الجِندر والمجتمع الإسلاميمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

 تسعى الدراسات التي تتناول الجِندر (النوع الاجتماعي) للحديث عن الهوية الجندرية بأنها شعور نابع من الإنسان في إحساسه بنفسه ، من حيث كونُه ذكرًا أو أنثى ، ومن ثم فالهوية الجندرية ليس أساسها لحظة الميلاد ؛ بل التأثيرات التي يُحدثها العديد من العوامل النفسية والاجتماعية ، وهي التي تكوِّن أو تعمل على تشكيل نواة الهوية الجندرية ، وأن هذه العوامل ليست ثابتة دون حراك ؛ بل إنها تتغير وتتَّسِع وتنمو مع نمو الطفل ؛ بمعنى أن التقسيم الطبيعي للبشر إلى ذكر وأنثى بالاعتماد على الناحية البيولوجية هو تقسيم خاطئ ، وليس هناك طبيعي وشاذ ؛ كلها أمور مكتسبة يستسيغها الإنسان بحسب شخصيته ومجتمعه ، بعيدًا عن النواحي البيولوجية الطبيعية .

وقد وضع المفهوم العلمي لكلمة "الجندر" أو "الجنوسة" العالم النفسي روبرت ستولر ؛ تمييزًا وتفريقًا بين الركائز البيولوجية للاختلافات الجنسية المشهورة بين الذكر والأنثى ، غير أن "الجندرية" مبنية على الأدوار أو المراحل المنبثقة عن الحقوق والواجبات والالتزامات التي ترتبط بالتحول الاجتماعي متصلة بالنوع الاجتماعي (الجندر) ، من حيث تحديد المجتمع لأدواره تبعًا للفترة التاريخية ، وكذلك طبقًا للمفهوم الاجتماعي والثقافي بشكل يسمح بالتغيير له في فترات مستقبلية ؛ أي : الصورة التي يرى فيها المجتمع النوع الاجتماعي ، دلالة وهُوِيةً ذات بُعد نفسي واجتماعي معًا من خلال نظرته لكل من الرجل والمرأة ، من حيث الأسلوب والأفكار ، والحاجة إليهما مجتمعيًّا وإستراتيجيًّا في ضوء التخطيط للتنمية ، بعيدًا عن النظرة التقليدية المجتمعية التقليدية المركوزة في الجانب البيولوجي فقط .

إن سعي المنظمات النسوية للتنظير كثيرًا حول الجندر والنوع الاجتماعي ، مهما حاولوا الحديث عنه بصورة برّاقة ، فإنه في النهاية يصادم الإسلام ويقف ضد المجتمع الإسلامي من خلال ربطه بخطط التنمية وحضور المرأة المسلمة.

لقد كانت الوسائل لدخول "الجندر" إلى المجتمع الإسلامي عن طريق الحركات النسوية التي ظهرت مدافعة ومهتمَّة بقضايا المرأة ، ودفعها إلى حيز العلاقات الدولية تحت دوافع ، منها : حصول المرأة على حقوقها المهضومة ، والتحرر من الهيمنة الذكورية التسلطية ، والمساواة بين الرجل والمرأة ، وخروج المرأة من تبعية الرجل ، غير أن قضية الجندر (النوع الاجتماعي) كمصطلح يرفض التصنيف البيولوجي الطبيعي للإنسان من حيث الجنس (ذكر وأنثى) ؛ بل على النوع الاجتماعي الذي يشمل المذكَّر والمؤنث ، وقد فرض نفسه - أو تم فرضه - لدخول مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية .

    لقد جاءت انطلاقة الحركة النسوية المعاصرة من الولايات المتحدة الأمريكية ؛ لتطالب في أوائل ظهورها بالحفاظ على الحقوق الفردية للمرأة ومكتسباتها ، وأهمها المطالبة بمساواة المرأة بالرجل ، لتنطلق في طموحها عبر العقود الأخيرة إلى محاولة فرض تطبيق الجندر ، الذي يلغي الفروق بين الرجل والمرأة ؛ فكلاهما يقعان تحت مظلّة الهوية الجندرية، طبيعية كانت أو شاذة.

وإن محاولتهم لفرض الجندر على المجتمعات الإسلامية والتطابق بين المرأة والرجل، هم يعلمون أن المجتمعات الإسلامية لن تتقبَّله ، ولا يمكن تطبيقه في ظل المجتمع الإسلامي ؛ بيد أنهم يضغطون لإدخال "الجندر" إلى المجتمع الإسلامي عبر المنظمات الأممية الدولية ، الحكومية منها وغير الحكومية ، والمعاهد والمراكز البحثية ، ووسائل الإعلام.

فترعى العديد من المنظمات الأممية الدولية الفكر الجندري ، وتسوِّغه وتسوِّقه ، وتضغط لتمريره في المجتمعات الإسلامية عبر العديد من المنظمات التي تُعنى بتنفيذ توصيات الأمم المتحدة ، خاصَّةً المنظَّماتِ التي تُعنى بقضايا المرأة ، ومنها المنظمات ذات التوجُّه العام ، وهذه المنظمات كلها تلتقي في تمرير الوسائل التي تريد تمريرها من خلال المؤتمرات والاتفاقيات الدولية الملزِمة للدول.

ومنذ إعلان الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ، وضعت الأساس لجعل الأسرة والمرأة قضيتها العالمية ، وقد عقدت أولى دوراتها بعد الإعلان بعامين عندما بدأت مؤتمراتها الدولية حول المرأة والأسرة بعنوان : "تنظيم الأسرة" ، الذي رفضته الدولة المصرية في العهد الملكيِّ ، ثم عقدت مؤتمرها الثاني في المكسيك عام 1957م ؛ من أجل بناء مرجعية نسوية جديدة ، وقد دعت من خلاله إلى حرية الإجهاض للمرأة ، والحرية الجنسية للمراهقيـن والأطفال ، وتنظيم الأسرة لضبط عدد السكان في العالم الثالث ، وكما فشل المؤتمر الأول فشل الثاني أيضًا .

لقد كانت انطلاقتها من المؤتمر الرابع الذي عقدته الأمم المتحدة في "نيروبي" عام 1985م بعنوان : "إستراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة" ، ثم مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية ، الذي عُقد عام 1994م.

وبعدها بعام عقد مؤتمر المرأة في بكين عام 1995م ، حاولوا من خلاله تمرير مفهوم "الجندرية" في الفِقرة التاسعةَ عشرةَ من المادة الرابعة الواردة في إعلان المؤتمر ذاته ، حين جاء النص الإنجليزي ليعلن عن تحطيم كل التفرقة "الجندرية" ، وحرصوا على ترجمة الجندرية إلى اللغة العربية إلى "الذكر والأنثى" ، ولهذا لم تشغل بال المؤتمرين من الحاضرين والحاضرات من العرب ، غير أن اللفظة بذاتها تكررت بعد الإفصاح عنها في هذا المؤتمر مئات المرات ، وكانت هذه المرة الأولى لنقل لفظ "الجندر" إلى المجتمع الإسلامي .

ثم كان التطوُّر النوعي بمحاولة وثائق مؤتمر روما إنشاء المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة في عام 1998م تجريم القوانين التي تعاقب على الشذوذ الجنسي ، بتبنِّي المفهوم الذي أوردته الدول الغربية من أن كل تفرقة أو عقاب على أساس الجندر يمثِّل جريمة ضد الإنسانية ، لذا ؛ تتبنَّى هيئة الأمم المتحدة ، والولايات المتحدة الأمريكية ، وكل دول القارة الأوروبية ، فرض عولمة المرأة في شقَّيها الاجتماعيِّ والثقافيِّ ، وفرضه على بقية دول العالم ، خاصة المجتمعات الإسلامية ، حيث إن التوصيات والوثائق التي توقِّع عليها الـدول والحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة هي مُلزِمة لها ، إضافة إلى أن الأمم المتحدة تقوم بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذ ما جاء في توصيات هذه المؤتمرات الدولية ووثائقها ، بما في ذلك المراقبة والمتابعة لمدى التزام الدول والحكومات بما فيها.

وهكذا يفرضون ثقافتهم على المجتمعات الإسلامية دون اعتبار التنوع الثقافي العالمي الذي يتشدقون به في أدبياتهم ، وقد سعت الأمـم المتحدة لتنفيذ الجندرية وتوصيات تلك المؤتمرات عن طريق العصا والجزرة ، أو الترغيب والترهيب.

فتتابع الأمم المتحدة تنفيذ التوصيات والقرارات بشكل قوي ، من خلال عقد مؤتمرات مع الأطراف الحكومية والمنظمات غير الحكومية كل عام ، إضافة إلى تخصيص بعض جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمتابعة تطبيق الوثائق الدولة ، ففي عام 1999م عُقدت جلسة خاصة للجمعية العمومية بعنوان " مؤتمر القاهرة للسكان " ، وفي عام 2000م عُقدت جلسة خاصة للجمعية العمومية للأمم المتحدة بعنوان " المرأة 2000 : مساواة الجندر ، التنمية والسلام " ، وقد وضعت آلية دولية لها صفة الإلزام ، وتتابع تنفيذها الأمم المتحدة ، وهذه الآلية عبارة عن ترهيب للدول غير الجادة في التعامل معها والالتزام ببنودها ، من خلال توقيع العقوبات الدولية .

أما الترغيب فتُغري الأمم المتحدة من خلال نفس الآلية الدول التي ستمتثل لقوانينها بمنحها معونات أو قروضًا ، وتحاول الأمم المتحدة الضغط على بعض الدول الإسلامية - مثل مصر والمغرب والأردن وغيرها من الدول العربية والإسلامية - بشأن إجراء بعض التغييرات أو التعديلات في قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في هذه البلاد ، وهو تغيير متفق عليه يأتي في سياق الالتزام بالأجندة الدولية باعتبارها جزءًا منها ، وقد وافقت هذه الدول عليها في المؤتمرات الدولية.

وبالتأكيد هذه التغييرات لا تعبِّر عن حاجة ماسة داخلية لشعوب هذه الدول العربية والمسلمة ؛ ولكنها استجابة لقرارات الأمم المتحدة لفرض الثقافة الغربية والجندر على المجتمعات الإسلامية.

وللحديث بقية.

*****