الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن الصورة الطبيعية للمجتمع أن تتكوَّن لَبِناته من الأسرة ، التي هي عبارة عن أب وأمٍّ وأولاد ، وهكذا تسير الحياة منذ بداية الخليقة ، حيث كانت عمارة الأرض مشاركةً بين الرجل والمرأة ، كلٌّ منهما يقوم بدوره ؛ فقد خلق الله تعالى الزوجين الذكر والأنثى ، وبثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً ، وجعل بينهما مودَّة ورحمة ؛ حتى تعمَّر الأرض وتستمر الحياة عليها .
إلى أن أتى زمان ليس بالبعيد افتعل شياطين الإنس قضايا كفيلة بتدمير الجنس البشري لو استجاب لهم البشر ، من أهمها قضية المرأة وحقوقها ، ولو كانت تُهمُّهم المرأة وحقوقها حقيقةً لعالجوا مشكلاتها وقضاياها في سياق تماسك المجتمع ، الذي هي عماده بما وهبها الله من عطف أنثويٍّ ، هو سرُّ نجاح المرأة في بناء الأسرة ، والحفاظ عليها ، وعلى تماسكها ، ومن ثم الحفاظ على تماسك المجتمع .
ولكنهم اقتطعوا المرأة من سياق الأسرة ، وبَذَروا فيها بذور النِّدِّية والتمرُّد والأنانية ليقضوا على العطف الأُنثويِّ لديها ، وجعلوها قضية ، يطالبون لها بحقوق غريبة عنها ويدعونها للتمرد على دورها وواجباتها ، فجعلوا بيتها الذي هو مملكتها سجنًا لها ، لا تحصل على حقوقها إلا بالخروج منه ، وجعلوا الرجل سجَّانها ، الذي يُذلُّها ويتحكَّم فيها ، لا الحامي لها ، ودَعَوها أن تدخل في صراع مع ذلك الرجل المتغطرس السالب لحقوقها لتكون ندًّا له وتساويه في كل شيء ؛ بل ألغوا تصنيف الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، إلى النوع الاجتماعيِّ ليلغوا أي فوارق بينهما ، ذلك الرجل العدو الذي هو زوجها أو أبوها أو ابنها أو أخوها أو عمها أو خالها... إلخ .
فلو كانت القضية قضية حقوق مسلوبة ، فلماذا يجعلون المرأة تسعى لمساواة غير عادلة ، تتشبَّع فيها بالأنانية ، حيث تنافس الرجل في مزاياه دون مسؤولياته ، وتطالب الرجل أن يشاركها في مسؤولياتها دون مزاياها .
لا شك أن موضوع قضايا المرأة وحقوقها ، وإقامة مؤتمرات ، وقرارات ، وتوصيات ، وتهديدات للدول التي لا تلتزم بها حتى لو لم تقتنع بكل ذلك ، أو رأت أن تطبيق القرارات دون مراعاة البُعد الاجتماعي سيؤدِّي إلى مشكلات مجتمعية ، لم يكن ليشغل هذه المساحة إلا بجعلها قضية محورية في العالم .
لقد افتعلوا قضية المرأة المهضومة الحقوق ، قضية مزعجة تتطلَّب ذرف الدموع ، والحديث المأساوي عن المرأة التي يحرمونها من مضاجعة من تشاء ، أو يحرمونها من الإجهاض إن هي حملت من الزنا... إلخ، إنها قضية كبرى يتوقَّف عليها مصير العالم ، تحتاج إلى نقاش دائم ، وأناس ينتصرون لهذه القضية الحقوقية ، ويدافعون عنها ، ويعيشون لها ؛ بل ربما صار عملهم الوحيد الذي يرتزقون منه هو هذه القضيةَ ؛ قضية المرأة .
ومن ثم ترى قضية المرأة حاضرة باستمرار في كل وسائل الإعلام ، إذا ما أصاب امرأة مشكلة ، يتم توصيفها سريعًا في خانة الاضطهاد ، وتُبرَز في كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والمواقع الإخبارية ، الجميع يتحدث عن تلك المرأة المظلومة التي تعاني بسبب كونها امرأة ، ولو تعرَّض رجل لنفس الموقف لما حدث شيء من ذلك .
ولو تأمَّلت لوجدت أنه لا وجود لهذه القضية من الأصل ؛ فهناك مظالمُ تقع على المرأة في المجتمعات المختلفة ، وكذلك هناك مظالم تقع الرجل ، ولو كانوا يريدون إفادة الجنس البشري وحل مشكلاته ، لتناولوا هذه المظالم من خلال واقع الأسرة المتماسكة المتكاملة المتعاونة ؛ ولكنهم جعلوا قضية المرأة عبارة عن حقها في الاقتراب من صفات الرجل قدر الإمكان ، وإلغاء الفوارق البيولوجية والسيكولوجية ، وحقيقة القضية في هذا الجانب أنه احتقار لذات المرأة ؛ بدليل أنهم يريدون القضاء على الفوارق البيولوجية ، ويتحدَّثون عن النوع الاجتماعي (الجِندر) ، فلو كانوا يقتنعون بأن الأنثى قيمة ، فلماذا جعلوا قضيتهم إلغاء وصفها بالأنثى والمرأة ؟
تخيَّل أن هذه القضية التي جعلوها مدار الكون هي برعاية المنظَّمات الدولية ، ومن أكبر الأدلة على أن قضايا المرأة مفتعَلة أن لكل مجتمع ثقافته وخصوصيته ، وهناك اختلافات ثقافية هائلة في العالم بين المجتمعات ، ولو كانت هناك حقوق مهضومة للمرأة في مجتمع ، فبالتأكيد لن تكون نفس الحقوق في كل العالم مختلِف الثقافات ، فلو هناك حرص من المنظَّمات الدولية والنسوية على حقوق المرأة ، فلتدرس كل مجتمع ، ويكون علاج القضية في إطار المجتمع أجمع ، أمَّا أن يوضع للمرأة وضع خاصٌّ دون سائر الأسرة والمجتمع ، وفرض حلول دولية وَفْقَ النظرة الغربية على كافة المجتمعات ، فما ذلك إلا افتعال قضية وتضخيمها دون إرادة الحل والعلاج ، ومن يفعل ذلك يتعامى عن الأسباب الحقيقية ، التي تحتاج إلى الشمول في معالجتها .
لكن ما يحدث أن الأمم المتحدة جعلت قضية المرأة وحقوقها من وجهة النظر الغربية ، وتفرض القرارات باعتبار ذلك النموذج الحضاري هو النموذج الوحيد في العالم ؛ لتلتزم به الدول كلها ، وذلك بإضفاء صفة العالمية على ما يقدّم بهذا الشأن ، وإجبار العالم على تنميط ثقافاته وَفْقًا لذلك النموذج ، فارضًا معاييره على أنها مبادئ وقواعد مستقرة ومسلَّم بها على نطاق عالمي .
فهل حقوق المرأة في مجاهل إفريقيا هي نفسها في أوروبا ؟ وهل المرأة المسلمة مثل المرأة الملحدة أو النصرانية أو اليهودية ؟
بالطبع لا ، ولا يعقل ذلك ؛ ولكنهم بافتعال القضايا جعلوا حقوق المرأة ليست – مثلاً - أن تجد المرأة الأرملة أو المطلَّقة الرعاية كي تربِّي أولادها ، أو أن تجد وظيفة تحفظ لها كرامتها وعفافها ، أو أن تحل مشكلات العنوسة ، وهلم جرًّا .
ومن الأدلة أيضًا على افتعالهم لقضايا المرأة أنهم جعلوا المرأة المضطهدة هي المرأة التي تراعي بيتها وزوجها وأبناءها ، وهي المرأة التي لا تنافس الرجال في أعمالهم ، ولا تلاحقهم في شقائهم بوسائل المواصلات المزدحمة ، وهي المرأة التي يتزوج زوجها معها غيرها ، نعم الزواج فقط ، أما لو زنا وعشق ، فهذا حقه ، ما دام بالرضا دون اغتصاب ، ولو سألتهم فالتعدد زواج بالرضا ؟ وجدتَ سيلاً باتهام من ترضى بعلاقة شرعية في إطار الزواج بأنها أَمَة ورَضِيت بالعبودية!
خالصة القول : إن قضايا المرأة وحقوقها كلها قضايا مفتعلة ، عبارة عن ضغوط على الدول لتحقيق النظرة الغربية للمرأة بوصفها نموذجًا أوحد يطبَّق على كل المجتمعات ، دون اعتراف بالخصوصية الثقافية للمجتمعات حينما يتشدقون بالتنوع الثقافي العالمي ، فكل نظرتهم لهذه القضايا المفتعلة وما بها من حقوق وحرية وَفقًا للمفاهيم الغربية ، لا يسمحون بمراعاة الدين والعُرف والتقاليد المجتمعية والثقافية ، ولا يسمحون للمرأة نفسها أن تطالب بالحقوق التي تحتاجها ، والحياة التي تريد أنْ تعيشها .
حقوقها في قضاياهم تلك منحصرة في حرية المرأة في جسَدِها تهَبُه مَن شاءَتْ ، وتتحرَّك بإرادتها متى وكيف شاءت ، ولا اعتبار لدين أو أب أو زوج أو أخ يكون له ولاية أو رأي في علاقاتها أو زواجها ، الطبيعي أو الشاذ ، كل هذا يدعون له أنصار هذه القضايا التي جعلوها مركز القضايا في الكون دون أدنى خجل أو حياء .
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.