المصدر: مجلة الوعي الإسلامي، السنة الأولى، العدد التاسع، رمضان 1385هـ
هذه تحية الإسلام، قوامها السلام والرحمة والبركة.
ومفروض على المسلم أن يدعو بها عشراتِ المرات في صلاته كل يوم، وعشرات المرات في لقائه بمواطنيه، فهي إذًا تطبع حياته اليومية بطابع إنساني متألق، يجعل منه دستور سلوكه اليومي.
تأملت طويلًا في معانيها، وانتهيت إلى أنها تحمل في ثناياها مفاتح السعادة للإنسانية جمعاء، فلو وعاها البشر، وحرصوا على انفاذ مدلولها، لانتفت البغضاء بينهم، وامتنعت الحروب المدمرة، واستقر السلام والرخاء في الأرض.
السلام:
الركن الأول هو السلام، تبشر به التحية، وتدعو إلى بثه في ربوع الأرض، وتجعله البداية الخيرة في كل اتصال للإنسان بأخيه الإنسان، حتى يصير السلام أساس جميع العلاقات الاجتماعية، والركن الثاني هو الرحمة، فالتحية تبرز عاطفة الرحمة، وإبراز هذه العاطفة يهدف إلى تحقيق التراحم والتعاون بين الأفراد والشعوب، والركن الثالث هو البركة، هي ثمرة تفاعل هذين الركنين: السلام والرحمة.
والسلام صفة من صفات الله، واسم من أسمائه الحسنى، والرحمة صفة من صفات الله، فهو الرحمن الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة، والبركة هبة من هبات الله، يهبها أينما يستقر السلام، وتسود الرحمة بين البشر.
ونحن بني آدم الذين فضلنا الله على جميع خلقه، وجعلنا خلفاء في الأرض، قد أُمرنا بأن نتخلق بمعاني صفات الله، فأصبح لزامًا علينا أن نرفع لواء السلام، وأن نؤدي كل الالتزامات التي تفرضها الرحمة، وتنبثق من معنى الرحمة.
ومتى أنجزنا هاتين الفريضتين بكل ما تشتملان عليه غمرت بركات الله أرجاء الأرض.
هذه تحية الإسلام، نرددها عشرات المرات في صلواتنا، وفي لقائنا بمواطنينا، فهلَّا تأملنا مدلول هذه التحية، وهلَّا استوعبنا معانيها، حتى تستقر في وجداننا، ونهتدي بها في سلوكنا اليومي اهتداء طائعًا مختارًا.
ألا فلنشترك معًا في تدبير هذه المعاني:
ولنبدأ بالركن الأول، ركن السلام، الذي أفاض القرآن في الدعوة إليه، وجعله سمة من سمات نعيم الجنة:
قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}.
قال تعالى: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}.
قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}.
قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ}.
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}.
قال تعالى: {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.
السلام نوعان:
والسلام يشف عن معنيين: عن معنى فردي داخلي، وعن معنى جماعي خارجي.
أما المعنى الفردي فهو تلك السكينة التي تغمر قلب المؤمن عندما يشعر أنه قد قام بكل ما فرضه عليه ربه نحو نفسه ونحو المجتمع، عندما يشعر أنه قد أسهم في إنتاج خير يعود على ذاته، وعلى من يعولهم وعلى المجتمع معًا.
عندما يشعر أنه قد أخذ بيد الضعيف، وآسى المكلوم، وداوى الجريح، ونصر المظلوم، عندما يشعر في أداء واجبه أنه إنما يؤديه ابتغاء وجه الله قبل ابتغاء الجزاء المادي.
والسلام بهذا المعنى النفسي أمنية عزيزة المنال، لا سيما في عصور الانحلال المادي، والناس في الظفر به مراتب، أعلاها مرتبة النفس المطمئنة التي تعيش في عصمة سلامها الداخلي، وفي قوة لا غالب لها مهما عصفت حولها الأحداث ومهما تكاثرت عليها الشدائد، حتى تعود إلى ربها في نهاية المطاف راضية مرضية.
وعلى أن السلام النفسي إذا كان مطلبًا عزيز المنال، فإن السلام الخارجي أمنية أعز منالًا.
السلام النفسي يتطلب التدريب الذاتي، والعبادات الإسلامية إذا استكملت أهدافها تقوم بأكبر دور في هذا التدريب، أما السلام الخارجي فيصطدم في كل خطوة بنزعات الشر التي تهدد كيانه، وحوافز البغي التي تحطم بنيانه.
فكل مجتمع -مهما تفاوت أفراده في مراتب السلام النفسي- يود أن يعيش في إطار منيع من السلام الخارجي، حيث لا تفكر أمة في الاعتداء على أمة، لا يخف بلد إلى غزو بلد آخر، وشعور كل مجتمع بأنه في مأمن من العدوان الخارجي عليه وأنه قد أعد العدة لصد هذا العدوان، شرط أساسي لتحقيق ما ينشده المجتمع من فلاح وعمران.
ولكن كل مجتمع يتألف من أفراد، من نفوس بشرية خصَّها خالقيها بحرية اختيار بين النجدين بين الخير والشر، وكل مجتمع يضم بين جنبيه رعاة ورعية، حكامًا ومحكومين، قادة ومقودين.
ومن بين أولئك وهؤلاء نفوس نزاعة إلى الشر والبغي، وما فتئ تاريخ الإنسانية حافلًا بمعارك عدوانية بين الأمم، وبالدفع والصراع بين المعتدين والمعتدى عليهم.
قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}.
ومن هنا كان العمل على صون السلام بهذا المعنى مطلبًا محفوفًا بالمكاره يقتضي السهر الدائم والكدح المستمر من أجله، ويفرض الإعداد الكامل لدفع كل ما ينقصه، والتأهب الناجز لرد كل عادية عليه.
لذلك ندبنا خالقنا -وهو العليم البصير بنزعات النفس البشرية- إلى مداومة التأهب والاستعداد لصد كل عدوان على السلام من المفسدين في الأرض، فقال جلَّت حكمته: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وحدد لنا هدف هذا الاستعداد بأن يكون الإرهاب الرادع لا الاعتداء الباغي.
كما حدد صفة عدونا هذا بأن يكون عدو الله، أي عدو الحق والعدل وخير الإنسانية جمعاء، ثم أطلق التعبير ((بالقوة)) لتنصرف إلى القوة المعنوية والقوة المادية معًا.
معنى القوة في الآية:
تنصرف إلى القوة المعنوية بما يتفرع عنها، وما تغرسه في نفوسنا من فضائل خلقية وصلابة قومية، إذ بغير هذه القوة المعنوية لا يكون لأي سلاح أو عتاد تأثير ناجح في صد العدوان.
وتنصرف إلى القوة المادية بل تشتمل عليه من إعداد الكفاية من الجند والسلاح والعتاد، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة في {رِبَاطِ الْخَيْلِ} وبما تشتمل عليه من تعبئة الموارد الاقتصادية على نحو يكفل أكبر قسط من الاكتفاء الذاتي في المؤن والأقوات، ويكفل التصنيع القادر على موالاة الامداد بالسلاح والعتاد.
لا بد للسلام من قوة:
هذه القوة في مادياتها ومعنوياتها هي الشرط اللازم لحفظ السلام الذي نتنادى به في تحيتنا الإسلامية، لكي نتذاكر مقتضيات السلام، فلا نغفل لحظة عنها ولا نتراخى في استكمالها، على الوجه الذي يلائم مطالب كل عصر.
الرحمة:
أما الركن الثاني في تحيتنا اليومية فهو ركن الرحمة، رحمة الله كما أرادها أن تكون بين عباده، وما أوسع آفاق هذه الرحمة، وما يترتب على كل معنى من معانيها.
فالرحمة متى انتشر لواؤها في مجتمع عاش أبناؤه في تواصل وتعاون، فلا تجد فئة مترفة إلى جانب كثرة في متربة.
والرحمة متى ازدهرت في وجدان المجتمع سار أفراده في ابتغاء الرزق وفي سعيهم الاقتصادي بالرفق والعدل وبالتعاون والتكافل، لا بالكيد والجشع والأثرة والتناحر.
والرحمة متى سادت في مجتمع انتفى منه البغي والاستغلال وصار كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
وربنا الرحمن الرحيم كتب على نفسه الرحمة بعباده وآيات رحمته لا يحصيها العد، حتى كتبه التي أنزلها على رسله لهداية البشر كانت من آيات رحمته بعباده.
قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
قال تعالى: { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}.
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
قال تعالى: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
قال تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
ونحن إذ نتبادل تحيتنا الإسلامية إنما نتذاكر فريضة الرحمة، ونتذاكر آيات رحمة الله بعباده، فلا غرو أن تكون الرحمة -وكل ما ينبني عليها من معان واتجاهات- هي شعار كل مجتمع إسلامي في علاقاته الاجتماعية.
البركة:
أما الركن الثالث في تحيتنا الإسلامية فهو ركن البركة، بركة الله التي يغدقها على كل مجتمع تسوده الرحمة ويحرص على مقتضيات السلام.
فإن تداعينا ببركات الله في تحيتنا اليومية فلنتذاكر شرائط استحقاقها فبغير عمل دائب يصون السلام لا تكون بركة ولا نماء، وبغير الرحمة لا يكون تعاون وتكافل بين الناس، فيحل الصراع الطبقي في داخل كل شعب، ويحل الصراع العالمي بين الشعوب.
وبعد فهذه بعض المعاني التي تتدفق من ثنايا تحيتنا الإسلامية، حبذا لو وعاها كل مسلم وعمل على هديها.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.