المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد الخامس، جمادى الأولى 1385هـ
خطة مريبة:
حين ظهرت الترجمة لدائرة المعارف الإسلامية كانت موضع الارتياح من أناس كثيرين، كما قوبلت بنقد عاصف من الجهات المحافظة، عبر عنه الأستاذ الكبير محمد فريد وجدي بقوله نقلًا عن مجلة الأزهر (نور الإسلام سابقًا) ربيع الأول 1953:
((أن هذه الدائرة تشمل على الشيء الكثير من التهم الباطلة عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم ورجالاته الصالحين، ولا يدفع ببعض هؤلاء المستشرقين إلى التورط في هذه الخطة المريبة إلا ما يحملونه في صدورهم من البغضاء لهذا الدين، فلا يصح والحالة هذه أن يحمل المترجمون أنفسهم إثم نقل هذه السفاسف إلى لغتهم وبأقلامهم، ليقرأها الناس في جميع بلاد المسلمين، فالذي أراه أن يمتنعوا عن ترجمة ما يصادفونه من هذه الأباطيل، وأن يكتفوا بالإشارة إليها مشفوعة بما يدحضها، ويبين فسادها بكل دليل)).
ونقد العلامة الأستاذ فريد وجدي رحمه الله ينصبُّ على المفتريات الصارخة من أمثال ما نقلوه عن حديث الإفك وإيمان أبي بكر وأبي هريرة والسنة والحديث والإجماع والتصوف في الإسلام، مما اعتوره الخطأ المقصود والتدليس الآفك وقد رأى الأستاذ أن التعقيبات الخاطفة في هوامش الدائرة لا تكفي للإطاحة بهذه الشبهات البغيضة لأننا نترجم هذه الشبه بإفاضة، ثم نوجز نقدها إيجازًا لا يقطع الشك، والأولى أن نمتنع عن ترجمتها أصلًا.
على أن هناك ناحية هامة من نواحي الخطر فيما يترجم من أعداد الدائرة لم نر من تعرض لها بالتحليل والإيضاح، وهي تسيطر البدع الدخيلة على الدين الإسلامي باستفاضة مثيرة، فقد أمعن مؤلفو الدائرة في تسجيلها وشرحها وكأنها أصول مقررة لا بدع دخيلة!!
والإفاضة في تسطير هذه البدع على أنها من المعارف الإسلامية شيء غريب حقًا، لأن الإسلام يبرأ منها، وما جاء إلا لمحاربتها، فكيف تكون من بين المعارف الإسلامية التي يعني الباحثون بتسجيلها في دوائر عامة تأخذ منزلة القواميس والمعاجم في الذيوع والاشتهار.
خلط متعمد:
وكان على المؤلفين لو صدقت نياتهم أن يبتعدوا عن تسجيل هذه البدع في دائرة يقال أنها تحصي المعارف الإسلامية، ولهم أن يتحدثوا عنها في كتب أخرى تتحدث عن عادات الشعوب وتقاليدها، أما أن يبحثوا عن الخرافات في كتب العادات والتقاليد، لتدون بعد في دوائر المعارف الإسلامية، فهذا خلط مقصود متعمد، أما أنه خلط فأوضح من أن يدل عليه، وأما أنه متعمد فلان مؤلفي الدائرة ليسوا من البلاهة بحيث لا يفرقون بين أساطير البدع وحقائق الشريعة! وسنوضح ما نعنيه بمثال من أمثلة الدائرة يدل بمغزاه على عشرات النظائر والأشباه.
قدم المستشرق الإنجليزي المستر (ادورد وليم لين) إلى مصر في يوليه سنة 1825 لدراسة آثار المصريين القدماء، ولكنه اختلط بطبقات الشعب المختلفة، فعرف من عاداتهم وتقاليدهم في المواسم والأعياد والأفراح والأحزان والصحة والمرض ما حبب إليه أن ينقل طرائف نادرة عما يرى ويسمع، وقد اتخذ لنفسه منزلًا في العاصمة وسمي نفسه (منصور أفندي)، وتزيا بزي الأتراك، وادعى الإلهام ليتمكن من محادثة المسلمين في أسرار معتقداتهم كما يقول، وجعل يغشى المساجد وحفلات الذكر وموالد الأولياء، ويتسمع إلى أحاديث الكرامة والمعجزات والخوارق حتى تسنى له أن يكتب مؤلفه الذائع عن شمائل المصريين المحدثين وعاداتهم في جزءين كبيرين، فاهتمت به دوائر الاستشراق في أوروبا، وتناقلته اللغات المختلفة في الشرق والغرب، وأصبح لدى المنصفين مرجعًا شعبيًّا لمن يدرس العادات والتقاليد، كما صار في الوقت نفسه أحد المراجع الهامة لمؤلفي دائرة المعارف الإسلامية ينقلون عنه الخرافات وكأنها حقائق، وليس على الرجل نقد فيما كتب، فهو يعترف أنه يتحدث عن عادات وتقاليد، ولكن المؤاخذة كل المؤاخذة تتجه لمن سولت لهم نفوسهم أن يحشدوا الغرائب العجيبة في دائرة المعارف لتصير في رأيهم بمرور الزمن حقائق متداولة، وهي ظاهرة البطلان في نظر السذج بله المثقفين الثقاة.
الدوسة:
من أطرف ما ذكره الأستاذ إدورد وليم لين ما يسمى بالدوسة لدى بعض الفرق المنتسبة للطرق الصوفية، وهي ملهاة مضحكة تدل على غفلة العقول في عصور التأخر والانحطاط، وقد لخصها أستاذنا الدكتور أحمد أمين في كتابه المعروف بقاموس العادات والتقاليد المصرية، وقال عنها: إنها تحدث في ربيع الأول من كل عام إذ يجتمع أرباب الطرق على نظام خاص، ثم يسير الموكب متنقلًا في شوارع العاصمة ببيارقه وأعلامه وطبوله وراياته، وبه كثير من المشعوذين بعضهم يأكل الزجاج، وبعضهم يأكل الثعابين وبعضهم يضرب صدره بدبوس ذي رأس كبير في عنف وقسوة، ومنهم من يضع حد السيف في بطنه ثم ينام فوقه، ويأتي شيخ الطريقة فيبل يده بريقه ثم يمسح على بطن المريد حتى لا يتأذى من حد السيف، وعندما تصل هذه المواكب إلى ساحة المولد ينبطح الكثيرون على وجوههم في صف كبير، فيمر فوقهم شيخ السادة السعدية بحصانه، يقوده اثنان من أتباعه، ويعتقدون أنهم سينالون من ذلك بركة كبيرة!!
هذه طرفة نادرة، ولا على الأستاذ لين أن يذكرها بين ما شاهد في كتاب عن عادات المصريين في بعض عصور الانحطاط، ولا على الأستاذ أحمد أمين أن يسردها في قاموس العادات والتقاليد الشعبية، إنما الحرج أن تكون بين المعارف الإسلامية، فتخصص لها ثلاثة أعمدة طوال في صفحات 317 و 318 و 319 من المجلد التاسع حيث تحشد أسماء الأولياء من أمثال السلطان الحنفي والدشطوطي ويونس السعدي والبكري، ويزاد على ذلك ما يوهم التعلق بأصل إسلامي، فيقول كاتب الدائرة: ولا شك أن اصطناع الطريقة السعدية للجواد يتصل برتبة صاحب طريقتهم بوصفه من سلالة النبي! وقول الكاتب لا شك بصيغة الجزم والإيقان يدعو إلى السخرية فإن نسبة شيخ السعدية إلى السلالة النبوية محاطة بالشكوك القوية من ناحية، واصطناع الجواد على هذه الصورة المنكرة لم يعرف إطلاقًا عند آل الرسول وسلالته حتى يكون هذا التقليد جائزًا مستساغًا لرجل يدعي الانتساب إلى آل محمد صلى الله عليه وسلم، وليت شعري في أي كتاب تاريخي نص على اختصاص سلالة الرسول الأطهر بما يأباه نبي الإسلام، ويدعو إلى محاربته، ومتى كان لأحد أفراد هذه السلالة أن يبتدع ما لم يأذن به الله حتى يكون فعله الجريء تقليدًا إسلاميًا يذكر دون اعتراض!.
إن الحرص على تسطير هذه المأساة ومحاولة إلصاقها بمصدر ديني ليفصح عن دخيلة عليلة لدى من يسرهم أن يشوهوا محاسن الدين الإسلامي بالتي هي أقبح وأفدح.
لا تترجموا الدخيل:
هذا مثال من عشرات، وهو يدعو إلى النظر الدقيق فيما نشر بالعربية من أعداد دائرة المعارف الإسلامية، ونحن قبل كل شيء نعترف بجهود حضرات المترجمين وخلوص نياتهم الصادقة، ورائع همتهم البارعة في إنجاز هذا العمل الضخم بما لا يجرؤ على إنكاره منصف يزن الأعمال بميزانها القويم، ولسنا مع الأستاذ فريد وجدي حين نادى بوقف الترجمة وامتناعها كيلا تسيء إلى الشبيبة الإسلامية بما تقدم من آراء مدخولة لا يتبين وجه الصواب فيها غير الدارسين المتبصرين ولكننا درءًا للخطر، وأخذًا بالحيطة ندعو إلى الاقتصار في الترجمة فيما سيجيء من الأعداد على الصحيح المتيقن من خالص القول وصادق الرأي، مع اغفال ما يحوطه الريب، ويعتوره الشك، ولسنا بذلك نخل بالترجمة العربية، إذ نعلن أن خطتنا أن نقتصر على النافع المفيد من وجهة النظر الإسلامية، ولن يعنينا أن تكون الترجمة حرفية مستوعبة إذ أن الحرص على ذلك يقذف بالتهم ظلمًا إلى الإسلام والمسلمين.
وقد يقول قائل إن البتر والحذف في الترجمة إهدار للأمانة العلمية في النقل، ونحن نرد على ذلك إذا ووفق على اقتراحنا الراهن بأننا سنظهر خطتنا الجديدة للناس، فنعلن أننا نختار من الدائرة فقط لا أننا نلتزم بكل ما بها من بحوث، ولن يكون ذلك إهدارًا للأمانة العلمية بل توقيًا لأوهام تتجسد حتى تكون سحبًا قاتمة تغشى نور الحق، وتطمس لألاء الإسلام.
أما محاولة الرد في الهوامش وفي أعقاب المباحث فقد روعيت فيما نشر من الأعداد العربية، ولم تستطع في بعضها -لا في جميعها- أن تفي بالمراد، فقد تكون الشبه المسطورة مطيلة مسهبة كما لاحظ العلامة الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله، ثم يأتي التعليق موجزًا مبهمًا لا يؤدي رسالته، بل أن التعقيب في بعض المباحث يكون -على طوله- فاترًا ضعيفًا يوحي بقوة الشبه وإطالتها، وإذ ذاك يثبت الباطل ويضيع الحق.
مستشرقون مبشرون:
على أننا لا ندري لماذا نجبن عن الاعتراف بأن أكثر كتاب الدائرة قسس مبشرون يهمهم أن يتحيفوا الإسلام لا أن ينصفوه وقليل منهم من يتصف بالشجاعة العلمية فيتغلب على عناصر التعصب والضيق، ومن كان كذلك، لقي من زملائه قارع التأنيب وعنيف النقد، وليس كتاب الدائرة وحدهم من هذا النمط، بل جل المشتغلين بالدراسات الإسلامية لا يتجاوزون صناعة التبشير، تعرفهم في لحن القول بتخيلاتهم المريضة واستنباطهم المغرض، وافتراضهم المتمحل، وأقرب مثال لنا هو المستر توماس باترك هيوز صاحب قاموس الإسلام، وهو مرجع متداول لا تكاد تخلو منه مكتبة أوروبية فقد قضى القس المؤلف في وظيفته التبشيرية ببلاد الهند بين المسلمين والبرهميين والبوذيين أكثر من عشرين سنة معجمه -كما يقول- هداية للموظفين الإنجليز ممن كانوا يتولون الحكم ببلاد الهند في أواخر القرن الماضي، ومساعدة للمبشرين بالمسيحية ممن يجادلون علماء الإسلام، وللباحثين في الأديان المقارنة، وقاموس كذلك يصدره قس مبشر متعصب لا يمكن أن توصف أبحاثه بالحيدة والإنصاف، وما أكثر ما يدور في فلكه من الدوائر والمعاجم والقواميس، أفيجوز لهؤلاء وأشباههم أن يقولوا في الإسلام ما يشاؤون، ولا يجوز لنا في الترجمة العربية من دائرة المعارف الإسلامية أن نختار ما نشاء فإن فعلنا ذلك كنا -في نظر سدنة الاستشراق- غلاة متعصبين!
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.