الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إننا نعيش اليومَ عصر الانفتاح والتقدُّم التكنولوجي الهائل ، الذي يُجبر المرء على الوقوف منبهرًا أمام ما وصلت إليه التكنولوجيا الغربية الحديثة من تقدُّم وتطوُّر لافت في جميع المجالات والتخصُّصات ؛ بل ولا يمكِننا أن نتغافل ما لهذا التقدُّم من إيجابيات ملموسة ، وكيف اقتحمت جميع مجالات الحياة ، ومنها الحياة الأسرية ؛ ولكننا لا نتغافل أيضًا عن السلبيات الكفيلة بأن تدمِّر الأسرة ، إذا تغافلنا عما تحذِّرنا به وتُنذرنا من سيل الأخطار المدلهمَّة التي تقتحم بيوتنا ؛ لتسيطر على أبنائنا ، وتنتزعهم من ثقافتهم وهويتهم وأمتهم الإسلامية .
ولكن بدايةً : ما مدى تأثير العولمة على الطفل ؟
لا شكَّ أن العولمة سلاح ذو حدَّين ؛ فوجود الإنترنت ، والأجهزة الحديثة - كالهاتف والتلفاز والكمبيوتر - والفضائيات متعدِّدة الاتجاهات ، داخل الأسرة ، يمثِّل تحدِّيًا كبيرًا في كيفية الاستخدام الأمثل ، وتحقيق الاستفادة منها بشكل منضبط ؛ فإذا كنا نريد الحفاظ على أطفالنا ، وتنشئتهم تنشئة سليمة ، فلا بدَّ من مواجهة هذه التحدِّيات بأساليبَ علميةٍ حديثة صحيحة ، تتوافق مع معطيات العصر .
وهذا يدفعنا إلى سؤال آخر ، ألا وهو : من المسؤول عن تنشئة الطفل تنشئة صحيحة؟ وكيف نواجه العولمة؟
وللإجابة عن هذا السؤال ؛ لا بدَّ أولًا من توضيح معنى التربية ؛ فالتربية منهج حياتي يقوم على تزويد الشخصيات الْمُربَّاة بالأفكار والمفاهيم التي تساعدهم على التكيُّف مع مجتمعهم .
أو كما يعرِّفها " ﺩﻭﺭﻛﺎيم " بأنها : " العمل الذي تقوم به الأجيال الناضجة نحو الأجيال التي لم تنضج ، ولم تتهيَّأ بعدُ للانخراط في الحياة الاجتماعية ، وهي تَهدُف إلى إثارة وتنمية قدرات مختلفة لدى الطفل ، يتطلَّبها المجتمع " .
والتربية التي نقصدها هنا هي التربية التكوينية التي تقوم بتنمية الفرد وتَرْقِيتِه ؛ ليكون منتِجًا ، لا التربية التَّلْقِينية التي تُخرج الفرد مستهلكًا .
ثانيًا : إننا نعيش في مجتمع ؛ ومن ثَمَّ ليس المسؤول عن التربية جهةً واحدة ؛ بل أكثر من جهة ، يفترض التكامل والتعاضد بينها في تربية الطفل ، وتسهم في تشكيل الوعي لدى الطفل ، وهي على الترتيب الآتي : ( الأسرة ثم المدرسة ثم الأصدقاء ثم المسجد ثم الإعلام ) . وحتى نربح هذه المعركة ؛ فلا بدَّ من تكاتف الجهود وتوحيدها لدى هذه الجهات ، والعمل على إخراج منهج ، ورؤية ، ونظام تربوي شامل متَّفق عليه ، بعيدٍ عن التناقضات ، سليم ، يحفظ للطفل هُويته وثقافته واستقلاليته ، ثم نقوم بغرس هذا النظام في ذهن الطفل ؛ لتصبح معتقَداتٍ راسخةً عنده .
تلك هي المشكلة قد حددناها ، وعرفنا كيف نبدأ في حلِّها ، ومن ثَمَّ فلا بد من مراعاة الآتي في المنهج التربوي المتفق عليه :
- جعل الأخلاق والقيم الإسلامية هي نقطةَ الانطلاق ، وتجنُّب الانفتاح الثقافي الهدَّام الذي يدعو لترك كل ما هو إسلامي وعربي ، والأخذ بكل ما هو غربي ، فقد أصبحت "موضة" العصر في الثياب التشبُّه بالغرب ، وفي التعليم تفضيل المدارس الأجنبية على العربية ، وفي التحدُّث الخلط بين الكلمات العربية والأجنبية .
وهذا لا يعني بالضرورة عدم الاطِّلاع على ثقافات العالم ؛ ولكن التحذير هنا من الذوبان في بئر هذه الثقافات ، فينشأ لدى الطفل ما يعرف بفقدان الهوية ، والميوعة في شخصيته .
- البُعد عن المثالية المستحيلة ، والطرق التقليدية القديمة غير الملائمة فيما يراد غرسه لدى الطفل ؛ فهذا يهدم أكثر مما يبني .
- توفير المتطلَّبات اللازمة للجهات المسؤولة عن التربية ؛ للقيام بدورها بطريقة فعَّالة ومثمِرة ؛ فمثلاً (الأسرة) هي نواة المجتمع ، وهي الجهة الأولى المسؤولة عن تنشئة الطفل ، فيجب أن تعيَ أن هذه النبتة الهشَّة تحتاج إلى رعاية مركَّزة ومستمرة ؛ حتى تشبَّ وتصبح منتجة ، فالطفل أول ما يتأثَّر يتأثر بالوالدين ، فيجب أن تكون الأسرة مؤهَّلة ومستعدَّة لاستقبال ذلك الوعاء ، ومعرفة كيفية مَلْئِه .
(المدرسة) : وهي الجهة الثانية المؤثِّرة في الطفل . لذا ؛ يجب أن يكون المعلِّم مدرَّبًا تدريبًا جيِّدًا في التعامل مع الأطفال ، وعلى استعداد تامٍّ في علاج ما يطرأ من مشكلات ، وأن يبثَّ الثقة في الطفل ، ويعرف أن القدراتِ لدى الأطفال متفاوتة ، ويبتعد عن المقارنة غير المتكافئة بين الطلاب ، ولا ننسى تطوير المناهج الدراسية بما يتوافق مع قدرات الطلاب ، واستخدام كافة الأساليب الحديثة في عرضها .
(الأصدقاء) : وهم الجهة الثالثة التي تكسب الطفل المغامرة والاستقلالية ، والاعتماد على النفس ؛ ولكنها لا بدَّ أن تتم بعلم الآباء ؛ لأن الأصدقاء يُفسدون بنفس قدر إصلاحهم إذا لم نُحسن اختيارهم .
(المسجد) : ودوره مهمٌّ جدًّا ؛ لأنه الجهة المسؤولة عن تعليم الطفل القيم الإسلامية ، حيث يُفترض أن يرتاد المسجد يوميًّا ، وفي حدود خمس مرات ، فيكتسب القيم الإسلامية من الواجبات إلى المحرمات ، إضافة إلى أنه يغذِّي روحه التي تكاد تفترسها العولمة ، لذا ؛ يجب تأهيل الخطباء والأئمة لمراعاة ذلك ، والقدرة على إجابة أسئلة الأطفال ، والقيام بأدوارهم في تربية الأطفال مرتادي المساجد .
(الإعلام) : ويجب فرض رقابة على وسائل الإعلام التي تصل للأطفال وغيرهم ؛ لأن كثيرًا منها باتت تبثُّ ما يجب منعه ؛ مما قد يخلق روح التوتر بين الأطفال والمربِّين ، وفرض رقابة على شبكة الإنترنت ؛ حيث إن هذه العولمة قد ألغت الحدود وقامت بتشويش مرحلة الطفولة بإتاحة أسرار الكبار ، من عنف وجنس للأطفال ؛ مما قد يتسبَّب في إحداث مشكلات نفسية ، أو قتل لبراءة الأطفال .
كما ينبغي علينا القيام بضبط وتحديد مواعيد استخدام الطفل للإنترنت بطريقة تمكِّنه من تحقيق الاستفادة ؛ فالاستخدام المفتوح للإنترنت يُدخل الطفل في عزلة اجتماعية ، ويُفقده حسَّ التواصل مع الآخرين ، وهذا يُضعف تحصيله للمهارات الاجتماعية والمعرفية .
وفي النهاية يجب تدريب الطفل على تقبُّل الهزائم في المسابقات الصغيرة التي نجريها معهم في البيت أو في تجمُّعنا ، وعدم التحايل لرفضها أو الخلط بين ذاته وأخطائه ؛ ففشل الطفل في موقف لا يعني وصفه بالفشل ، وأيضًا غياب العقاب المتَّزن ، ودفع الوالدين لثمن الأخطاء بالنيابة عن الطفل ، يفسد أيما إفساد ، فإذا امتنع طفلك عن كتابة واجباته ، فلا تكتبها له ، أو إذا أخطأ مع معلمه ، فلا تعتذر أنت ، وإذا أسقط كوبًا ، فلا تمسح أنت مكانه ، بل يدفع ثمن أخطائه ، أو جزءًا من الثمن على الأقل .
وعليه ؛ كان الاهتمام بالطفولة في عصرنا الحاضر ، يُعتبر من مقاييس تطوُّر المجتمعات وتقدُّمها ؛ لأن أطفال اليوم هم شباب وبناة الغد ، وعليهم تُعقَد الآمال في بناء المجتمع ، وتتطلَّب تربية الطفل وتنشئته فَهمًا عميقًا لكثير من الحقائق التي تتعلَّق بطبيعة المرحلة النمائية التي يعيشها في كافَّة الجوانب الحياتية ، ومن ثم فالتنشئة الاجتماعية تُعتبر من أهم العمليات في حياة الفرد وتكوين شخصيته ؛ لأنها عملية تفاعل اجتماعيٍّ يتشكَّل فيها سلوك الفرد بما يتَّفق مع مجتمعه ، وبذلك تُسهم التنشئة الاجتماعية إسهامًا فعَّالًا في بناء الفرد ، وتشكيل الأسرة ، وتكوين المجتمع ، وبناء الحضارة .
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.