بُعثت لأتمم مكارم الأخلاقمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إن الأخلاق لها شأن عظيم في الإسلام ، وصاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم – الأسوة الحسنة قد شَهِد له ربُّه تعالى في كتابه قائلاً : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].

حتى إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد جعل الغاية من بعثه للناس أن يتمِّم مكارم الأخلاق ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق»[1].

وربما قال البعض : وهل الأخلاق أهمُّ من العقيدة؟ أو أنها أهمُّ من الصلاة والزكاة وسائر العبادات؟

فالأمور لا تورد هكذا ؛ فإن الأخلاق هي صدى العقيدة والعبادة ؛ فهي التي سيَلمِس منها الناس دينك وعقيدتك وعبادتك ظاهرةً في خُلقك ؛ فربما لا يُدرك أكثر الناس عقيدتك وتفاصيلها - حيث إن موضعها القلب - أو عباداتك ؛ ولكنهم حتمًا سيرون كل ذلك في أخلاقك.

وقد جعل الله تعالى أخلاق النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – من دلائل نبوَّته ؛ فقال تعالى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم – : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4] ، فوصفه الله تعالى وخصَّه بما أعطاه من عظيم الأخلاق ما يدلُّ على عظمته - صلى الله عليه وسلم – ويدلُّ أيضًا على عظمة الله تعالى ، وعظمةِ رسالة الإسلام التي أرسل بها رسوله – صلى الله عليه وسلم - ومن ثَمَّ صارت أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - دليلاً نقليًّا في القرآن ، ودليلاً عقليًّا على نبوَّته - صلى الله عليه وسلم – فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب ؛ وهو النموذج الذي وضعه الله للبشر ليتأسَّوْا به ، وأخبرهم أنه على خُلق عظيم؟!

بل إن أول من آمن برسالة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – كأبي بكر الصديق وأم المؤمنين خديجة ، آمنوا به - صلى الله عليه وسلم – بدليل مكارم أخلاقه فقط ؛ فلم يكن قد نزل القرآن ، ولم يروا معجزات للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم – إنما كانت مكارم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – وأخلاقه العظيمة وكماله البشريُّ هو دليلَهم الوحيد لصدق النبيِّ واستحالة أن يفتريَ الكذب ، وقد فُتحت بلاد كثيرة وانتشر فيها الإسلام بأخلاق المسلمين من الصدق والأمانة والسماحة والعدل ومكارم الأخلاق التي رآها الناس في تلك البُلدان ، تؤكد لهم أن أصحاب هذه الأخلاق أصحاب عقيدة صحيحة ودين عظيم.

وإن أكثر ما يُدخل الناس الجنةَ تقوى الله وحُسن الخلق ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ ، فَقَالَ : «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ، فَقَالَ : «الفَمُ وَالفَرْجُ» . رواه أحمد والترمذيُّ وحسَّنه الألبانيُّ.

وقد قال ابن القيم – رحمه الله – "مدارج السالكين" (2/ 294) : "الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ ، زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ".

وقد ربط النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين إسلام المرء وأخلاقه ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : «خَيرُكُم إسْلامًا أحَاسِنُكُم أَخلاقًا إِذَا فَقُهوا» رواه البخاريُّ في الأدب المفرد "الصحيحة" (1846) .

وقد تحدَّث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – في أحاديثَ كثيرةٍ عن أهمية الأخلاق بالنسبة للمؤمن ، وأنها ترفع درجاته ؛ فالأخلاق الحسنة علامة على كمال الإيمان ، وحُسن الخُلق هو أساس الخيرية والتفاضل بين الناس يوم القيامة ، وحسنو الأخلاق هم أحب الناس وأقربهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم – مجلسًا يوم القيامة ؛ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا» رواه الترمذيُّ وصحَّحه الألبانيُّ.

وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إِنَّ الْمُؤمِن ليُدرِكُ بِحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم» رواه أحمد وأبو داود ، وصحَّحه الألبانيُّ.

وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من شيءٍ يوضَع في الميزانِ أثقلُ من حُسن الخُلق ، وإن صاحب حُسن الخُلق لَيَبْلُغ به درجة صاحب الصوم والصلاة» رواه الترمذيُّ وصحَّحه الألبانيُّ.

وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - التفاوت في الإيمان بين المسلمين بحُسن الخُلق ، فأحسنُهم خُلقًا هو أكملُهم إيمانًا ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : «أَكْمَلُ الْمُؤمِنينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِياركُمْ خيارُكم لِنِسَائِهِم» رواه أحمد ، والترمذيُّ وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وإن سوء الخلق يأكل الحسناتِ ، كما أن حُسن الخُلق يرفع الدرجات ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.

وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ وَتَصَّدَّقُ غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ :«لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَار[2] مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» رواه أحمد والبخاريُّ في الأدب المفرد ، وصحَّحه الألبانيُّ.

وانظر إلى قَسَمِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم - : فعن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «وَاللهِ لا يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ» ، قيل : ومن يا رسول الله؟ قال : «الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» متَّفق عليه.

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» رواه أبو داود وابن ماجهْ والترمذيُّ وقال : حديث حسن.

فصلَّى الله وسلَّم على من شهد له ربُّه تبارك وتعالى قائلاً : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].

نَزَلَ الْأَمِينُ بِأَمْرٍ "اقْرَأْ" أَحْمَدٌ = حَرِّرْ عُقُولَ النَّاسِ أَنْتَ إِمَامُ

أَنْتَ الرَّسُولُ لِفَكِّ أَغْلَالِ الْوَرَى = فَلْيَخْسَأِ الطُّغْيَانُ وَالْأَصْنَامُ

اقْرَأْ وَأَحْيِ الْعِلْمَ وَانْشُرْ نُورَهُ = وَلْيَخْسَأِ الْكُفْرَانُ وَالْأَوْهَامُ

وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ أَتْمِمْ نُورَهَا = لِلدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ أَنْتَ خِتَامُ

 


[1] رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِم وَصَحَّحهُ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة ، وقال ابن عبد البرِّ : هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره مرفوعًا.

[2] الأَثْوَار : جمع ثور ، وهو القطعة من الأَقِط ، وهو الجبن المجفف الذي يُتخذ من مخيض لبن الغنم.