الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن التعليم هو أنبل مهنة للبشرية ، وأعظم عمل يؤدِّيه الإنسان ، وهو وظيفة الأنبياء والرسل ومَهمَّتهم العظمى ؛ قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة : 2].
والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هو المعلِّم والمربِّي الأول ، الذي تتعلَّم منه البشرية القيم وأساليب التعليم والتربية النموذجية على مرِّ التاريخ ؛ حيث إنه – صلى الله عليه وسلم – قد أدَّى مَهمَّته وواجبه على الوجه الأكمل بخير الأساليب وأفضل الطرق ، فأخرج للبشرية جيلاً فريدًا لم تشهد البشرية - منذ خلق آدم - له مثيلاً ، فيما اجتمع فيه من سمات الخير ، والنبوغ ، والسموِّ ، ومظاهر العظمة ، حيث علَّمهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأدَّبهم مخاطبًا وِجدانهم وقلوبهم وعقولهم وضمائرهم ، فأخرج منهم شخصياتٍ تمثِّل الإسلام واقعًا يراه الناس ، فقد كان همُّه الأول وهدفه الأساس أن يصنع رجالاً ، ويبنيَ أمة ، ويقيم دولة ترفع راية الإسلام ، وكلمة الله.
ولا شكَّ أن النتائج الباهرة التي حقَّقها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقطف ثمارها اليانعة ، كانت بأساليبَ حكيمةٍ ، وطُرق فذَّة ، ووسائل فاعلة ناجحة ، حتى قطف الثمرة ، وأخرج جيلاً فريدًا مدحهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : «خيرُ الناس قرْني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» رواه البخاريُّ ومسلم.
ولقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حريصًا أشدَّ الحرص على تبليغ رسالة ربِّه ، وتعليم الناس بأفصح الكلام وأعذبه ، وبأسهل الطرق وأضبطها ، وعلى أن يُفهَم كلامه ليُنقل نقلاً صحيحًا دقيقًا ؛ حتى يبلَّغ صحيحًا كما هو لمن لم يسمعه ، فتصل رسالة الإسلام للعالمين على مرِّ الزمان ، فكان يأمر بتبليغ سنَّته للناس ؛ فيقول - صلى الله عليه وسلم - : «وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه البخاريُّ ومسلم ، ويقول : «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه البخاريُّ.
وكان يدعو لنَقَلَةِ الحديث بالنَّضارة والبهاء والجَمال ، فيقول صلى الله عليه وسلم - : «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» رواه أبو داود والترمذيُّ.
قال ابن القيم - رحمه الله - : "كان - صلى الله عليه وسلم - أفصحَ خلقِ الله ، وأعذبَهم كلامًا ، وأسرعَهم أداءً ، وأحلاهم مَنْطِقًا ، حتى إنَّ كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع القلوب ، ويَسبي الأرواح ، ويشهد له بذلك أعداؤه ، وكان إذا تكلَّم ، تكلَّم بكلامٍ مُفَصَّلٍ مُبين ، يَعُدُّه العادُّ ، ليس بهذٍّ مُسْرِعٍ لا يُحفظ ، ولا مُنقطِع تخلَّلُه السَّكَتات بين أفراد الكلام ؛ بل هديه فيه أكمل الهدي ؛ قالت عائشة – رضي الله عنها - : «ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد سردكم هذا ؛ ولكن كان يتكلَّم بكلام بيِّن فصل يحفظه من جلس إليه» ، وكان كثيرًا ما يعيد الكلام ثلاثًا ليُعقل عنه"[1].
فمن هديه - صلى الله عليه وسلم – في التعليم وأساليبه وطرقه ووسائله ما يلي :
- كان - صلى الله عليه وسلم - يُراعي حالَ الصحابة ، فلا يُحدِّثهم إلاَّ وهم في حالٍ من الشوق إلى الاستماع والتَّعلُّم ، وهذا أدعى للفَهم والحفظ ورسوخ المسموع ، والابتعاد عن الملل والسَّآمة ؛ فعن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال : «كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ ؛ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» رواه البخاريُّ ومسلم .
- كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم حرص أن يُفهم كلامه ويتَّضح مراده ، فإن كانت الكلمة تحتاج إلى إعادة كرَّرها ثلاث مرات ، وكان يُحَدِّث بِتَروٍّ وتؤدةٍ ، ولا يسرد الكلامَ سردًا ، ولا يُدخِلُ الكلامَ بعضَه في بعض ؛ حتى يطمئن أنه قد عُقِل عنه ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : «أَنَّهُ كان إذا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حتى تُفْهَمَ عنه» رواه البخاريُّ ، وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : «كان كَلاَمُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلاَماً فَصْلاً ، يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» رواه أبو داود وحسَّنه الألبانيُّ.
- كان يراجع مَحفوظاتِ بعضِ أصحابه ؛ فعن الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : «إذا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ على شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلْ : اللهم إني أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ ولا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إِلَيْكَ ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ. واجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلامِكَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ على الْفِطْرَةِ». قال : فَرَدَّدْتُهُنَّ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ ، فقلتُ : آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الذي أَرْسَلْتَ. قال : «قُلْ : آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ» رواه مسلم.
- كان يراعي أحوال المدعوِّين والاختلافات الشخصية بينهم وحال السائل ؛ فعندما كان يسأله بعض الصحابة السؤال نفسه في مواقفَ مختلفةٍ ، كانت تختلف إجاباته باختلاف شخصية السائل ، ومن ثم اختلاف حال السائل وما يحتاجه ، ومستوى فَهْمِه ، وإليك هذه الأحاديث الثلاثة مثالاً يوضح هذا الأمر : عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : «تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» رواه البخاريُّ ومسلم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ : أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : «حَجٌّ مَبْرُورٌ» رواه البخاريُّ. وعن عَبْدِاللَّهِ بْن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : « ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. رواه البخاريُّ ومسلم. وغيرها من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
قال ابن حجر – رحمه الله - : "قَالَ الْعُلَمَاءُ : اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال ، وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ ، وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ ، وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ"[2].
- جذب الانتباه والتشويق بالسؤال حتى يُعمِل السامع والمتلقِّي ذِهنَه ويُحاول الوصول إلى الجواب ، فيرسخ في ذهنه الحديث عندما يتلقَّى الإجابة ؛ حيث إن الأذهان مشحوذة ، والعقول حاضرة ، والقلوب متشوِّقة ؛ فعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال : قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا ، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ ، فَحَدِّثُونِي ما هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي . قال عبداللَّهِ : وَوَقَعَ في نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ، ثُمَّ قالوا : حَدِّثْنَا مَا هِيَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قال : «هِيَ النَّخْلَةُ» رواه البخاريُّ ومسلم.
والأساليب النبوية في التعليم كثيرة، وللحديث بقية.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.