المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد الثامن، شعبان 1385هـ
حب الله ورسوله، والتحاب في الله وكراهية الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان:
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) رواه البخاري.
مضى بنا القول في هذا الحديث الشريف عن الخلال الثلاث التي وردت فيه إجمالًا، وأشرنا إلى أنها جمعت أطراف الخير، وملكت نواحيه، وأن الحصول عليها والاتصاف بها سعادة ما بعدها سعادة، وراحة قلبية لا تعادلها راحة، ثم تساءلنا لماذا نحب الله ورسوله؟ وأجبنا على هذا التساؤل، ولم يتسع المقام لتفصيل كيفية حب الله ورسوله حبًّا منتجًا نافعًا، ثم الإفصاح عن التحاب في الله، والإبانة عن وجوب كراهية العود إلى الكفر بعد الإيمان، وكل أولئك هو ما سنعرض له في هذا المقال.
- أولًا: حب الله ورسوله وكيف يكون؟
- حب الله يكون بامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، فالحبيب منقاد دائمًا لمن يحب، مطيع لما يأمر، منفذ لما يشير به، والله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما ينفع ويسعد، فهو سبحانه يريد للإنسان أن يعمر الدنيا بالعلم النافع والعمل المفيد، فقد جعله خليفة الأرض، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وعلمه الأسماء كلها مما سيمر عليه في هذه الحياة ليدأب في البحث عنها وينتفع بها حين يكتشفها، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال المفسرون المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدال والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيًّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهي تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح.
والحكمة في تعليم الله آدم أسماء الأشياء ومسمياتها أن الله تبارك وتعالى أراد تشريفه وبيان علة اصطفائه له، كيلا يفخر عليه الملائكة بما علموا، وعرفوا مما علمهم الله وعرفهم، وأما إظهار أسرار العلوم المكنونة في غيبه سبحانه فيحصل واقعًا على يد من يشاء الله من عباده في مختلف الأجيال والعصور.
- وما دام الإنسان خليفة في الأرض فلا بد له أن يوجد مجتمعات فاضلة تسودها المحبة والإخاء والتعاون والتواد والسلام والأمن والطمأنينة، حتى يستطيع العاملون أن ينتجوا وينشئوا حياة حرة كريمة تدفع العالم في مدارج التقدم والرقي على أساس متين من تعاليم الله التي أوحاها إلى رسله عليهم السلام، وختمهم بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الذي أنزل الله عليه الكتاب تفصيلًا وتبيانًا لكل شيء، وكانت سيرته -في المدة التي عاشها داعيًا ومشرعًا وقائدًا وحاكمًا وهاديًا ومرشدًا- تحمل الخطوط العريضة لكل مسالك الحياة ودروبها.
- وقد رسم الرسول عليه السلام القاعدة التي يمكن في ظلها الإنتاج البشري الصالح في كلمات قصيرة اللفظ عميقة المعنى واسعة الدلالة فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال) فالقلق والخوف والجوع والمرض مزعجات تتلاشى معها القوى العاملة، وتبيد في ظلها كل عوامل الخير والرشاد، وتسود الفوضى، ويعم الفساد.
والطمأنينة والأمن والقوة والعافية كل أولئك يحمل الإنسان على الدأب والتنقيب والبحث عن مكنونات الوجود لخير الناس جميعًا، فيكتشف مخبآت الأرض والبحار والهواء والماء وكل ما يحيط به من علويات وسفليات، وما يشاء الله له أن يعرف من أسرار الكون ويستخدم معلوماته في تخفيف آلام البشرية وإيجاد مستويات متقدمة أرقى وأفضل.
فلهذا كان حب الله ورسوله عاملًا أساسيًّا على تثبيت أركان الفلاح والصلاح في هذه الدنيا، فمن أحب الله ورسوله سلم الناس من لسانه ويده، فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وتكاتفوا، وشد بعضهم أزر بعض، وسد واجدهم حاجة معدمهم، فساروا كتلة متراصة لا ينفذ إليها الضعف، ولا يعترض الوهن ولا الخور سبيلها.
- لو جعل الناس أساس علاقاتهم وقوام صلاتهم المنافع المادية البحتة لتقطعت بهم السبل، وضلوا الطريق، فمن يستطيع أن يرضي الناس جميعًا بماله مثلًا ولو كانت عنده خزائن قارون وله ملك سليمان؟ لا أحد! وفي الأثر (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) ومن تحابا في الله جعلا أساس علاقاتهما رضاه فصفت نفوسهم للخير، وصغت لداعي البر والمعروف، وأخمدت جذوة الغضب، وقلت بوادر الشقاق والعنف والعداء، وحمل كل منهما حال صاحبه على الخير حتى ولو أساء إذ يلتمس لإساءته عذرًا، فيستر خطأه، ويبارك صوابه، يحفظ عرضه وماله إرضاء لله وتلبية لداعي الحب فيه.
- ومن عجبٍ أنا لو دققنا قليلًا في أحوال المتحابين في الله لوجدناهم ملتقين على المنافع المادية أو في وأكمل وأعظم ما يلتقي الناس من حيث لا يشعرون، فلا يرضى أحدهم أن يساء أخوه أو يجوع أو يعرى وهو يستطيع أن يصد عنه الإساءة، ويسد جوعته، ويستر عريه، يؤثره على نفسه ولو كانت به خصاصة لأنه يرجو بمساعدته عون الله وتوفيقه، ولأنه يؤثر الآجل فيصبر على العاجل، وحين يشقى من أجله ظاهرًا يسعد باطنًا، ويهدأ نفسًا ويطيب قلبًا، لأنه يثق أن الحياة الدنيا متاع فيكفيه قليلها، ويصل أخاه في الله بكثيرها، ويؤمن أن الدار الآخرة هي الحيوان فيعبر إليها عن طريق بذل كل جهد وقوة ومال وولد في سبيل الآخرين وإسعادهم ليحظى عند العلي الكبير بما أعده له وما ادخره لأمثاله من الجزاء الحسن.
- والمتحابون في الله تسعد بهم أوطانهم وأقوامهم حيث لا يصدر عنهم إلا العفو والعافية، ويعملون دائبين متعاونين في حقول الكرامة والإيثار يكفون أيديهم عما يؤذي، ويبسطونها بما يفيد ويجدي، ويمرون باللغو كرامًا، ويزرعون الحب ويقتلعون الغل والحقد والحسد، ينمون الفضائل ويبيدون الرذائل، يستلون السخائم من النفوس ويملؤونها مودة ورحمة وعافية وتراحمًا وأملًا كريما.
- ثالثاً: كراهية الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
- من آمن بالله ودخل في زمرة المصدقين برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسعد بما يسعد به من استظل براية الإسلام وذاق حلاوة الإيمان مع المؤمنين، وعاش في أوطانهم وهو واحد منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وخالطت معرفة الله وجدانه، وملكت عليه حواسه، لا يستطيع أن يفلت من ربقة الإسلام، ولا يمكن أن يعود إلى الكفر بعد الإيمان، فإيمانه يبغض إليه الكفر، وينفره من اسمه فضلًا عن العودة إليه، وقد شبه الرسول صلوات الله عليه وسلامه كراهية العود إلى الكفر بكراهة القذف في النار، لأن كراهة القذف في النار أشد على النفس من غيرها.
- وقد حدد الشارع جزاء قاسيًا لمن تسول له نفسه الرجوع عن الإيمان وهو القتل، وسماه ((مرتدًا)) ونظيره في التشريعات المعاصرة ما يطلق عليه الخيانة العظمى وهي إفشاء أسرار الوطن وإطلاع العدو عليها لينال منه، وعقوبة الخيانة العظمى الإعدام وهو جزاء عادل لمن تسول له نفسه هتك ستر البلاد والعباد التي نعم بالعيش في ظلها دهرًا طويلًا.
- الإيمان نور يقذفه الله في القلوب، ويشرح له الصدور، والأرض الصالحة تنبت إذا أصابها الوابل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
- للإيمان حلاوة ولذة روحية وعقلية يجدها من تجافى عن الماديات، وأخذ منها بالقدر الذي يمسك الذَّماء، ويبقى على الحياة، وجعل في ماله حقًا للسائل والمحروم، وفي قوته فضلًا للعاجز المستغيث، وفي علمه هداية للجاهل، وطلب جزاء كل ذلك ممن بيده مقاليد الأمور، فدفع بالتي هي أحسن، وأخذ العفو وأمر بالمعروف، وأعرض عن الدنايا وسفاسف الأمور.
ولو كانت الصلة بالله ورسوله وارتباط الناس جميعًا قائمة على أساس الحب القلبي، اذًا لانجابت كل الشرور وبادت كل عوامل الفساد والإفساد.
فاللهم اجعلنا ممن أحبوك وأحبوا رسولك وتحابوا فيك ومروا بالحياة هادين مهديين، لا يسيئون ولا يساؤون، ينفعون ولا يضرون يعيشون للصالح العام ولا تجد الأنانية إلى أنفسهم سبيلًا، محاطين برعايتك وعنايتك وتوفيقك ولا حول ولا قوة إلا بالله هو حسبنا عليه نتوكل وإليه ننيب.
