كيف ابتدأت الدعوة إلى الإسلام؟مقالات

عبدالباقي سرور نعيم

تاريخ الدعوة إلى الإسلام مملوء بالعبر والعظات، وضروب الهداية، وأنواع الرشد، يجد المطلع عليه والباحث فيه آثارًا تهديه إلى أن نظام الدعوة الإسلامية كان أدق نظامًا عرف بين أنظمة الدعوات الصادقة.

لم تكن الدعوة الإسلامية دعوة سياسية يستحل دعاتها فيها الكذب والرياء والنفاق والغش والخديعة والمواربة واستغواء العواطف واستمالة الأهواء، بل كانت دعوة إلى الحق، كانت حقًّا في ذاتها وفيما تدعو إليه وفي طريق الدعوة.

لم يستعمل صاحب الدعوة صلوات الله عليه أي وجه من وجوه الحيلة، ولم يلجأ لأي ضرب من ضروب المكر، لا فيما يدعو إليه ولا في كيفية الدعوة قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

فوسائط الدعوة هي:

  • الحكمة.
  • الموعظة الحسنة.
  • والمجادلة بالتي هي أحسن.

هذه هي طرق الدعوة إلى سبيل الله، وسبيل الله هو الإسلام، والإسلام حق واضح، وكيفية الدعوة إليه من الحق الواضح كذلك.

وليس المراد من الجدل الإسلامي هو ما تواضع عليه المنطق بل المراد به إقامة الحجة القاطعة المقنعة، لا مغالبة الخصم بحق أو بباطل.

وإذًا فالدعوة إلى الإسلام كانت تعتمد على الموعظة والتذكير، وكانت تعتمد أيضًا على الإصابة والحكمة أي على البرهان الواضح، وعلى المجادلة أي إيراد الحجج الصادقة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.

ابتداء الدعوة إلى الإسلام:

ابتدأت الدعوة إلى الإسلام منذ نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ}، فدعا صلى الله عليه وسلم إلى دينه في مكة دعوة سرية، كان يلقى الرجل فيخلو به، ثم يعرض عليه التعاليم الإسلامية.

وقد مكث يدعو على تلك الصفة ثلاث سنين أسلم فيها تسعة وثلاثون رجلًا، إلى أن نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فجهر بدعوته، وهنا دخلت الدعوة في طور جديد وكان بدء الاضطهاد للدعوة الإسلامية.

كانت قريش شديدة التمسك بدينها، وكان فيها لدد وخصومة إذا مست عقائدها الدينية، فكان مركز الداعي إلى تغيير عقائد قريش الدينية في نهاية الدقة وغاية الحرج، لأنه يدعو قومًا رسخت فيهم العقائد الجاهلية، وكانوا يدعون فوق ذلك أنهم حُماة تلك العقائد وحفظتها من دون العرب.

وإذًا، فإسلام تسعة وثلاثين رجلًا في مدة ثلاث سنين والدعوة سرية، وصاحبها وحيد فريد، والمدعوون أولو بأس شديد وصلابة في الدين قد بلغت أقصى حدودها، دليل واضح على أن الدعوة قد نجحت، وأن الداعي موفق في وسائط الدعوة، وأن الطريق التي استعملها في دعوته جديرة بالاحترام والتقدير.

وممن أسلم في تلك المدة أبو بكر وعلي، ومن يدرك موقف أبي بكر يوم ارتدت العرب وموقفه في نصرة النبي وتجهيزه الجيوش للفتوح وحرصه على أن تدين العرب بالإسلام كاملًا غير منقوص، يدرك أن الرجال الذين أسلموا في تلك المدة كانوا دعائم الإسلام وأركان عظمته.

وكان لعليّ مواقف في الغزوات محمودة، ومواقف في العمل على توحيد المسلمين وعلى إقامة النظم الإسلامية كاملة دون ميل إلى ما تقضي به أساليب السياسة الخادعة.

وممن أسلم في تلك المدة عثمان بن عفان الخليقة الثالث وصاحب المقام المحمود في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام الفارس المشهور وصاحب البلاء المحمود في الغزوات الإسلامية، وعبدالرحمن بن عوف الصحابي الجليل، وسعد بن أبي وقاص صاحب الموقف المعروف في غزوة أحد ومزيل دولة الأكاسرة من بلاد الفرس ومَن على يديه كان فتح الدولة الفارسية، وطلحة بن أبي عبيدالله التيمي الذي وقى رسول الله يوم أحد وكان ذا أثر مشهور في ذلك اليوم، وله في الغزوات آثار جليلة ومآثر واضحة، وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وعبدالله بن مسعود الهذلي بحر من بحور العلم وعلم من أعلام الفتيا، وخالد بن سعيد بن العاص، وكان من الفرسان المعدودين.

إن نظرة واحدة من تاريخ هؤلاء الرجال وفي نفسيتهم تدل دلالة واضحة على أن عقولهم الكبيرة ونفوسهم العظيمة لم تقبل على الإسلام ولم تبع أرواحها في سبيل نصرته إلا بعد أن أطالت التفكير في تعاليمه، وأمعنت النظر في دعوته، حتى تبين لها أن الحق فمالت إليه وآمنت به، وآزرته ونصرته وضحت بنفوسها في سبيل نشره وإذاعته.

إن الرسول الأعظم عرف كيف يدعو حينما اختار هؤلاء الرجال ليكونوا عنوان دعوته ورافعي أعلام دينه.

كان نظره صائبًا وفراسته رشيدة حين وقع اختياره على رجال أظهرت التجارب أنهم لم يبخلوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل إعلاء كلمة الدعوة وحماية صاحبها ودفع الأذى عنه، وما عرف التاريخ قومًا قاموا بنصرة الدعوة التي دعوا إليها حق القيام كهؤلاء الذين دعاهم النبي في تلك المدة يوم كانت الدعوة خفية.

جهر النبي بالدعوة فاضطهدته قريش، وحينما اضطهدته لم تجده فريدًا، بل وجدت لدعوته أنصارًا، ولدينه حماة، وهم الذين أسلموا حينما كانت الدعوة سرية.

من هنا تدرك سر تأخر الأمر بالجهر بالدعوة ثلاث سنين عن الأمر بابتداء الدعوة، حقًّا إنها لحكمة ظاهرة، فلقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا وهو في أمن من الاضطهاد فسنحت له فرصة واسعة لاختيار من يوجه إليه الدعوة، فاختار رجالًا صدقت فيهم فراسته، فكانوا السابقين الأولين.

أدركوا المشاهد، ونصروه في السلم والحرب، ونشروا دين الله في الخافقين، واحتملوا الأذى في سبيل الذود عن معتقدهم والدفاع عن دينهم، لم يبالوا بكثرة العدد، ولم ينثنوا أمام تألب الدهر، وتتابع الخطوب، بل كانوا كما يقول الله فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

إن نجاح أية دعوة تحتاج إلى مهارة في الدعوة وإخلاص في الدعاية، وصدق نظر في اختيار المدعو، وإصابة الفراسة في توجيه الدعوة، وكل ذلك قد توفر في ابتداء الدعوة إلى الإسلام، لذلك كان النجاح باهرًا ومدهشًا.

إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فإذا أردنا الدعوة إلى الإسلام أو إلى إحياء سننه وبعث معالمه وحدوده وإقامة شرائعه فأمامنا الطريق واضحة والصراط مستقيم، علينا أن ندرس تاريخ الدعوة درسًا تفصيليًا مستقصى وأن نتبع ما يهدي إليه الدرس، فنختار الدعاة ونختار المدعوين، في فرصة هادئة مطمئنة، فإذا خفنا الاضطهاد وتوقعناه جاز لنا أن نجعل الدعوة بمأمن من الاضطهاد، وساغ لنا أن ننزل على حكم الظروف، وأن نقدر روح الوقت، فإن كان صالحًا للظهور بالدعوة وكانت الدعوة في أمن من الاضطهاد صح الجهر بها، وإن كانت الظروف تقضي بتكوين دعاة في السر وانتهاز الفرص لإعلان الدعوة وجب النزول على ما تقضي به روح الوقت وظروف المسألة، فلا بد إذن من المحكمة وتقدير الظروف ومراعاة المناسبات الوقتية.

لم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة سرية يخفيها كما يخفي دعاة الفوضى وأنصار الثورة خططهم وتعاليمهم، وإنما كانت دعوة إلى الحق وفي سبيل الحق، دعوة ظاهرة واضحة، ليلها كنهارها، يراد بها إرجاع الإنسان إلى فطرته التي فطر الله الناس عليها.

فهي إصلاح للبشرية، وهداية للإنسانية، تقبلها العقول وتطمئن بها القلوب وتنشرح لها الصدور.

نظام يضمن لمعتنقيه تقرير مصيرهم في الدنيا، وتقرير مصيرهم في الآخرة، ولم تلبث العقول حين رأته أن آمنت به ورضيته دينًا.

الإسلام في ذاته حق، ولو كان الحق يصل إلى أذهان الناس بدون دعوة وبدون دعاة لكان الإسلام أغنى الأديان عن الدعوة وأجدرها بالوصول إلى النفس بدون دعاية، ولكن سنن الوجود قضت بألا غنى للحق من الدعوة إليه، وأن لا بد لنجاح الدعوة من مهارة وحذق وصدق فراسة في اختيار المدعوين في ابتداء الدعوة، ومن قوة تحمي الدعوة حينما يبلغ الاضطهاد غايته، وتعجز النفس البشرية عن احتماله، ويُخشى على الدعوة من طغيانه.

كذلك كان شأن الإسلام في مبدأ دعوته وحينما وصل الاضطهاد له غايته.


المصدر: مجلة الفتح - العدد: 3 - 30 يونيو 1926.