر الله بالوفاء والعدل) وكأن المضروب مما سبق ذكره شيئًا قليلا، لم يعم التعامل به، ولم ينهض على مقياس محقق ثابت، وكان فوق هذا تقليد للمضروب في بلاد فارس والروم.

تعريب العملة:

ولذلك يقرر المؤرخون أن أول من عرب النقود في المجتمع الإسلامي بصفة عامة هو عبدالملك بن مروان، وبعد أن صنع نقودًا عربية كاملة، وطرحها للتداول بين الناس جمع ما في الأسواق الإسلامية من نقود أجنبية وأعاد صياغتها.

وأخذت النقود تتطور في عهد عبدالملك من ناحية الأحجام والأشكال الكتابة، فصار يكتب عليها مثلًا من جهة العبارات (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) و(محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وبعضها يكتب عليه اسم الله، ويكتب عليها من الجهة الأخرى ما يشير إلى تاريخ السك، مثل (بسم الله، ضرب هذا الدينار سنة سبع وسبعين) ثم هذا النص (الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد).

ويقول ابن خلدون في التنويه بالمجهود الذي قام به عبدالملك في تعريب النقود وصيانتها (أن الغش كان قد تفاحش في الدنانير والدراهم إلى أن جاء عبدالملك وأمر بطبع العملة) وقد جاء في كتاب (الخراج في الدولة الإسلامية) فيما يتعلق بعهد عبدالملك بن مروان من الناحية المالية والنقد ما يلي:

عادت إلى الدولة وحدتها السياسية -إذا استثنينا فئة قليلة- في عام 74ه، وقد شعرت الدولة اذ ذاك أنها وقد أنهكت قواها الحرب، وساءت حالتها المادية والمعنوية، ولا سيما في العراق الذي كان المسرح الأول للحوادث أنها لا بد أن تبدأ عهدًا من البناء والتعمير، لذا فإن سلسلة من الإجراءات اتخذت، فيما بقي من عهد عبدالملك، وفي عهدي الوليد وسليمان أيضًا، كان القصد الظاهر منها علاج الحالة المالية السيئة، وزيادة مواد الخزينة، ويمكن إذًا اعتبار هذا العهد ما دام له طابع عام يميزه وحدة قائمة بذاتها، وهو يمتد نحو ربع قرن (74-99ه)، إلى أن يلي الخلافة عمر بن عبدالعزيز، فتكون له سياسة خاصة.

 

[1] النقد في الأصل هو تمييز الدراهم، ثم استعملوا النقد بمعنى الإعطاء، ثم أطلقوا الكلمة على الذهب والفضة.

3 شخص قام بالإعجاب