الإسلام في عالم الملايو (1)مقالات

د. محمد عبدالرؤوف

ونعني بعالم الملايو ذلك الأرخبيل المكون من آلاف الجزر المنتشرة في جنوب شرقي آسيا التي كان يطلق عليها فيما مضى جزر الهند الشرقية، وتنقسم حاليًّا إلى وحدات سياسية كبيرة، أهمها:

  • إندونيسيا، وتعداد سكانها حاليًا مائة مليون نسمة.
  • ماليزيا، وتعداد سكانها عشرة ملايين نسمة.
  • الفلبين، وسكانها سبعة وعشرون مليون نسمة.

ومن أعظم هذه الجزر سومطرة وجاوة وبورنيو التي يقال عنها إنها أكبر جزر العالم بعد أستراليا، إذا اعتبرنا أستراليا إحدى الجزر، وتقع هذه كلها في إندونيسيا يضاف إليها جزر كبيرة وصغيرة تبلغ في مجموعها أربعة آلاف جزيرة مساحتها (735000) ميل مربع، ومنها شبه جزيرة الملايو الممتدة جنوب سيام ويحيط بها بعض الجزر الجميلة ويمتاز بعضها بموانئ عالمية هامة كميناء (بينانج) و (سنغافورة)، ويفصل الملايو عن سومطرة بوغاز ضيق يسمى (بوغاز ملقا).

وتكون الملايو مع ما حولها من جزر صغيرة وجزء من ساحل جزيرة بورنيو الغربي دولة ماليزيا حاليًّا التي تبلغ مساحتها (128700) ميل مربع، ومن الجزر الكبيرة في الأرخبيل أيضًا جزائر (لوزون وفيزياس ومندناو وأرخبيل سولو) في الفلبين التي يقال إنها تحتوي على نحو أربعة آلاف جزيرة أيضًا مساحتها (115000) ميل مربع.

وتقع هذه الجزر كلها في المنطقة الاستوائية ولذا كان مناخها حارًّا ولكن يلطف من حرارته إحاطة المياه بها، وارتفاعها عن مستوى البحر، وكثرة النباتات والأشجار التي تغطي سطح هذه الجزر، بسبب كثرة الأمطار وارتفاع درجة الحرارة على طول أيام السنة، وتكون غابات كثيفة عالية لا تزال تغطي الجزء الأكبر من مساحة البلاد، وتخلى أجزاء من هذه الغابات تدريجيًّا للتعمير والزراعة.

غناه سبب استثماره:

والأرخبيل غني بحاصلاته النباتية والمعدنية؛ مما أدى إلى تنافس شديد بين دول الغرب للسيطرة عليه منذ بدأ الاستعمار في الشرق واكتشف طريق رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.

ومن أشهر الحاصلات:

التوابل ومعادن الذهب والفضة والقصدير والحديد والبترول والأخشاب ثم المطاط الذي أدخل الأوروبيون زراعته في البلاد منذ نحو مائة عام مما زاد في أهمية البلاد الاقتصادية والاستراتيجية.

والغذاء الرئيسي هناك هو الأرز كما هو الحال ببلاد الشرق في الأعم الأغلب كبلاد الهند والصين واليابان وغيرها لذا كانت زراعة الأرز وصيد الأسماك من أهم أعمال السكان إلى جانب زراعة التوابل والبن والشاي والنارجيل والموز وقطع الأخشاب، ثم زراعة المطاط كما ذكرنا، وقد تنوعت أعمال السكان الآن حيث دخلت صناعات حديثة وراجت التجارة إلى جانب الصناعات القديمة المحلية كصناعة النسيج المزركش والحلي الفضية الممتازة وتجفيف الأسماك وبناء السفن الصغيرة، ولا يبذل الفلاح الملايوي كبير جهد في ري حقله ولا يحتاج في ذلك إلى استعمال آلة الطنبور أو الشادوف مثلًا، بل تتولى السماء سقي مزرعته بأمطارها الغزيرة الوافرة، وفي كثير من الأحيان تكاد الحياة تقتصر على الجهات الساحلية حيث تتوافر حاليًّا الطرق الزراعية وتتيسر المواصلات، وكان الانتقال في العصور الماضية بين القرى -وتقع غالبًا على شواطئ الأنهار- بواسطة القوارب والسفن الصغيرة لصعوبة عبور الغابات الشائكة، ويسمى مجموع هذه الجزر بالأرخبيل الملايوى تبعًا لسكانها.

وسكان أرخبيل الملايو من العنصر المعروف ببشرته البنية اللامعة وأعينه الجميلة الواسعة وشعرة الأسود الفاحم، ثم هم إلى القصر أقرب منهم إلى الطول، وهم شعب ذو ذوق وأدب، مسالمون متسامحون ميالون إلى الهدوء، محبون للفنون الجميلة، وقد غرس ذلك في نفوسهم طبيعة بلادهم الفاتنة، وهم من أشد الشعوب اعتزازًا بالإسلام وتمسكًا بالتقاليد ومحافظة على العبادة والشعائر الدينية.

كيف دخلها الإسلام:

وسنحاول في السطور الآتية أن نتتبع مراحل دخول الإسلام في ربوع الملايو وانتشاره هناك، ثم نتحدث عن بعض مزايا الإسلام وإصلاحاته وأهميته بين هذه الشعوب التي تنبض قلوبها بحبه، وبربطها بالعرب والعروبة أواصر روحية وثيقة خالدة مهما بعدت الشقة أو امتدت المسافات.

كانت تربط الأرخبيل بجزيرة العرب صلات تجارية قديمة ازداد من شأنها في القرن الثامن الميلادي (القرن الثاني من الهجرة)، ويحدثنا التاريخ عن وجود جماعات عربية كانت تقطن قبل الإسلام بعض الموانئ هناك بشمال سومطرة، كانوا يعيشون تحت قيادة شريف عربي على النظام القبلي بشبه الجزيرة، وقد استمرت هذه الصلات التجارية التي تبعها صلات ثقافية على مر العصور والقرون، وإبان هذه الصلات التجارية والثقافية بزغت شمس الإسلام على قلب شبه الجزيرة العربي، وتم اعتناق العرب جميعًا لهذا الدين الحنيف قبل انتقال الرسول -صلوات الله عليه- إلى الرفيق الأعلى عام 632م.

وكان الهم الأكبر للتجار العرب الذين كانوا يجوبون جزر الملايو في القرون الأولى للإسلام هو الكسب والتجارة وتبادل السلع، ولكنهم مع ذلك كانوا يقيمون شعائرهم الدينية حيثما وجدوا على مسمع ومرأى من أهل البلاد، فقد كانوا يؤدون الصلاة ويؤذنون لها، ويحتفلون بالمناسبات الإسلامية... وعقدوا بين المسلمين حيث طاب لبعضهم المقام حلقات الذكر ومجالس الوعظ والإرشاد...

تأثره بحضارة الصين والهند:

وقبل أن يسمع عالم الملايو عن الإسلام وقبل أن ينبث المسلمون بينهم في العصور الإسلامية الأولى، مضى عليهم عهدان طويلان:

- يبدأ الأول منذ بدأ الأرخبيل في القدم يعمر بالمهاجرين من (يوشان) في جنوب الصين، ويمتد هذا العهد حتى القرن الأول من ميلاد المسيح، ويعرف بالعصر البدائي حيث سيطرت الخرافات وسيطر الاعتقاد في السحر والشعوذة على العقول.

- وأما العصر الثاني فهو عهد رواج التجارة بين الهند والصين ذاتي الحضارتين الشرقيتين العريقتين، فتعرض الأرخبيل الملايوي للتأثر بثقافتيهما، حيث يقع على هذا الطريق التجاري، وخاصة بثقافة الهند التي شملت المعتقدات والعادات والتقاليد، فانتشرت الهندوكية بين شعوب الملايو، وكثرت معابدها وأوثانها في أنحاء الجزر، وتفشت العادات الهندية في الطعام واللباس، وفي مناسبات الميلاد والزواج، وتقاليد القصور، وكثرت الكلمات السنسكريتية (لغة الهند القديمة) في لغة الملايو.

ماء السلامة:

ورغم انتشار الإسلام فيما بعد فلا تزال هناك آثار وبقايا من كلا العهدين يمنعنا من شرحها وتعدادها هنا -مع ما لها من طرافة وإغراء- خشية التطويل والخروج عن المقام، ولا يفوتنا مع ذلك أن نذكر أن بقايا العادات الهندوكية لا تزال تتبدى بصفة خاصة في مراحل الزواج الطويلة وفي مراسيم القصور الملكية ولا سيّما عند تنصيب سلطان جديد على العرش في ولايته، فترى العروسين يوم الزفاف مثلًا يجلسان في مقصورة أقيمت لهذا الغرض عليها أجمل الزينات وقد لبسا المزركش من الثياب ووضعا التاج على رأسيهما، ولا يتحدثان ولا يبتسمان ولا يلتفتان، ثم يقبل القرابة ثم الأصدقاء واحدًا بعد الآخر يبعثرون حبات الأرز على العروسين ويرشون على العروسين (ماء السلامة) وتسمى هذه العادة باسمها في اللغة السنسكريتية وهو (برساندينج) كما أننا لا زلنا نجد الألقاب والأساليب الهندوكية سائدة بالقصور الملكية، ونشاهد المراسيم الهندوكية تمثل في دقة وعناية بين يدي السلاطين في شبه جزيرة الملايو في المناسبات الهامة، مع أنها قد تكون غريبة في بعض تفاصيلها عن العادات والتقاليد الإسلامية.

وخلاصة القول إنه حتى بداية ظهور بعض المسلمين بين شعب الملايو منذ القرن الأول للهجرة (القرن السابع الميلادي) كانت الوثنية تسيطر على العالم الملايوي كله، سواء أكانت تتمثل في عبادة الأجداد والأسلاف إبان العهد البدائي أم في الهندوكية ومعابدها ومراسيمها منذ سيطرة النفوذ الهندي.

كيف تحولوا عن الوثنية إلى الإسلام:

هذا وما كنا ننتظر عند ظهور المسلمين من التجار بين شعب الملايو أن يبادر الملايوي إلى طرح وثنيته واعتناق دين الإسلام رغم فضل الإسلام ومزاياه فللدين والتقاليد على العموم سيطرة عجيبة منذ صباه ولا يدرك ما قد يكون فيها من خطأ أو تعارض، ولا يدري بما تجره إليه من جهل وعمى وضلالة، بل إنه لينفر من كل جديد أو الأمر مهما كان الجديد على درجة من السلامة والمنطقية والصراحة والوضوح، أضف إلى ذلك أن التجار المسلمين لم يبذلوا -فيما يبدو- جهودًا إيجابية واضحة أول الأمر نحو نشر الدين، حيث كان جُل همهم التجارة وتبادل السلع، لذلك كله مضت القرون السبعة الأولى من الهجرة دون أن ينتشر الإسلام بين شعب الملايو بشكل واضح، وإنما أسلم أفراد هنا وهناك نتيجة لجهود بعض الدعاة أو لاختلاط التجار المسلمين ببعض العائلات المحلية والزواج من نسائهم، ولكن ما أن أقبل القرن الثامن الهجري حتى شهدنا تحولًا عجيبًا فترى الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وتنشأ سلطنات وممالك إسلامية قوية هنا وهناك، وفي فترة يسيرة ترى عشرات الملايين من سكان الأرخبيل العظيم، وقد استبدلوا بالكفر إيمانًا، وبالوثنية والضلال توحيدًا وهداية، وبالجهل والأمية نورًا وعرفانًا.

أما كيف تم هذا التحويل والعوامل التي أدت إليه فسوف يكون موضوع مقالنا القادم إن شاء الله.


(المصدر: مجلة الوعي الإسلامي - ع 1 - المحرم 1385هـ)