السعي والتوكلمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعدُ :

فإن الإنسان مهما بلغ من القوة والغنى والعلم والمعرفة الكمال ، فهو مفتقر إلى الله ، مفتقر إلى رزقه وتوفيقه وتدبير أمره ؛ قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر : 15] .

ليس هناك فرق في هذا الافتقار بين عالم وجاهل ، وصغير وكبير ، وغني وفقير ، كل إنسان مفتقر إلى الله محتاج إلى مَنِّه وكرمه ، فإن الله تعالى لم يدع الخلق وشأنهم ؛ بل هيَّأ لهم أسبابًا يتعاطونها ، فخلق الليل ليسكنوا فيه ، والنهار مبصرًا يتعيَّشون في أوقاته ، وأدرَّ لهم الضَّرع ، وأنبت لهم الزرع ؛ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية : 13] .

ولكن الله تعالى جعل الدنيا دار بلاء للإنسان وكبد ، والجنة دار نعيم وجزاء ؛ فلم يشأ أن يجعل الله تعالى ما سخَّره للإنسان أن يكون له ذلك هنيئًا مريئًا ؛ بل ذلَّل له ذلك ويسَّره وجعله بعيدًا منه بحيث يراه ، ثم أمره بالسعي إليه ، والمشي والإقبال عليه ؛ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15] .

فلابد من الجِدِّ والاجتهاد والمشي والتجول ، والسعي والكد والعمل ، وإلا لفسدت حياة الناس وهلكوا ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خير خلق الله كلهم ، لم يكن ليدع التكسب والعمل في التجارة والرعي ، وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ )) [1].

قيل لأحمد : ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال : لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي ؟ فقال : هذا رجل جهل العمل ؛ أمَا سمع قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الطير فقال : (( تغدوا خماصًا وتروح بطانًا )) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق ، فاستبان بهذا أن لا مندوحة لأحد عن السعي والعمل ، ولا غنى له عن التكسُّب والكدح .

 وقد اشتهر عن أكثر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الاحتراف بحِرف مخصوصة ؛ كالرعي والزراعة والتجارة والخياطة وغير ذلك .

وكان السلف الصالح - رضوان الله عنهم - يكرهون البطالة ، ويَعُدُّون صاحبها العضو الأشّلَّ في المجتمع المسلم ، ومن عباراتهم : تقعد عن الرزق وتقول : اللهم ارزقني ، وقد علمتَ أن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضَّة ؟! فدع الخمول والكسل ، واسعَ لتستغنيَ عن الناس .

وقد أمر الله المسلمين بأن يضربوا في الأرض ويبتغوا من فضل الله ؛ فمن ينكر على المؤمنين بأن دينهم يأمرهم بالكسل والخمول فهو جاهل ؛ إذ إن الإسلام قد دعت شرائعه المسلمين للعمل ، وبيَّن لهم سُبل الحضارة والتقدُّم ، وألا يكونوا عالة على الأمم ؛ بل ليكونوا هم قادة الأمم ، وطليعتها إلى الحضارة الإنسانية ، بعلومهم وأخلاقهم وهُداهم وهمَّتهم العالية ، وأخذهم بكل الأسباب الممكِنة ، ثم توكُّلهم على الله بعد استفراغ الوسع والأخذ بالأسباب ، أما ادِّعاء التوكل دون الأخذ بالأسباب فهذا تواكل ؛ فالتوكل على الله تعالى هو الركون إلى الله وحده ، واعتقاد أنه هو الكافل لأرزاق عباده .

والمسلم يعتقد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، يمنع ويعطي ، ويميت ويحيي ، ويُغني ويُفقر ؛ ولكن لا يكفيه الاعتقاد بدون العمل ، ولا العمل بدون الاعتقاد ؛ بل لا بد منهما كليهما .

إن التوكل على الله ، لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب ؛ بل إن الله تعالى قد قدَّر المقدورات بالأسباب ، وبذلك جرت سنَّة الله في خلقه ، فقد أمر الله تعالى عباده بالأخذ بالأسباب ، كما أمرهم بالتوكل عليه سبحانه ؛ فالسعي في الأسباب يكون بالجوارح طاعةً لله ، والتوكل على الله يكون بالقلب إيمانًا به سبحانه ؛ قال الله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة : 10] ، وقال تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال : 60] ، وقال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء : 71] .

وكذلك هناك من الناس من يغفلون عن التوكل على الله تعالى ، ويتعلَّقون بالأسباب الظاهرة المحيطة بهم فقط ، فهم يأخذون بالأسباب ، ويجتهدون غايةَ الاجتهاد في تحصيلها ، ويعتمدون عليها ، ولا يأتيهم إلا ما كتبه الله لهم وقدَّره ، وما كان أحراهم أن يتوكلوا على الله بقلوبهم وقد أخذوا بالأسباب ، ربهم الذي يسوق لكل دابة رزقها لأدنى سبب ، كما يسوق للطيور أرزاقها بالسعي اليسير ، بمجرد الغُدُوِّ والرواح ؛ فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لو أنَّكم كنتم تتوكلون على الله حقَّ توكُّلهِ ، لَرُزِقْتُمْ كما تُرْزقُ الطَّيْرُ ، تَغْدو خِماصًا ، وتَرُوحُ بِطانًا)) .[2]

 وهذه السيدة مريم ، عندما أراد الله سبحانه أن يُطعمها ، أمرها سبحانه بهزِّ جذع النخلة ، فأخذت بالأسباب رغم ضعفها ، مع التوكل على الله تعالى ، أما الاعتماد بشكل أساسيٍّ وقاطع على الأسباب فقط ، فهذا ينافي التوكل .

إن التوكل يُشعر العبد بضعفهِ ، وفقرهِ ، وحاجته لله - سبحانه وتعالى - فمهما بلغ من أسباب القوة يبقى ضعيفًا ، لا يقوى إلا بالتوكل على الله تعالى ؛ قال تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر : 15] ، وقال : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء : 81] .

إن العبد المؤمن إذا توكل على الله ، وأخذ بالأسباب ، في كل شأنه ، وفوّض أمره لله ، كفاه الله ما أهمَّه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ؛ قال الله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق : 2 ، 3] .

 

[1] رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وصححه الألبانيُّ .

[2] أخرجه الترمذيُّ في الزهد (2345) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه أيضًا أحمد ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم ، وغيرهم . وخماصًا : جياعًا خاليات البطون من الغذاء . بِطانًا : الشباع الممتلئات البطون منه .