الإسلام يحارب الدجل والخرافات ويرسم نظام الحجر الصحي والطب الوقائيمقالات

علي عبدالمنعم عبدالحميد

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، العدد الرابع عشر، السنة الثانية، صفر 1386هـ

 

عن عبدالرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى، ولا طِيَرَة، ولا هامَةَ، ولا صَفَر، وفرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد)) رواه البخاري.

تمهيد:

الإيمان بالله تعالى يستلزم الثقة بحكمته في أفعاله وقدرته التي لا تحد، مع امتثال أوامره، والتوكل المطلق عليه وحده، والسير على نهج رسله عليهم السلام، مصاحبًا الأخذ في الأسباب، والاهتداء بسنته في خلقه، وإعداد القوة المادية والمعنوية، ثم اللجوء إليه طلبًا للنجاة، أو أملًا في خير ما عنده، فهو سبحانه مولانا وناصرنا وموفقنا، فنعم المولى ونعم النصير، فلا نحزن عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، ونجزم أنه وحده هو الذي يكشف الغمة إذا حلت، ويدرأ البلاء إذا نزل، علمنا في محكم كتابه ما يربطنا به عبادًا مؤمنين مقتفين أثر رسوله الكريم، نتلو ليلنا ونهارنا {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فلا يحل بنا اليأس لدى البأس أبدًا، ولا ننكص على أعقابنا فرارًا من قضائه وقدره {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

وعلى ضوء هذه التعاليم وفي رحابها الطاهرة وفي سناها الرباني العلوي نحاول جهد طاقة البشر فهم ما ورد في الحديث الشريف ((لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)).

  1. لا عدوى[1]: أي لا سراية للمرض من المبتلى به إلى غيره من الأصحاء وقد كانت العرب تعتقد أن لبعض الأمراض قدرة على أن تتعدى المريض بطبعها لخاصية موجودة فيها، أي أنها مؤثرة بذاتها. فوجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الفاعل المختار لكل شيء هو الله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فليس لمرض أن يعدي الآخرين إلا بإرادة الله ومشيئته فالأمر مفوض إليه {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ} كما أن كشف الضر عن العليل بإرادة الله {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ...} ومن دعاء إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ومن كلام رسول الله يدعو لمريض: ((أذهب البأس رب الناس، اللهم لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا)).
  2. والطيرة[2]: من التطير وهو التشاؤم من الفأل السيئ[3] ومنشأ الطيرة أن العرب كانت تزجر الطير في المهمات من أمورها، فإذا أرادت قبيلة شن غارة على أخرى، أو رغبت في انتجاع مواطن الكلأ وقصد عيون الماء، أو الخروج من مضاربها في مهم أيًّا كان نوعه زجرت الطير وأهاجته فإن طار على اليمين تفاءلوا خيرًا، ومضوا لمطيتهم، وإن يمم اليسار تشاءموا، وعدلوا عما قصدوا، وقد فطن بعض عقلائهم قبل الإسلام إلى تفاهة هذا العمل وتهافته وسقوطه فأنكروا التطير وتمدحوا بتركه، وفي ذلك يقول قائلهم:

وما عاجلات الطير تدني من الفتى ** نجاحًا ولا عن ريثهن يخيبُ

وقال آخر هازئًا بضاربات الحصى وزاجرات الطير:

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ** ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ

وجاء الإسلام داعيًا إلى بحث الأمور وتقليبها على وجوهها والاعتماد على الله والمضي إلى العمل بعد الرؤية والتدبر {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ونفي نفيًا قاطعًا ما اعتادوه من الرجم بالغيب والتطير وما يمت إلى ذلك بصلة من الكهانة والعرافة وضرب الحصى وخط الرمل، وفي حديث مرفوع عن أنس: (لا طيرة والطيرة على من تطير)[4] وعن عبدالرحمن بن صخر مرفوعًا: (اذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا)[5] وعن أبي الدرداء: (لن ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيراً)[6] وعن ابن عمر موقوفًا: (من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك)[7].

  1. ولا هامة[8]: ومن مدلولاتها ذوات السموم، ودواب الأرض التي تهم بإيذاء الناس، ومن المروى عن العرب قبل الإسلام أنهم كانوا يعتقدون أنه إذا قتل الرجل ولم يبادر أولياؤه بالثأر له خرجت من رأسه هامة، ويزعمون أنها دودة تدور حول قبره ظمأى إلى دم القاتل، تصيح: اسقوني، اسقوني، وتستمر في دورانها لا تنقطع ولا تنفك عن صياحها حتى يدرك الثأر فتشرب من دمه وتسكن ثم يتلاشى صوتها وتختفي إلى الأبد قال شاعرهم متوعدًا:

يا عمر إن لا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني

وعدل بعض الباحثين عن هذا التخريج إلى أن الهامة طائر من طيور الليل كأنه يعني (البومة) قال ابن الأعرابي كانوا يتشاءمون بها إذا وقفت على دار أحدهم يتوهمها ناعية إليه نفسه، أو ماله، أو واحدًا من أعزائه.

والحديث الشريف ينفي وجود الهامة أو التشاؤم بها في أي صورة تخيلت فهي أما من نسج الخيال إطلاقًا كالمتوهمة في شأن القتيل، وأما انها موجودة فعلًا (كالبومة) ولكن لا شؤم فيها.

  1. ولا صفر[9]: مما يراد بهذا اللفظ (صفر) عند العرب الشهر المعروف من السنة الهجرية، وحية تسكن جوف الإنسان تنهش أمعاءه إذا جاع فيسعى للحصول على الطعام.

فعلى الثاني: ينفي الحديث وجودها مثبتًا أنها خرافة، وإن عض الجوع إحساس خاص يشعر به الإنسان لدى فراغ معدته من مأكل ومشرب، وعلى الأول يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفي النسيء، وهو تأخير أو تقديم بعض الأشهر الحرم عن مواضعها التي حددتها شريعة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وقد جاء بالقرآن الكريم ما يؤكد ذلك قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ...}.

وقد ورث العرب من شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تحريم القتال في أربعة أشهر من السنة تأمينًا لطريق الحج حتى تأتي قوافله من كل فج عميق وهي آمنة مطمئنة تحقيقًا لدعوة أبي الأنبياء {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} ولما مضى بالعرب الزمان وطال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر ولا سيما المحرم، لأن ترك القتال وإيقاف الغارات ثلاثة أشهر متوالية مما يجافي طبيعة العرب وحبهم للنزال والكر والفر، وكانت الأشهر الحرم مانعة لهم من قضاء مآربهم من أعدائهم، فأحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل القتال في محرم، وأخروه إلى صفر، فكانوا يسنون الغارات والحروب في المحرم، ويتركونها في صفر، وقد تحدث عن منشأ النسيء محمد بن إسحاق في السيرة[10] فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عز وجل (القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي من ولد كنانة، ثم قام على ذلك من بعده ابنه عباد إلى أن وصلت إلى أبي ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام، فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبًا فحرم: رجبًا وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عامًا ويجعل مكانه صفر عامًا ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله).

وذكر صاحب الروض الأنف (أن جنادة بن عوف من النسأة، قال وعليه قام الإسلام وقد وجدت خبرًا يدل على إسلامه، فقد حضر الحج في زمن عمر فرأى الناس يزدحمون على الحج فنادى أيها الناس إني أجرته منكم، فخفقه عمر بالدِّرة، وقال ويحك إن الله قد أبطل أمر الجاهلية).

وهذا الحديث مؤيدًا بآية التوبة يفيد أن العرب غيروا ما شرعه لهم إبراهيم عليه السلام اتباعًا للهوى وعدولًا عن أوامر الله تعالى، فنسؤوا في الأشهر الحرم كما مر بك آنفًا، وقد سمي القرآن هذا العمل زيادة في الكفر {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأن حق التشريع في هذا لله وحده العليم بما يفيد الناس وما يضرهم، فترك أوامره إلى غيرها شرك في ربوبيته سبحانه، والعجيب من أمر القائمين بذا النسيء أن يزعموا متابعة إبراهيم عليه السلام وعدم الخروج على ما شرعه لهم مما وصاه الله به حيث جعلوا الأشهر الحرم أربعة كما هي في العدد ولم ينظروا إلى أنهم بدلوا المحرم بصفر تارة والعكس تارة أحرى، فهم لم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة ولهذا يقول القرآن الكريم {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ...}، ودائمًا نرى الخارجين على حدود الله في كل عصر ومصر جرآء على الله، يخيل إليهم أنهم يأتون بالأنسب والأفضل وحاشا أن يكون وصدق الله العظيم {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

  1. نفى هذا الحديث الشريف وجود أربعة أشياء وأبان أنه لا أصل لها، وفي أحاديث أخرى نفى أيضًا وجود الغول والنوء[11].

أما الغيلان فقد زعمت العرب أنها من الشياطين وتسكن الفلوات تتراءى للبشر وتتلون لهم لتضلهم عن جادتهم، فيهلكوا في التيه، وهي مستحيلة الوجود.

أما النوء فقد ورد في كتاب اللغة أن النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يومًا، وكان العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل إلى الطالع منها لأنه في سلطانه.

  1. وفر من المجذوم كما تفر من الأسد: أمرٌ بالهروب السريع، والابتعاد عن مداناة المصاب به، وهو داء يصيب الأطراف غالبًا فتحمر منه ثم تتقطع وتتناثر، يعدي من يقترب منه، وفي سنن أبي داود مرفوعًا (إن من العرق التلف) قال ابن قتيبة (العرق مداناة الوباء والمرض)[12].

وجمعًا بين أول الحديث وآخره وتقريبًا لذلك إلى الأفهام، نجد الذين عالجوا هذا الموضوع من العلماء الأعلام أجابوا بأجوبة كثيرة منها:

  • نفى الحديث العدوى مطلقًا، وإنما أمر بالفرار من المجذوم (أي الابتعاد عنه) لمعنى يتعلق بالمريض نفسه، وهو ابعاد الأصحاء عنه لئلا يتأثر بما هو فيه فيضعف إيمانه فيضل.
  • حمل لا عدوى على قوى الإيمان صحيح التوكل بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه التطير الذي يحل النفوس البعيدة عن ربها، وأمرُ الفرار لمن اتصف بعكس ذلك.
  • اثبات العدوى من الجذام، واضرابه من الأمراض المعدية وقصر الأمر بالفرار عليها خاصة.
  • أن المقصود بنفي العدوى بيان أن المرض لا يعدي بطبعه خلافًا لما كان يعتقده العرب من أن الأمراض تعدي بطبعها ولا يضيفون ذلك إلى إرادة الله ومشيئته، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم الاعتقاد بقوله وفعله، فقد أكل مع مجذوم وقال (ثقة بالله وتوكلًا عليه) ليبين أن الله تعالى هو الذي يمرض وهو الذي يعافي، ونهاهم عن الدنو منه ليعلموا أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل بل الله هو الذي إن شاء سلبها قوة التأثير فلا تؤثر شيئًا وإن شاء أبقاها فأثرت والله أعلم.

ونتابع السير في رحاب السنة الشريفة وهي تتحدث عن الأوبئة التي تعرض للبشر وكيف يجابهونها فنجد حديث الطاعون الذي عده الأطباء المعاصرون إعجازًا في الحجر الصحي والطب الوقائي وسأورده بتفاصيله وأترك نواحيه الطبية لذوي الاختصاص من نطس الحكماء وأطرقه من نواحٍ أخرى تتعلق بموقف أمير المؤمنين عمر حيال ما عرض له في رحلته إلى الشام.

عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به في الأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه)[13].

فقد نهى عن ولوج الأماكن الموبوءة بالطاعون بعدًا عن أسباب قد تؤدي إلى الهلاك، ونهى في الوقت نفسه عن الخروج من الأرض المنتشرة بها الطاعون فعلا ليظهر التوكل عليه وتفويض الأمر إليه وحصرًا للمرض في مكانه.

والخلاصة:

أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل مطلقًا، فنواصينا بيد من خلقنا، فنحن إذا اقتربنا من الخطر وأصبنا فبقضاء الله وقدره، وإن ابتعدنا ونجونا فبتدبير الله وتوفيقه، وكل من عند الله سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويؤيد هذا المعنى تصرف سيدنا عمر رضي الله عنه وتعليله لذلك التصرف بعد مشاورة طويلة مع أصحابه يوم خرج إلى الشام وعلم أن بها وباء ونسوق نص الحديث لنرى الوقاية والإيمان، والثقة بالله والتوكل عليه مع الأخذ فيما اعتيد من الأسباب، وكيف اجتمع ذلك في فعل سيدنا عمر رضي الله عنه وتوجيه ذلك الصحابي العبقري الملهم.

ورد في الصحاح أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام إذا كان بسرغ لقيه أبو عبيدة عامر ابن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال لابن عباس رضي الله عنهما: ادع المهاجرين الأولين، قال فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم، خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه، وقال آخرون معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال عمر ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي الأنصار، فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، قالوا نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فأذن عمر في الناس، إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: يا أمير المؤمنين أفرارًا من قدر الله؟ قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى، أرأيت لو كان عندك ابل فهبطت واديًا له عدوتان، احداهما خصبة، والأخرى جدبة، ألست ان رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى، وان رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال فجاء عبدالرحمن ابن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجاته، فقال ان عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه).

حين نتأمل هذه المحاورة بين عمر وصحبه، وننظر إليها من زاوية أخرى غير الزاوية الطبية كما أسلفت زاوية القيادة الحكيمة الناصحة للأمة الواعية التي ترسم خطوط حكومة رشيدة نلتقي بالمثل الطيب الكريم لما يجب أن يكون عليه الرعاة الحقيقون بتسنم غارب الفخار الإنساني، فعمر رضي الله عنه يؤمن بالله وبرسوله وليس لديه نص فيما هو متعرض له فيجتمع بالناس كل فريق على حده ليصل إلى القول الفصل الذي تطمئن إليه نفسه ويرتاح معه ضميره المؤمن، ويتركه منهجًا لمن بعده على درب التاريخ الطويل، يستوي رأي المهاجرين مع رأي الأنصار في المشورة فريق يرى الرجوع وفريق يقر المضي في الطريق، فيعمد عمر رضي الله عنه إلى مشيخة قريش من مهاجرة الفتح لعلهم يرون ما يرجح إحدى الوجهتين فيكون القول ما قالوا وهو الرجوع ثم يجيء الصحابي الكبير عبدالرحمن بن عوف، الذي لم يحضر تلك المحاورات فيروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدًا ما استقر عليه رأي عمر ومشيخة قريش.

ألم يرسم عمر منهجًا لاستخلاص الأحكام فيما لا نص فيه أو على الأصح قبل أن يعلن بالنص؟ أليس في تصرفه ما يحفز علماء الإسلام المعاصرين على التشاور فيما بينهم من الأمور المعقدة التي احتواها زمانهم وأوجدتها صلات المسلمين بغيرهم من الأمم التي لا تدين بدينهم؟ أليس من الواجب أن يوالوا اللقاءات والاتصالات حتى يصلوا إلى الحلول الحاسمة في التقنين المالي والإداري والتشريع العام، حبذا لو تجردوا عن علائقهم المادية أيًا كانت وأخلصوا نياتهم وأعمالهم لله رب العالمين، وطلعوا على الناس بما يهديهم سواء السبيل ويقضي على البلبلة الفكرية والذبذبة المالية والاضطراب في المعاملات وحملوا إلى الدنيا تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم والحلول السليمة على ضوء الشريعة في المشكلات القائمة في شتى صورها وأشكالها، وهم حين يستقر رأيهم على أمر في موضوع ما فسيعد ذلك اجماعًا لا يخالف وحكمًا لا ينقص إلا بمثله، ومعلوم دون دجل ولا مواربة ولا جدل أن الإسلام لا يهدف إلا إلى خير البشر وسعادتهم وما يؤمن لهم العيش الرغيد والمجتمع المطمئن الآمن، ويدعوهم إلى حظهم من الدنيا، والحسنى وزيادة في الدار الآخرة، والله وحده هو الهادي إلى سواء السبيل.

 

[1] عدوى بفتح العين المهملة وسكون الدال وآخرها ألف مقصورة.

[2] طيرة مصدر تطير، ويناظره خيرة، مصدر تخير.

[3] في القرآن الكريم: {قالو اطيرنا بك وبمن معك} وفي الحديث الشريف أنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة.

[4] رواه ابن حبان.

[5] أخرجه ابن عدي.

[6] أخرجه الطبراني.

[7] أخرجه البيهقي.

[8] الهامة بتشديد الميم وتخفف، وفي المختار الهامة واحدة الهوام، ولا يقع الاسم إلا على المخوف من الأحناش.

[9] صفر الشهر بعد المحرم، قال ابن دريد الصفران شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرم، والصفر بفتح الصاد المشددة والفاء المسهلة فيما تزعم العرب، حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع واللدغ الذي يجده من الجوع هو أثر عضها، وفي الحديث (لا صفر ولا هامة) ا.هـ. لسان العرب.

[10] من سيرة ابن هشام على هامش الروض الأنف طبع مصر 1914.

[11] النوء بتشديد النون وسكون الواو، وجمعه أنواء ونوءان كعبد وعبدان.

[12] ص 4 من الطب النبوي لابن قيم الجوزية.

[13] رواه الشيخان.