إشراقة الإسلام كانت بالدعوة إلى العلممقالات

محمد عبداللطيف السبكي

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد الثالث، ربيع الأول 1385هـ.

في غضون ليلة من ليالي رمضان، وفي ظلمة غار موحش برأس الجبل كانت إشراقة الوحي على النبي الأمي بدعوته إلى القراءة.

وفي هذه الدعوة المفاجئة إيذان بأن القراءة وسيلة المعرفة، وإيحاء بأن الثقافة عماد الإنسانية، وتوجيه عُلوي إلى أن الحياة الجديدة التي هبط جبريل يحمل مصباحها إلى محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- هي حياة العقل الراشد، والمعرفة الفياضة، والاهتداء بالعلم في آفاق الدنيا.

أو هي حياة الوعي الإنساني في أكمل أطواره.. أو هي حياة الإسلام وكفى..!

ثم يكون هذا الأمر فوريًّا، ليس معلقًا على شيء ولا مرجأً عن تلك الساعة الراهنة...

وكيف محمد بن عبدالله أمي: لا يعرف كيف يقرأ، ولا يدري وسيلة لتعلم القراءة في ليلته الرهيبة؟

وهنا يتلهف محمد ويعتذر: ما أنا بقارئ.. ما أنا بقارئ، ثلاث مرات.

ثم يتكفل الله برفع الحرج عن مصطفاه، ويلقنه جبريل الأمين بقية وحيه الأول.

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، وبهذا يعلمه أن بدء القراءة يكون بذكر التسمية لله ذي القدرة على خلق الإنسان من علقة هينة الشأن.

ثم ينتقل به نقلة ثانية إلى التوجيه نحو العلم، والعلم لا شك ثمرة القراءة للإنسان.

ويشيد بالقلم، لأنه الأداة الحتمية لقيد العلم، وتدوين بنوده، وضبط شوارده، ليكون عماد الإنسانية، وثروة الدنيا، ووسيلة الحضارة على تعاقب الأزمان والأجيال، كما ينشد الإسلام في دعوته إلى العالم كله.

ولم يكن القلم كذلك بالنسبة للنبي المبعوث بهذه الرسالة، لأن الله كرمه عن الحاجة إلى القلم وتعهده بالوحي من عنده، ورفعه عن بهتان الأفاكين، واتهامهم له بأنه ينقل عن إنسان سواه، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فالأمية في شأنه تمام الكمال له صلى الله عليه وسلم.

ثم لتنظر بعد ذلك: هل العلم المطلوب نوع واحد؟ أو كله مستمد من جانب خاص؟

الذي نعهده -أولًا- أن العلم يكون فيضًا محضًا من جانب الله، وهذا رسالة الله إلى خلقه من طريق الوحي إلى رسله، وذلك علم الدين.

أو هو علم كسبي يهدي الله إليه من يشاء ممن توافرت لهم المواهب ونبهت فيهم القرائح، ونشطت منهم العزائم فطرقوا أبواب العلم من جهاته المتعددة، والتمسوه بالحواس، وبالعقول، والتجارب، وأغراهم النجاح بمواصلة السير في آفاقه فأسلست لهم المعرفة قيادها، ولا تزال في طريقها الفسيح الممدود، وذلك في علوم الدنيا.

وعلى جوانب العلم الصحيح نبتت معلومات أخرى لا تعتبر من علم الدين، ولا من علوم الدنيا، وإنما هي في الحقيقة كالطفيليات، تنجم في مجاري الماء وعلى متون الحقول، فيحسبها البسطاء فصائل من النبات، وليست بنبات مفيد.

ومنها كهانة الكهان، وهي تراث قديم مزيف ولا تزال شائعة بين الناس.

فإن لم يكن -على اطلاقه- مستمدًّا من الوحي، أو كسبًا بالمواهب الرشيدة فالكهانة غير ذلك كله.

والذي نعهده: أن الكهانة في قديمها وحديثها تخمين مصطنع وتتظاهر جريء بمعرفة الغيب الذي لا يعرفه الناس.

وبيانها في ضوء القرآن والسنة: أن الله سبحانه يعلم الغيب وحده، وأنه لا يبدي غيبه إلا إذا شاء، ولمن شاء من ملائكته ورسله.

فعند ما يبرز شيئًا من غيبه لملائكته، ليتهيأ كل ملك منهم لتنفيذ ما يتعلق به من شؤون الدنيا وأهلها يتحدث الملائكة بهذا فيما بينهم.

وقد جعل الله للشياطين من الجن قدرة على محاولات لا يطيقها الإنسان، فكان من دأب الجن أن يصعدوا إلى السماء فيقتربوا منها ليستمعوا أحاديث الملائكة، ثم ينزلوا خبثاء الناس الذين يلابسونهم في الأرض ويلقوا إليهم بما سمعوا، ويخلطوه بالكذب الكثير من هندهم.

ثم يتحدث هؤلاء الكهان إلى الناس بما عرفوا أو يزيدون فيه أو ينقصون منه ويبدلون.

فإذا أصاب الكهان صدفة في بعض ما يقولون حسب الأغرارُ من السامعين أن الكهان يعرفون الغيب المكنون عند الله.

وعلى هذا راجت الكهانة، ولا تزال مقبولة عند أناس، وهي فتن شيطانية تفسد عقائد مصدقيها، وتزعزع ثقتهم في علم الغيب.

وكان هذا فاشيًا قبل الإسلام.. ولكن الله أعجز الشياطين عن الكثير من هذا أو عن أكثره فلم يعد لهم كبير تأثير في هذا منذ نزل القرآن، وبعث به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.

وإن يكن هناك قليل فإنه لاختبار الناس في تدينهم، وفي تصديقهم للأكاذيب على ربهم.

والله يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.

ويحكي عن الجن قولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}، وذلك أن الملائكة تحرس السماء من محاولات الجن.

فإذا حاولوا كعادتهم تبعتهم بالشهب النارية فتحرقهم أو تطاردهم فيعودوا فاشلين.

وبهذا نعلم أن الله كفانا شرًّا كبيرًا من محاولات الجن، وعلمنا أن لهم ضلالات، لنتحفظ من الكهان، ولا نطيع الأباطيل التي يستخدمون فيها الفنجال والودع، وضرب الرمل، واستحضار الشياطين.