أساليب نبوية في التعليم (1)مقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إن التعليم هو أنبل مهنة للبشرية ، وأعظم عمل يؤدِّيه الإنسان ، وهو وظيفة الأنبياء والرسل ومَهمَّتهم العظمى ؛ قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة : 2].

والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هو المعلِّم والمربِّي الأول ، الذي تتعلَّم منه البشرية القيم وأساليب التعليم والتربية النموذجية على مرِّ التاريخ ؛ حيث إنه – صلى الله عليه وسلم – قد أدَّى مَهمَّته وواجبه على الوجه الأكمل بخير الأساليب وأفضل الطرق ، فأخرج للبشرية جيلاً فريدًا لم تشهد البشرية - منذ خلق آدم - له مثيلاً ، فيما اجتمع فيه من سمات الخير ، والنبوغ ، والسموِّ ، ومظاهر العظمة ، حيث علَّمهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأدَّبهم مخاطبًا وِجدانهم وقلوبهم وعقولهم وضمائرهم ، فأخرج منهم شخصياتٍ تمثِّل الإسلام واقعًا يراه الناس ، فقد كان همُّه الأول وهدفه الأساس أن يصنع رجالاً ، ويبنيَ أمة ، ويقيم دولة ترفع راية الإسلام ، وكلمة الله.

ولا شكَّ أن النتائج الباهرة التي حقَّقها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقطف ثمارها اليانعة ، كانت بأساليبَ حكيمةٍ ، وطُرق فذَّة ، ووسائل فاعلة ناجحة ، حتى قطف الثمرة ، وأخرج جيلاً فريدًا مدحهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : «خيرُ الناس قرْني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» رواه البخاريُّ ومسلم.

ولقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حريصًا أشدَّ الحرص على تبليغ رسالة ربِّه ، وتعليم الناس بأفصح الكلام وأعذبه ، وبأسهل الطرق وأضبطها ، وعلى أن يُفهَم كلامه ليُنقل نقلاً صحيحًا دقيقًا ؛ حتى يبلَّغ صحيحًا كما هو لمن لم يسمعه ، فتصل رسالة الإسلام للعالمين على مرِّ الزمان ، فكان يأمر بتبليغ سنَّته للناس ؛ فيقول - صلى الله عليه وسلم - : «وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه البخاريُّ ومسلم ، ويقول : «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه البخاريُّ.

وكان يدعو لنَقَلَةِ الحديث بالنَّضارة والبهاء والجَمال ، فيقول صلى الله عليه وسلم - : «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» رواه أبو داود والترمذيُّ.

قال ابن القيم - رحمه الله - : "كان - صلى الله عليه وسلم - أفصحَ خلقِ الله ، وأعذبَهم كلامًا ، وأسرعَهم أداءً ، وأحلاهم مَنْطِقًا ، حتى إنَّ كلامه لَيَأْخُذُ بمجامع القلوب ، ويَسبي الأرواح ، ويشهد له بذلك أعداؤه ، وكان إذا تكلَّم ، تكلَّم بكلامٍ مُفَصَّلٍ مُبين ، يَعُدُّه العادُّ ، ليس بهذٍّ مُسْرِعٍ لا يُحفظ ، ولا مُنقطِع تخلَّلُه السَّكَتات بين أفراد الكلام ؛ بل هديه فيه أكمل الهدي ؛ قالت عائشة – رضي الله عنها - : «ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد سردكم هذا ؛ ولكن كان يتكلَّم بكلام بيِّن فصل يحفظه من جلس إليه» ، وكان كثيرًا ما يعيد الكلام ثلاثًا ليُعقل عنه"[1].

فمن هديه - صلى الله عليه وسلم – في التعليم وأساليبه وطرقه ووسائله ما يلي :

- كان - صلى الله عليه وسلم - يُراعي حالَ الصحابة ، فلا يُحدِّثهم إلاَّ وهم في حالٍ من الشوق إلى الاستماع والتَّعلُّم ، وهذا أدعى للفَهم والحفظ ورسوخ المسموع ، والابتعاد عن الملل والسَّآمة ؛ فعن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال : «كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ ؛ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» رواه البخاريُّ ومسلم .

- كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم حرص أن يُفهم كلامه ويتَّضح مراده ، فإن كانت الكلمة تحتاج إلى إعادة كرَّرها ثلاث مرات ، وكان يُحَدِّث بِتَروٍّ وتؤدةٍ ، ولا يسرد الكلامَ سردًا ، ولا يُدخِلُ الكلامَ بعضَه في بعض ؛ حتى يطمئن أنه قد عُقِل عنه ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : «أَنَّهُ كان إذا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حتى تُفْهَمَ عنه» رواه البخاريُّ ، وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : «كان كَلاَمُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلاَماً فَصْلاً ، يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ» رواه أبو داود وحسَّنه الألبانيُّ.

- كان يراجع مَحفوظاتِ بعضِ أصحابه ؛ فعن الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال : «إذا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ على شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلْ : اللهم إني أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ ولا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إِلَيْكَ ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ. واجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلامِكَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ على الْفِطْرَةِ». قال : فَرَدَّدْتُهُنَّ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ ، فقلتُ : آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الذي أَرْسَلْتَ. قال : «قُلْ : آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ» رواه مسلم.

- كان يراعي أحوال المدعوِّين والاختلافات الشخصية بينهم وحال السائل ؛ فعندما كان يسأله بعض الصحابة السؤال نفسه في مواقفَ مختلفةٍ ، كانت تختلف إجاباته باختلاف شخصية السائل ، ومن ثم اختلاف حال السائل وما يحتاجه ، ومستوى فَهْمِه ، وإليك هذه الأحاديث الثلاثة مثالاً يوضح هذا الأمر : عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : «تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» رواه البخاريُّ ومسلم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ : أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : «حَجٌّ مَبْرُورٌ» رواه البخاريُّ. وعن عَبْدِاللَّهِ بْن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : « ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. رواه البخاريُّ ومسلم. وغيرها من الأحاديث الواردة في هذا الباب.

قال ابن حجر – رحمه الله - : "قَالَ الْعُلَمَاءُ : اخْتِلَافُ الْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال ، وَاحْتِيَاجِ الْمُخَاطَبِينَ ، وَذَكَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ السَّائِلُ وَالسَّامِعُونَ ، وَتَرَكَ مَا عَلِمُوهُ"[2].

- جذب الانتباه والتشويق بالسؤال حتى يُعمِل السامع والمتلقِّي ذِهنَه ويُحاول الوصول إلى الجواب ، فيرسخ في ذهنه الحديث عندما يتلقَّى الإجابة ؛ حيث إن الأذهان مشحوذة ، والعقول حاضرة ، والقلوب متشوِّقة ؛ فعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال : قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا ، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ ، فَحَدِّثُونِي ما هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي . قال عبداللَّهِ : وَوَقَعَ في نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ، ثُمَّ قالوا : حَدِّثْنَا مَا هِيَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قال : «هِيَ النَّخْلَةُ» رواه البخاريُّ ومسلم.

والأساليب النبوية في التعليم كثيرة، وللحديث بقية.

 

[1] "زاد المعاد في هدي خير العباد" (1/ 175).

[2] فتح الباري لابن حجر (1/ 79).

0 شخص قام بالإعجاب